الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فالجواب على هذا من ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن الصيام ركن من أركان الإسلام، ولا يصح إسلام المرء إلا بصيامه، ومن جحد وجوبه فقد كفر([1]). وقد فرض الله صيامه على المسلم فرض عين، فقال عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون}، وقال عز ذكره: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:١٨٣-١٨٤] هذا في كتاب الله، أما في سنة رسوله محمد ﷺ ففيما رواه ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله ﷺ قال: «بني الإسلام على خمس: شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان»([2]) وما رواه طلحة بن عبيدالله أن أعرابيًّا جاء إلى رسول الله فقال: يا رسول الله أخبرني ماذا فرض الله عليّ من الصيام؟ فقال: «شهر رمضان، إلا أن تطوع شيئًا»([3]) فدل هذا حكمًا على أن صيام شهر رمضان ركن في دين المسلم، فلا يصح إسلامه إلا به، فإن جحده فقد كفر بلا خلاف، وأن تركه تهاونًا أصبح مرتكبًا كبيرة عظيمة من كبائر الذنوب، لقول رسول الله فيما رواه أبو هريرة من أفطر من رمضان يومًا بلا عذر لم يقضه صيام الدهر وإن صامه([4]).
الوجه الثاني: من يستثنى من حكم الصيام لسبب مشروع، فيكون بذلك معذورًا لهذا السبب، ومن هؤلاء الشيخ الكبير والشيخة الكبيرة، فلما كبر أنس بن مالك كان يفطر في رمضان، ويطعم عن كل يوم مسكينًا. ومن هؤلاء المرأة المرضع والحامل، وقال بهذا عدد من الصحابة، ومنهم ابن عباس وأنس بن مالك([5])، كما قال به عدد من التابعين، ومنهم إبراهيم النخعي والحسن البصري([6]) وهو مذهب الأئمة مالك([7]) والشافعي([8]) وأحمد([9])، وعليهما القضاء والفدية، وهي إطعام كل يوم مسكينًا كيلو ونصف من الطعام السائد في المكان الذي هما فيه، ويلحق بهما في الحكم من يتعرض لعطش أو جوع يضر بالنفس، فيفطر ويقضي، ويطعم مثلهما. كما يعذر من حكم الصيام المرضى الذين يحتاجون إلى متابعة صحية مستمرة كحالات القلب والكلى والربو، على أن يشهد بذلك طبيب عدل بأنهم يحتاجون إلى هذه المتابعة خلال النهار، وعليهم في هذه الحالة الفدية، ولا قضاء عليهم إذا كانت حالاتهم المرضية مستمرة. ومن المعذورين من حكم الصوم العمال الذين يعملون في أعمال شاقة كعمال المناجم والأحجار والمصانع الكبيرة وما يشبهها، وكان يترتب على تركهم العمل فقدان رزقهم ورزق من يعولون، فعلى هولاء الفدية والقضاء.
الوجه الثالث: من يطيق صيام شهر رمضان ولا يصومه لحداثة إسلامه، وظنه عدم القدرة عليه.
لما قدم رسول الله المدينة كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، وصام يوم عاشوراء، كما كان اليهود يصومونه، مع أمره عليه الصلاة والسلام بمخالفتهم بيوم قبله أو بعده، ثم بعد هذا فرض الله عليه الصيام في الآية السابقة في قوله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} إلى قوله عز وجل: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}، فكان من شاء من الصحابة صام، ومن شاء منهم أطعم مسكينًا، ثم بعد هذا نزل قوله عز وجل: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، فبهذا الحكم فرض الله الصيام على المقيم الصحيح، ورخص فيه للمسافر والمريض، ومن في حكمهما، كما ذكر آنفًا، وقد اختلف الفقهاء من السلف رحمهم الله في تأويل قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} فقالت طائفة من الصحابة والتابعين أن فرض الصوم نزل على وجه التخيير لمن يطيق بين الصيام وبين الفدية، وأنه نسخ عن المطيق بقوله: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وقوله تعالى: {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ}، وقالت طائفة أخرى من الصحابة والتابعين أنها غير منسوخة، بل هي ثابتة على المريض والمسافر، فلهما أن يفطرا وعليهما القضاء والفدية.
ويستفاد مما ذكر أن الله عز وجل لما فرض الصيام رخص في حكمه لمن يطيقه ومن لا يطيقه، فكان بعض الصحابة في بداية نزول الحكم يصوم، وبعضهم لا يصوم، إلى أن نزل قوله عز وجل: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، فكان حينئذٍ على المقيم الصحيح أن يصوم، ولا يستثنى من هذا الحكم إلا المسافر والمريض ومن في حكمهما، وهذا من باب التدرج في الحكم، وتأليف القلوب للدين، وتقريب أحكامه للنفوس، والارتقاء بها إلى حكم هو خير لها من واقع اعتادت عليه.
ولعل هذا ينطبق في الظاهر على سؤال السائل؛ فالمسلم الذي سبق أن انشرح صدره بالإسلام وعرف أحكامه، لا يرى في الصيام مشقة، بل يرى فيه خيرًا عظيمًا. أما المسلم في بداية إسلامه، فيمكن التدرج معه في الحكم، فيستثنى من الصيام مدة قليلة، ويلزم بالفدية مع شرح معنى الصيام له، وما فيه من المنفعة والخيرية له في دينه ودنياه، كما قال الله عز وجل: {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ}، فيكون حكمه إذًا حكم المسلم الذي أفطر في رمضان في بداية فرضه، ثم صامه بعد أن تبينت له أحكام الصيام، وانشرح صدره بالإسلام. والقول بالتدرج في الحكم في مسألة أو مسألتين لا يعني بأي حال إطلاق هذا الحكم فيحتار المسلم في بداية إسلامه ما يناسبه منه، ويترك ما لا يناسبه منه، فهذا غير صحيح؛ لأن مناط الأحكام العمل بموجبها، وإذا اقتضى الأمر الاستثناء من هذا الحكم أو ذاك، فيكون هذا الاستثناء مبناه على الضرورة، وغايات الشريعة ومقاصدها.
وخلاصة المسألة: أنه يمكن التدرج في الحكم مع المسلم في بداية إسلامه، فيستثنى من الصيام مدة قليلة، ويلزم بالفدية مع شرح معنى الصيام له، فيكون حكمه حكم المسلم الذي كان يفطر في رمضان في بداية فرضه، ثم صامه بعد أن تبينت له أحكام الصيام، وانشرح صدره بالإسلام. والقول بالتدرج في الحكم في مسألة أو مسألتين لا يعني بأي حال إطلاق هذا الحكم، فيختار المسلم في بداية إسلامه ما يناسبه منه وما لا يناسبه منه.
والله -تعالى- أعلم.
([1]) بدائع الصنائع للكاساني ج٢ ص٧٥ والهداية وشروحها ج٢ ص٢٣٣.
([2]) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان باب قول النبي بني الإسلام على خمس برقم (٨).
([3]) أخرجه البخاري في كتاب الصوم باب وجوب صوم رمضان برقم (١٨٩١).
([4]) أخرجه البخاري في كتاب الصوم باب إذا جامع في رمضان ج٤ ص١٩٠.
([5]) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج١ ص٢٨٩.
([6]) الجامع لأحكام القرآن ج١ ص٢٨٩.