سؤال يق ول: ‏إن بعض الذين يذهبون للسياحة في البلاد الأوربية ينفقون أموالًا طائلة، رغم أن بعضهم يستدين هذه الأموال، ويسأل عما إذا كان يجوز لهؤلاء أن يفعلوا ما فعلوا.

إنفاق الأموال الطائلة للسياحة في البلاد الأوربية والاستدانة لذلك

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، أما بعد:

فإن المال هبة من الله، يمنُّ بها على من يشاء من عباده؛ ليرى -وهو العليم بما كان، وما سيكون، لو كان كيف يكون- أيشكره فينفقه فيما أمره به، وأحله له، أم يكفره فينفقه فيما حرم عليه؟.

والمال زينة وفتنة، ‏أما زينته فقول الله -عز وجل-: ‏{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46]، والزينة أداة للاستمتاع بها مدة معينة في المأكل والمشرب والملبس والمركب، وهذه سرعان ما تنتهي، إما بنهاية صاحب المال، أو بنهاية المال لأي سبب من الأسباب.

وأما فتنة المال فقد بيَّنها الله بقوله -عز ذكره-: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15]، والفتنة هنا بمعنى الابتلاء والاختبار، والمبتلَوْنَ بالمال يتفاوتون في إدراكهم لهذا الابتلاء، فمنهم من يدرك ما يجب عليه في ماله من حقوق الله وحقوق عباده، ومنهم من يظن أن ما أُعطي له من المال مجرد حظ أصابه، فلا يدرك حينئذٍ ما يجب عليه، ومثل هؤلاء أصحاب الجنة (البستان) في اليمن حين خلف لهم مورثهم هذه الجنة بعد أن كان يقوم عليها ويديرها إدارة صالحة، فكان يقسم غلتها ثلاثة أقسام:‏ قسم يجعله في إصلاحها، وقسم يجعله لعياله، وقسم يتصدق به، فلما مات صاحبها استهجن أولاده ما كان يفعل أبوهم، فمنعوا ما كان يتصدق به، فأرسل الله عليها آفة أهلكت ما فيها، فحُرموا منها، فتلاوموا على ما فعلوا، وفي هذا قال-عز وجل-: ‏{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِين * وَلَا يَسْتَثْنُون * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُون * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيم} [القلم: 17-20] إلى قوله: ‏{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُون} [القلم: 30].

ومن فتنة المال: البغي، والبطر به، والتفاخر فيه، كما فعل قارون حين بغى في الأرض الفساد، ولم يحسن بماله كما أحسن الله إليه، فكان عاقبته الخسف به وبماله، فلم يكن له حينئذٍ من نصير من دون الله، كما قال -عز وجل-: ‏{فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِين} [القصص: 81].

وقد علمنا من وقائع غابر الزمان وحاضره وشواهده أنه ما من صاحب مال بغى به، أو أنفقه فيما حرَّمَ الله عليه إلا كان عاقبته الخسران؛ ذلك أن فعل المحرمات عصيان لله، وإفساد للأرض التي جعلها صالحة لحياة عباده، كما قال-عز وجل-: ‏{وَلَا تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف: 56].

وكما يكون إنفاق المال في المحرمات سببًا لزواله يكون سببًا لزوال الأمم من أساسها، إذا رضيت بإنفاقه جهارًا في المحرمات، كما حدث للأمم البائدة من الآشوريين والسومريين والإغريق والرومان واليهود، وكما حدث لملوك الطوائف المسلمين الذين أفسدوا المال في الأندلس، فكان عاقبة ما جرى لهم زوال سلطانهم، وضياع ممالكهم، وفقدان هيبتهم وعزتهم، فلم يبق لهم إلا أطلال فيها عِبَرٌ للمعتبرين، وذكرى للمستذكرين.

وإنفاق المال يجب أن يكون حصرًا في الضرورات، وفي المباحات، أما إنفاقه في الضرورات فمنه ما مناطه حق الله، وحق صاحبه، وحق عباده، أما ما مناطه حق الله فيه فأهمه وأوجبه إخراج الزكاة التي فرضها الله على كل صاحب مال، وجعل هذه الفريضة قرينة الصلاة، فمن تركها فقد ترك دينه، وأصبح ممن عناهم الله بقوله -عز وجل-: ‏{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيم * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُون} [التوبة: 34-35].

وأما حق صاحبه فيه فمعلوم بما يجب عليه من الإنفاق على طعامه وشرابه وملبسه ومسكنه ومركبه، وغير ذلك من حاجاته في غير سرف أو مخيلة.

وأما حق عباد الله فحق الزوجة في النفقة، وحق الآباء وإن علوا، والأولاد وإن سفلوا، وحق غيرهم من ذوي الأرحام المستحقين حكمًا لهذه النفقة، وإنفاق صاحب المال على نفسه ومن يعول يجب أن يكون في حدود الحاجة؛ لأن ما زاد عنها يعد إسرافًا وتبذيرًا، وقد تحدث العلماء بالتفصيل عن تحريم إفساد المال، ففي المذهب الحنفي:‏ أن كل واحد منهي عن إفساده، فيحرم على المرء فيما اكتسبه من الحلال الإفساد والسرف والخيلاء والتفاخر والتكاثر، أما الإفساد فحرام؛ لقول الله  -تعالى-: ‏{وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِين} [القصص: 77]، وأما الإسراف فحرام؛ لقول الله  -تعالى-: {وَلَا تُسْرِفُواْ} [الأنعام: 141]، وقوله: ‏{وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان: 67]، ففي هذا دليل على أن الإسراف والتقتير حرام، وأن المندوب إليه ما بينهما، وقد عدوا من الإسراف الأكل فوق الشبع؛ لأنه لا منفعة فيه، بل فيه مضرة، فيكون ذلك بمنزلة إلقاء الطعام في الزبل أو ما هو شر منه، ولأن ما يزيد عن مقدار حاجته من الطعام فيه حق غيره.

واستدلوا على ذلك بما روي أن رجلًا تجشأ في مجلس رسول الله -ﷺ-، فغضب رسول الله -ﷺ-، وقال:‏ (نح عنا جشاءك، أما علمتَ أن أطول الناس عذابًا يوم القيامة أكثرهم شبعًا في الدنيا)([1])، كما استدلوا بأن ابن عمر -رضي الله عنهما- لما مرض سأل النبي -ﷺ-عن سبب مرضه، فقيل: ‏إنه أتخم، فقال: ‏(ومم ذاك)؟، فقيل: من كثرة الأكل، فقال-ﷺ-: ‏(أما إنه لو مات لم أشهد جنازته، ولم أصل عليه)([2]).

وفي مذهب الإمام مالك:‏ أن من السفه إضاعة المال، وهذا حرام يخل بالدين([3]).

وفي مذهب الإمام الشافعي: أن إضاعة المال حرام مطلقًا، كالزيادة في العمارة على غير الحاجة؛ لأن النهي عن الزيادة محمول على تحريم التعاظم والتفاخر، وأوردوا في ذلك أحاديث، منها: ما روي أن رسول الله -ﷺ-قال: ‏(إذا أراد الله بعبد شرًا خضر له في الماء والطين)([4]).

وفي مذهب الإمام أحمد: ‏تحرم إضاعة المال إذا لم يكن فيه مصلحة، كإلقاء المتاع في البحر إذا خيف الغرق([5]).

قلت:‏ والأصل في تحريم إفساد المال الكتاب، والسنة، والإجماع، والمعقول.

أما الكتاب: فالآيات كثيرة، منها: قول الله  -تعالى-: ‏{وَلَا تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5]، والعلة في هذا: أن السفهاء لا يؤتمنون على المال؛ لأنهم يضيعونه في غير ما أوجب الله من إنفاقه في الوجوه الشرعية، ومنها قوله -عز وجل-: ‏{وَاللّهُ لَا يُحِبُّ الفَسَاد} [البقرة: 205]، فما لم يحبه الله فهو محرم، وقوله -عز ذكره-: ‏{إِنَّ اللّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِين} [يونس: 81]، وهذا يقتضي الحكم أن عمل المفسدين غير صالح، وما كان غير صالح فهو محرم.

وأما السنة فما رواه المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه-أن رسول الله -ﷺ-قال: ‏(إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات، وكره لكم قيل وقال:‏وكثرة السؤال، وإضاعة المال)([6]). وهذا النهي يقتضي التحريم؛ لأن إضاعة المال وإفساده محرم بنص الكتاب في الآيات المذكورة، وفي الآيات الأخرى من قول الله -عز وجل-عن الإسراف:‏ {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلَا تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِين} [الاعراف: 31]، وقوله -جل وعلا- عن تحريم التبذير، ووصف المبذرين بأنهم إخوة الشياطين: ‏{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الاسراء: 26-27]، ووصف المبذرين بالشياطين كافٍ لتحريم إضاعة المال بالتبذير، سواءٌ في الضرورات كالأكل أو الشرب، أو في المباحات كالمركب والملبس.

أما الإجماع: فقد أجمعت الأمة في سلفها وخلفها على أن إضاعة المال في السفه أو في الإسراف محرم.

وأما المعقول: فإن من دلائل العقل أن ينفق المرء ماله فيما ينفعه، فإذا أفسده في غير منفعته فهذا دليل على ضعف عقله وإدراكه، فإذا بنى دارًا لسكنه أكثر من حاجته دل على إفساده لماله؛ لأن المراد من السكن سد الحاجة، وما زاد عليها فهو سفه، وإذا اشترى طعامًا لغير حاجته فيعد فعله من السفه والتبذير المحرم، ومن دلائل العقل: أن المرء لا يضر نفسه، ومن الضرر: أن يفسد ماله، ويضعه في غير حاجته، ومن المعلوم أن المال يضيع ويهلك إذا أفسده صاحبه وبذَّره؛ فيتحول حينئذٍ من الغنى إلى الفقر، ومن الشبع إلى الجوع، ومن الري إلى العطش، وهكذا.

وينبني على هذا أنه لا يجوز لهؤلاء الذين ذكرهم السائل إنفاق أموالهم في سرف ومخيلة، فهذا مما حرمه الله عليهم، ناهيك بأن استدانتهم للمال لصرفه في السياحة -ولو كانت مباحة- مما لا يجوز لهم؛ لأن أمر الدَّيْنِ خطير، والأصل أن المرء لا يستدين إلا لضرورة، والسياحة من المباحات، وليست-بأي حال-من الضرورات، فيأثم من يفعلها، وهو غير قادر عليها، كما يأثم من ينفق فيها فوق حاجته وضروراته، والله المستعان.

والله -تعالى- أعلم.

([1])  أخرجه الحاكم في المستدرك ج4 ص135، حسن مثله الألباني في صحيح الترمذي، (٢٤٧٨).

([2])  ذكره السرخسي في المبسوط ج30 ص264 وما بعدها.  قلت:‏ ويشك في أن ابن عمر-وهو المعروف بعبادته-كان يأكل أكثر من حاجته، فقد يكون المراد غيره.

([3])  الذخيرة في فروع المالكية للقرافي ج2 ص194، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج7 ص191-193.

([4])  قليوبي وعميرة ج4ص95، والفتاوى الكبرى الفقهية لابن حجر الهيثمي ج1 ص269، وذكره الألباني في الجامع الصغير وزيادته بلفظ “إذا أراد الله بعد هوانًا أنفق ماله في البنيان والماء والطين)، وقال:‏ “ضعيف”، انظر:‏ الحديث رقم (337) في ضعيف الجامع.

([5])  المغني مع الشرح الكبير ج10 ص532 .

([6])  أخرجه البخاري(٢٤٠٨) أخرجه مسلم (٥٩٣)، باختلاف يسير فتح الباري ج5 ص83 .