الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه ورسوله الأمين، محمد وعلى آله وصحابته ومن تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن يوم عرفات يوم عظيم، وموسم من مواسم الخير، التي خص بها الله هذه الأمة، قال فيه رسول الله ﷺ: (ما من يوم يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟)([1])، وقال فيه -عليه الصلاة والسلام-: (ما رؤي الشيطان في يوم هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه يوم في عرفة، وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العظام يوم بدر)([2])، والمسلم حين يقف في هذا اليوم يقف بين يدي ربه، ويشعر أنه يناجيه، ويستمد من هذه المناجاة قوته في عقيدته، وفي مختلف مساره في الحياة الدنيا.
وقد وقف في هذا اليوم رسول الله ﷺ مع جموع المسلمين ولم يزل واقفًا حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلًا حتى غاب القرص([3])، والمسلمون يستنون بسنته، فقد قال -عليه الصلاة والسلام-: (خذوًا عني مناسككم)([4])، وليس أعظم من أن يتبع المسلم سنة نبيه ورسوله ﷺ في كل شعيرة من شعائر دينه، ومع وجوب هذا الاتباع؛ بل فرضيته، رفع الله الحرج عن عباده، وجعل لهم من أمرهم يسرًا، فقال- عز ذكره-: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وقال-جل ثناؤه-: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقال- تقدست أسماؤه وصفاته-: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقال رسوله محمد ﷺ لأمته وهو يبلغها الأحكام التي أمره الله بإبلاغها: (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا، فإني بعثت مبشرًا لا منفرًا)([5]).
وقال -عليه الصلاة والسلام-: (إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)([6])، وفي إطار هذه الأحكام تتباين الآراء في مسألة العسر واليسر، والحرج وعدمه، والاستطاعة وعدم الاستطاعة، وكل ذلك في إطار تطبيق هذه الأحكام.
ومسألة زمن الوقوف بعرفات من المسائل التي اجتهد فيها الفقهاء -رحمهم الله- وكل منهم له دليل وله حجته، ولكن الأصل الذي يجمعهم هو الحرص على تطبيق الأحكام، مع الأخذ في الحسبان ما يطرأ من النوازل، وما يجد من الحوادث في أثناء مسار المسلم في حياته، فالذين حجوا مع رسول الله ﷺ في حجة الوداع لم يتجاوزوا مائة ألف على الأكثر، وقد تزايد هذا العدد على مدار السنين حتى وصل في هذا الزمان إلى ثلاثة ملايين فأكثر، وقد يزداد هذا العدد فيكون أضعافًا مضاعفة؛ ذلك أن المسلمين يتكاثرون أجيالًا بعد أجيال ناهيك بما يحدث في هذا الزمان، وما قد يحدث في سنوات قادمة في تطور وسائل النقل، وسرعة الاتصال بين المسلمين؛ مما يجعل من المهم بل من الواجب البحث عما ييسر حجهم، وذلك في إطار أصول الأحكام وفروعها، والفقهاء متفقون على أن الوقوف بعرفة بعد زوال الشمس إلى طلوع الفجر من أول أيام النحر:
ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: أن وقت الوقوف بعرفة من زوال الشمس في ذلك اليوم إلى أن يطلع الفجر من أول أيام النحر، فمن وقف بها في هذا الوقت وهو عالم بها أو جاهل أو نائم أو يقظان أو مفيق أو غير مفيق أو مغمى عليه، أو مر مرورًا بها ولم يقف، أصبح مدركًا للحج ولا يجري عليه الفساد بعد ذلك([7]).
وفي مذهب الإمام مالك: أن وقت الوقوف بعرفات يبدأ من زوال الشمس في ذلك اليوم، وينتهي بطلوع الفجر يوم العيد، ومتعلق الإجزاء في ذلك اليوم فلا بد من الوقوف في الليل ولو لحظة، فلو أنشأ الحاج الإحرام ليلة العيد جاز؛ لأن الحج عرفة ووقته باق، ولو فارق عرفة ولم يكن حاضرًا وقت الغروب ولا عاد بالليل تداركًا فقد فاته الحج، وعلى هذا فإن إدراك يوم عرفة عند الإمام مالك وأصحابه يكون بالوقوف فيها ليلا، فلا يجزئ الوقوف بها نهاراً، وفي قول في المذهب: يجزئ النهار من الليل إذا كان بعد الزوال، والليل من النهار لمن فاته الوقوف بالنهار كما هو([8]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: أن وقت الوقوف بعرفة يبدأ من زوال الشمس إلى طلوع الفجر يوم النحر، ولو اقتصر على الوقوف ليلًا صح حجه على المذهب، ولو اقتصر على الوقوف نهارًا وأفاض قبل الغروب صح وقوفه بلا خلاف، فإن عاد إلى عرفة وبقي بها حتى غربت الشمس فلا دم، وإن لم يعد حتى طلع الفجر فعليه دم([9]).
وفي مذهب الإمام أحمد: أن الوقوف في عرفة من الزوال في ذلك اليوم حتى تغرب الشمس، ليجمع بين الليل والنهار في الوقوف؛ استدلالًا بأن رسول الله ﷺ وقف بعرفة حتى غابت الشمس، فإن دفع قبل الغروب فحجه صحيح؛ لقول رسول الله ﷺ: (من أدرك عرفات بليل فقد أدرك الحج، ومن فاته عرفات بليل فقد فاته الحج فليحل بعمرة وعليه الحج من قابل)([10])، ويؤيد هذا ما رواه عروة ابن مضرس بن أوس بن حارثه بن لام الطائي، قال: أتيت رسول الله ﷺ بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة، فقلت: يا رسول الله، إني جئت من جبل طيء، أكللت راحلتي، وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول الله ﷺ: «من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى يدفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارًا فقد تم حجه وقضى تفثه»([11])، وهذا الحديث مجمع عليه وحكمه أن من وقف بعرفات نهارًا بعد الزوال، أو وقف بها ليلا فحجه صحيح، وقد اختلف الفقهاء فيمن وقف بعد الزوال ثم دفع منها قبل غروب الشمس:
فقال الإمام مالك – كما سبق ذكره -: لا حج له وعليه الحج من قابل.
أما جمهور العلماء فيرون: أن حجه صحيح، ولكنهم اختلفوا في وجوب الدم عليه أهو واجب أم مستحب:
ففي مذهب الإمام الشافعي: ثلاث طرق أصحها على قولين: أظهرهما أنه مستحب. والثاني: أنه واجب، والطريق الثاني أنه مستحب قطعًا، والثالث: إن أفاض مع الإمام فهو معذور وإلا فهو مستحب([12]).
وفي مذهب الإمام أحمد: أن من دفع قبل غروب الشمس عليه دم، وهذا هو المذهب وعليه الأصحاب، وعنه لا دم عليه كواقف ليلًا([13]).
وحاصل أقوال الفقهاء: أن الوقوف بعرفات بعد زوال الشمس إلى غروبها فإن دفع منها قبل الغروب فحجه صحيح، ولكن عليه دم، فهل هذا للوجوب أم للاستحباب؟
من الفقهاء من قال بوجوب الدم؛ لأنه جبر لترك الواجب، ومنهم من قال بالاستحباب؛ استدلالًا بأن رسول الله ﷺ قال لعروة بن مضرس في الحديث المشار إليه آنفًا من «أفاض من عرفات ليلًا كان أو نهارًا فقد تم حجه وقضى تفثه»، ولم يأمره بدم؛ فدل هذا على أن الدم ليس بواجب؛ ولأن الليل والنهار وقت لإدراك الوقوف بعرفة، ثم ثبت أنه لو وقف بها نهارًا دون الليل لم يلزمه دم([14]).
قلت: إن إفاضة الحجيج بعد غروب الشمس يوم عرفة مشهد عظيم، يشعر فيه المسلم بعظمة الله، حين يرى تلك الجموع تجدد إيمانها بتوحيد الله وطاعته وذكره، بعد أن منّ الله عليهم بالوقوف بعرفة في هذا اليوم. وفي هذا المشهد تصغر أمامهم زخارف الدنيا، وهم يتجهون إلى المشعر الحرام، يبتغون ذكر الله على نعمه، وعلى ما هداهم، وما منّ به عليهم بأداء ركن من أركان دينهم.
وفي تلك اللحظات التي يتطلع فيها الحجيج إلى مبتغاهم في الوصول إلى مزدلفة يشعرون بشيء من الضيق والحرج بسبب الزحام، الذي يسببه انصرافهم في وقت واحد، مع تسابق المركبات وضجيجها، وهو ما كان رسول الله ﷺ ينهى عنه، ويقول للناس: (أيها الناس، عليكم السكينة، فإن البر ليس بإيضاع الإبل)([15]) أي بسرعة سيرها.
ومن أجل التخفيف من شدة الزحام، وما يصاحبه من ضيق وحرج على بعض الحجاج من النساء والشيوخ والمرضى، بسبب بقائهم ساعات طويلة على ظهر مراكبهم، وما يسببه ذلك من أعباء على جهات الأمن وحراس الحجاج ومديري سيرهم وتنقلاتهم، ناهيك بأن المشاعر تقع في رقعة ضيقة، فمع قيادة المملكة العربية السعودية منذ تأسيسها على يد الملك المؤسس عبدالعزيز- رحمه الله- قد يسرت للحجيج حجهم في أثناء تنقلهم بما أنشأته من طرق وكباري وأنفاق، وتطلب ذلك إنفاق المليارات من الريالات على نحو يفوق الوصف، ويعجز عنه العد، حتى لا يكاد البصر يصدق ما يراه من المنشآت الخدمية للحجيج، مع كل ذلك تبقى رقعة المشاعر محدودة، ومكة حرسها الله تقع بين جبال كثيرة ووديان عديدة، فلعل من الحل البحث في أصول أحكام الحج وفروعها -كما سبق ذكره- ومن ذلك الترخص في زمن الإفاضة من عرفات، فيكون (للإمام) أن يجعل هذه الإفاضة على دفعتين أو دفعات، منها ما هو قبل الغروب، ومنها ما هو في الليل، خاصة وإن الوقوف يكفي فيه لحظة أو بضع دقائق([16])، فلم يبق حينئذ إلا مسألة الدم على من أفاض قبل غروب الشمس جبرًا للواجب الذي تركه، فعلى رأي بعض الفقهاء -كما ذكر- أن هذا الدم للاستحباب وليس للوجوب، فمن أحب أن يجبر تركه للواجب بدم، فهذا له وإن أرادغير ذلك كان له.
وهو في هذا معذور، إما بترخيص (الإمام) له، وإما بسبب دفع المشقة ودفع الحرج عنه، أما من لم تنله مشقة وليس عليه حرج، وكذلك من لم يرخص له الإمام، فالأفضل أن يبقى في عرفات من زوال الشمس حتى غروبها، ثم يفيض، فهذا هو الأصل.
وخلاصة المسألة: إن الأصل أن يقف الحاج في يوم عرفات من زوال الشمس حتى غروبها، كما فعل ذلك رسول الله ﷺ وقد يحدث من النوازل، ويطرأ من الحوادث ما يجعل من المهم البحث في فروع الأصل، فعدد الحجاج في عهد رسول الله ﷺ ما كان يتجاوز مائة ألف حاج أو أقل، وقد تزايد هذا العدد فوصل في زمننا إلى ثلاثة ملايين أو أكثر، وقد يزداد هذا العدد أضعافًا مضاعفة بسبب تكاثر المسلمين، وسرعة الاتصال بين بلدانهم.
وجمهور الفقهاء متفقون على أن من وقف في عرفات نهارًا بعد زوال الشمس إلى غروبها أو وقف بها ليلا فحجه صحيح، كما أنهم متفقون على أن من وقف بها نهارًا، وأفاض منها قبل غروب الشمس فحجه صحيح، خلافًا للإمام مالك الذي يرى عدم صحة هذا الحج، ولكنهم اختلفوا في وجوب الدم عليه من عدمه، فمنهم من رأى هذا الوجوب جبرًا لترك الواجب، ومنهم من قال بالاستحباب.
ومن أجل التخفيف من شدة الزحام، وما يصاحبه من ضيق وحرج لبعض الحجاج من النساء والشيوخ والمرضى لبقائهم ساعات طويلة على ظهر مراكبهم، وما يسببه كذلك من أعباء لجهات الأمن والمسؤولين عن تسيير الحجاج وتنقلهم؛ من أجل ذلك يمكنه الترخيص في زمن الإفاضة من عرفات، فيكون (للإمام) أن يجعل هذه الإفاضه على دفعتين أو دفعات، منها ما هو قبل الغروب ومنها ما في الليل، فلم يبق حينئذ إلا مسألة الدم على من أفاض قبل الغروب، فهذا للاستحباب (على رأي بعض الفقهاء)، فمن أحب أن يجبر تركه للواجب بدم فهذا له، ومن أراد غير ذلك كان له، وهو في هذا معذور إما بترخيص(الإمام) له، وإما بسبب دفع المشقة والحرج.
والله تعالى أعلم.
([1]) أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة برقم (1348) صحيح مسلم بشرح النووي ج 6 ص 3639.
([2]) أخرجه الإمام مالك في الموطأ ج 1 ص 422 برقم (944)، قال شعيب الأرنؤوط، تخريج شرح السنة، (١٩٣٠): إسناده صحيح، لكنه مرسل.
([3]) أخرجه أبو داود في كتاب المناسك باب صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم برقم(1905) ج 2 ص 130، أخرجه في صحيحه، صحيح ابن خزيمة، (٤/ ٤٤٢).
([4]) أخرجه مسلم في كتاب الحج باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا، وبيان قوله صلى الله عليه وسلم: «لتأخذوا مناسككم» برقم (1297) صحيح مسلم بشرح النووي ج6 ص3516.
([5]) أخرجه مسلم في كتاب الأقضية، باب الأمر بالتيسير وترك التنفير.برقم (1732) صحيح مسلم بشرح النووي ج8 ص4785.
([6]) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم برقم (7288) فتح الباري ج13 ص263،
([7]) الفتاوى الهندية ج1 ص253.
([8]) عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة لابن شاس ج1 ص 205 – 206.
([9]) الحاوي الكبير للماوردي ج5 ص 230.
([10]) كشاف القناع للبهوتي ج2 ص 495، أخرجه ابن الجوزي في ((التحقيق)) (١٣٥٢) واللفظ له، ابن الجوزي، تنقيح التحقيق، (٣/٥٥١)، ضعيف، وأخرجه البيهقي (١٠٠٩٩) مختصراً باختلاف يسير، والدارقطني (٢/٢٤١) مطولاً.
([11]) أخرجه الترمذي في كتاب الحج باب ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج برقم (891) ج 3 ص 238، صححه الألباني في إرواء الغليل، (١٠٦٦).
([12]) روضة الطالبين وعمدة المفتين للإمام النووي ج3ص97، انظر: الحاوي الكبير للماوردي ج5ص234، عرفات المشعر والشعيرة لمعالي الدكتور عبدالوهاب أبو سليمان والدكتور معراج نواب مرزا مجلة البحوث الفقهية المعاصرة العدد 37 ص 63.
([13]) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف في مذهب الإمام أحمد ج4 ص 30.
([14]) الحاوي الكبير للماوردي ج5 ص 234، والحديث سبق تخريجه.
([15]) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ج1 ص 351، قال شعيب الأرنؤوط في تخريج المسند لشعيب، (٢١٨٠٣): إسناده صحيح.
([16]) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة للشيخ عبدالعزيز بن باز ج17 ص260.