العدل في اللغة: ما قام في النفوس أنه مستقيم، وهو ضد الجور([1]). وفي الاصطلاح: إعطاء كل ذي حق حقه([2]).
والحديث عن العدل مما يطول بل يصعب الإحاطة بكل جوانبه في حيز صغير كهذا، فنكتفي بالعموميات لإيضاح معنى العدل وما شرعه الله -عز وجل- لعباده. فالعدل من أسمائه الحسنى وكفى بذلك شاهدًا على معنى العدل، فالله هو العدل. وقوله العدل وحكمه العدل، والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
أما الكتاب: فالآيات التي تأمر بالعدل كثيرة، منها قوله -عز وجل-: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون} [النحل: 90]، وهذه الآية من آيات الأحكام الكبرى، فقد أمر الله -عز ذكره- فيها بثلاثة أوامر:
أولها – العدل: وهذا أمر جامع يشمل كل ما هو عدل من القول أو الفعل، ففي جانب الله يعد توحيده وطاعته عدلًا وأداء الفرائض عدل وأداء كل ما أمر به -عز وجل- عدل.
وفي جانب العباد كف الأذى عن الناس عدل، وقضاء حوائجهم لمن عنده هذه الحوائج عدل، وهكذا في كل أمر يحبه الله ويحبه رسوله r.
وثاني الأحكام: الإحسان: وهذا أيضًا جامع يشمل كل ما يفعله الإنسان من قول أو فعل في جانب الله أو جانب عباده، ففي جانب الله أن يعبد المسلم ربه مخلصًا من قلبه كأنه يراه فإن لم يكن يراه، يؤمن بأنه -عز وجل- يراه.
وفي جانب عباده تعد محبتهم إحسانًا إليهم، فمحبة المسلم منهم محبته لإسلامه، ومحبة غير المسلم منهم أن يكون مسلمًا.
وثالث الأوامر: بإيتاء ذي القربى: والمراد به صلة الأرحام بالقول والفعل، فالقول يشمل محبتهم والدعاء لهم، والفعل بمساعدتهم بالمال لمن كان يحتاج إليه، وفي هذا قال رسول الله r: «إن أعجل الطاعة ثوابًا صلة الرحم، إن أهل البيت ليكونون فجرة فتنمو أموالهم ويكثر عددهم إذا وصلوا أرحامهم»([3]) ولما أمر الله -عز وجل- بهذه الأوامر أتبعها بثلاثة محرمات: أولها: تحريم الفحشاء، وهذا النهي يشمل كل مستقبح أو محرم من الأقوال والأفعال، فالربا محرم وكل وسيلة تؤدي إلى الوقوع في المحرم تعد فحشاء، وإن كانت تعد في ظاهرها صغيرة. المحرم الثاني: المنكر، وأساسه الكفر بالله أو الاستهزاء بآياته أو برسله أو كتبه أو ملائكته، وكل ما كان فيه مخالفة للأوامر، وأوامر رسوله من قول أو فعل حقيقي أو مجازي سري أو جهري. والمحرم الثالث: البغي، وهذا تحريم جامع يشمل كل ما هو مناف للعدل، كالظلم والكبر وغمط العباد حقوقهم بالتطاول عليهم بالقول أو الفعل.
ومن آيات القرآن الكريم في العدل قول الله -عز وجل-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135]، وهذا أمر من الله -عز وجل- لعباده أن يقوموا بينهم بالقسط وهو العدل في كل أمورهم؛ لأن العدل أمر رباني لا يتجزأ، فكما أنه حق للمسلم فهو حق لغيره، فالبغض للمشركين ومن في حكمهم لا ينفي العدل لهم، سواء في القضاء أو في غيره، فقوله -عز وجل-: {وَ اعْدِلُواْ} للتوكيد على العدل وإقامته بينهم، وفي حادثة شريح بن ضبيعة البكري الملقب بالحطم شاهد على هذا التوكيد، فقد أخذه جنود رسول الله r وهو آت للعمرة، وقد سبق أن أتى رسول الله r في المدينة وترك خيله خارجها، فقال إلى ما يا محمد تدعو الناس؟ فقال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، فقال: حسن إلا أن لي أمراء لا أقطع أمرًا دونهم، ولعلي أسلم وآتي بهم، وكان رسول الله r قال لأصحابه: يدخل عليكم رجل يتكلم بلسان شيطان، ثم خرج من عنده، فقال لقد دخل بوجه كافر، وخرج بقفا غادر، فمر بمال المسلمين فساقه معًا، فلما خرج رسول الله r لقضاء العمرة التي أحصر عنها سمع تلبية حجاج اليمامة، فقال (هذا الحطم) وأصحابه، فتوجهوا في طلبه فنزل قول الله -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا} [المائدة: 2]، فما فعله الحطم من الغدر والخيانة وعدم الوفاء بعهده لا يجب أن يكون سببًا لعدم العدل فيه ومنعه وأصحابه من الوصول إلى بيت الله الحرام.
ومن الآيات في العدل قول الله -عز وجل-: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58]، فمع أن الأمانة أمر يشمل كل ما ائتمن الله عباده عليه من طاعته وطاعة رسوله وما ائتمنهم عليه من أداء الحقوق والواجبات فيما بينهم إلا أنها أي الأمانة جزء من العدل، فمن عدل في قوله وفعله فهو أمين، ومن حكم بهواه في قوله أو فعله فهو خائن لا أمانة له… وهكذا، والحكم بين الناس بالعدل أنزل الله به الكتب وأرسل به الرسل دون استثناء، وهو في ديننا الحنيف من الأحكام والقواعد الكبرى، فعلى كل حاكم أنى كان مسماه أو صفته أو منزلته أن يحكم بالعدل، وإلا كان ظالمًا يحكم بهواه؛ كما قال -عز وجل-: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَاب} [ص: 26].
وقد دلت وقائع التاريخ أن العدل سياج وحصن للأمم، وأن الظلم مصدر لهلاكها، وما كانت أمم من الغابرين لتهلك، إلا لأنها عصت أوامر الله بالعدل، فحل فيها الظلم بعد أن سيطر أقوياؤها على ضعفائها، فما كان لها أن تدوم؛ لأنها خالفت سنن الله في خلقه، ومنها إقامة العدل بينهم، ونفي الظلم عنهم.
ومن هذه الآيات في العدل قول الله -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135]، وفي هذه الآية أمر للمؤمنين أن يقوموا بالقسط وهو العدل، ويترتب على هذا القيام أربعة أحكام:
أولها شهادة المرء على نفسه: والمراد به إقراره بما عليه من الواجبات فيما مناطه حق الله عليه، من توحيده وطاعته وطاعة رسوله محمد r فيما أمرا به وما نهيا عنه، وإقراره كذلك بما عليه من الواجبات فيما مناطه حقوق العباد عليه في تعامله معهم وإعطائهم حقوقهم وعدم بخسها.
وثاني الأحكام: شهادة المرء على والديه: فمع أن عليه واجبًا في برهما، فقد أوجب الله عليه الشهادة عليهما؛ لأن العدل من أسس الدين وقواعده، بل إن من أبر البر بهما أن يمنعهما من الظلم الذي قد يقعان فيه، فإذا منعهما منه فقد برهما، وكذلك للأقربين منه، فمع أن للقرابة حقوقًا من جهة النسب والأخوة والمحبة، إلا أن العدل يعلو على هذه الوجوه؛ لهذا لا خلاف بين الفقهاء في شهادة المرء على والديه أو إخوانه أو أقاربه وعدم جواز شهادته لهم، ومع ذلك فقد اختلف في ذلك، فمن الفقهاء من قال بشهادة الأخ لأخيه إذا كان عدلًا، ومنهم من قال: يجوز شهادة الزوج لزوجته، وجواز شهادة الزوجين لبعضهما؛ لأنهما أجنبيان، وعقد الزوجية بينهما معرض للزوال. وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله r رد شهادة الخائن والخائنة وذي الغمر على أخيه فترد شهادته([4]). والمراد به من يكون بينه وبين المشهود عليه عداوة ظاهرة. وبعيدًا عن الخلاف فالحكم واضح، بأن للمرء أن يشهد على والديه وأقاربه، ولا يشهد لهما، والحال كذلك للزوجين وكذا عدم شهادة الوكيل لموكله والولي لمن ولاه.
وثالث الأحكام في الآية: تحريم اتباع الهوى لما في ذلك من الظلم.
وأما الأصل في وجوب العدل في السنة: ففيه أحاديث كثيرة، منها قول رسول الله r: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا»([5]) والقسط هو العدل. وفيها قوله r: «اللهم من ولي أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه. ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به»([6]). ومن الأحاديث قول رسول الله r: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألا وكلكم راع مسؤول عن رعيته»([7])، والمسؤولية هنا تقتضي بالضرورة العدل في أداء المسؤولية، وفيها قوله -عليه الصلاة والسلام-: «إن الله مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار وكله الله إلى نفسه»([8]) وقوله: «لا تزال هذه الأمة بخير ما إذا قالت صدقت، وإذا حكمت عدلت، وإذا استرحمت رحمت»([9]).
وأما الإجماع: على وجوب العدل، فقد أجمعت الشرائع كلها وفي مقدمتها شريعتنا الخالدة على وجوب العدل بين الناس: ذكرهم وأنثاهم، وغنيهم وفقيرهم، وقويهم وضعيفهم، وكبيرهم وصغيرهم. وإن عدم العدل مما يوجب عقاب الله، كما حدث لبعض الأمم الغابرة حين عصت أوامره بالعدل، وقد أثر عن بعض سلف الأمة أن عدل يوم كعبادة أربعين سنة، وذلك لما للعدل من صلاح العباد في دينهم وسائر أحوالهم.
وقد سبق القول بأن الله -عز وجل- لما جعل داود خليفة في الأرض (أي رسولًا) أمره أن يحكم بين الناس بالحق ولا يتبع الهوى؛ لما فيه من الإضلال عن سبيل الله.
أما الحكم الرابع في الآية: فهو الوعيد لمن يلوي في الشهادة، ويميل فيها إلى أحد الخصوم، أو يعرض عن الأمر الذي أمره الله به من القسط وهو العدل، وهذا الوعيد مستفاد من قوله -عز وجل-: {فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135].
وأما المعقول: فإن العدل ميزان في الحياة، ذلكم أن الله -عز وجل- لما خلق السموات والأرض، وخلق المخلوقات، أقام العدل فيما خلق، فقد رفع السموات بغير عمد، وجعل الجبال رواسي للأرض، وجعل إنزال المطر بقدر معلوم، وجعل جريان البحار والأنهار بقدر معلوم، وسير الكواكب في نظام معلوم لا يتغير ولا يتبدل، فمن كمال حكمته أن جعل العدل ميزان الحياة، وهذا الميزان في كينونة الكون في أصوله وفروعه، فكما أنه يجب أن يكون بين العاقل من المخلوقات، فإنه كذلك في غير العاقل منها، فالشاة الجلحاء تقتص يوم القيامة من الشاة القرناء، فالأولى لا تملك قرونًا تدافع بها عن نفسها، والأخرى تملكها، فإذا استعملت هذه القرون في ظلم الأولى وجب القصاص منها؛ كما قال ذلك رسول الله r([10])، كما أن المركوبة من الدواب تقتص من راكبها إذا ظلمها في ركوبه أو في عدم إطعامه لها، وفي هذا روى سهل بن معاذ عن أبيه عن رسول الله r أنه مر على قوم وهو وقوف على دواب لهم ورواحل، فقال لهم: « اركبوها سالمة، ودعوها سالمة، ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق، والأسواق فرب مركوبة خير من راكبها، وأكثر ذكرًا لله -تعالى- منه»([11]). وإذا كان هذا في المخلوقات العاقلة وغير العاقلة، فإن ميزان العدل في الماديات كذلك، فالسفن والطائرات وسائر المركبات لا تسير إلا إذا كانت الأحمال التي عليها متوازنة، فإذا اختل هذا التوازن فسدت هياكلها وأحمالها، فاقتضى ما ذكر أن العدل ميزان في كل مسارات الحياة، فإذا اختل هذا الميزان اختل هذا المسار، وفوق كل ذلك يدرك العاقل، ويؤمن بأن الله -عز وجل- ما أمر بأمر أو نهى عن نهي إلا وفيه عدل بين عباده رحمة بهم.
قلت: ولما كان العدل أساسًا في حياة العباد اقتضى ذلك بالضرورة أن يكون العبد عدلًا في علاقته في خاصة نفسه وعدلًا في عامة علاقته بغيره. فأما علاقته في خاصة نفسه فكل، ما مناطه علاقته بأهله وولده وعلاقته بغيره. فأما علاقته بأهله فمع أنه قد لا يستطيع تحقيق العدل بينهم على النحو المراد؛ لما قد يتعرض له من نوازع النفس وهواها، إلا أنه مع ذلك محكوم بوجوب العدل بينهم رغم هذه النوازع، وفي هذا قال -عز وجل-: {وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129]، وفيه قال رسول الله r -وهو العادل بين نسائه- (اللهم إن هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك)([12]). وجاء الوعيد الشديد لمن لم يعدل بين أهله، فمن ذلك قول رسول الله r: (إذا كان عند الرجل امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه مائل)([13]) والعدل المراد المساواة بينهما في السفر والإقامة والنفقة والعلاج والمبيت، حتى إن الإمام مالك – رحمه الله- قال: إذا أغلقت الزوجة الباب ضررًا له فله الذهاب إلى الأخرى، وإن قدر على المبيت في حجرتها فعل؛ لأنها وإن ظلمته لم تسقط حقها([14])، ومثل ذلك المساواة في القسم، ففي حديث هشام بن عروة عن أبيه قال: قالت عائشة –رضي الله عنها-: يا ابن أختي كان رسول الله r لا يفضل بعضنا على بعض في القسم في مكثه عندنا، وكان كل يوم إلا وهو يطوف علينا جميعًا، فيدنو من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ التي يومها فيبيت عندها([15]).
وأما العدل بين أولاده، فمحكوم بقول الله -عز وجل- {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل: 90]، ومقتضى العدل أن يساويهم في التربية والنفقة والعلاج والعطية، سواء كانوا ذكورًا أم إناثًا (مع مراعاة ترتيب المواريث) أو قصرًا أو مرضى أو معاقين، والأصل في هذا الآية السابقة، وما رواه بشير أبو النعمان أنه أتى بالنعمان إلى رسول الله r فقال: إني نحلت ابني هذا غلامًا كان لي، فقال له رسول الله r: «أكل ولدك نحلته مثل هذا؟» فقال: لا، فقال رسول الله r: «فأرجعه»([16]) ومع أن العدل بين الأولاد حُكْمٌ حَكَمَ الله به وحكم به رسوله، إلا أنه حكم اقتضته أيضًا طبيعة العلاقة بين الوالد وولده، ففي التفرقة بينهم ظلم وجور يرتد إليه ويرتد إليهم أنفسهم بما يورثه من العداوة والبغضاء والقطيعة، ولعل سبب الكثير من المشكلات بين الأولاد في هذا الزمان يرجع إلى عدم فهم الوالد لواجبه في العدل بينهم، الأمر الذي جعل الولد – والعياذ بالله- يقتل والديه أو أحدهما، ويقتل أخاه بعد أن يزين له الشيطان سوء عمله. ومع ما قاله بعض العلماء من التفرقة في العطية بين البررة والمتأدبين وبين الفسقة من ولده، إلا أن العدل واجب بينهم، فيصلح الله به الفاسق من فسقه، ويزيد البار من بره.
وأما العدل في عامة علاقة العبد بالعباد فكثيرة يعرفها من دينه بالضرورة، ومنها بذل النفع لغيره من إخوانه بما يستطيعه؛ لقول رسول الله r (الخلق كلهم عيال الله، فأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله)([17]) ومنها الرفق بهم وعدم الإضرار بهم بالقول أو الفعل، وعدم الظن السيئ بهم، وعدم التجسس عليهم أو الاستهزاء بهم، وعدم التعدي عليهم أو خيانتهم، فكل ذلك من العدل الذي أمر الله به مما يطول ذكره.
وأما العدل في علاقة العبد بولايته على غيره، فمن ذلك عدل الحاكم في رعيته، وعدل القاضي في قضائه، وعدل الشاهد في شهادته، وعدل الوصي فيمن هو وصي عليه، وعدل الولي في ولايته. فأما عدل الحاكم في من هم تحت ولايته فمحكوم بالآية السابقة، وهي أمر الله له بالعدل، كما أنه محكوم بقول رسول الله r: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)([18])، وهذه المسؤولية توجب عليه العدل بينهم وعدم ظلمهم، كما توجب عليه الدفاع عنهم، والرفق بهم، وحفظ حقوقهم، ورعاية أمورهم في كل ما مناطه حياتهم ومعاشهم. كما توجب عليه مشاورتهم، حيث أمر الله بذلك في قوله -عز وجل- لنبيه محمد r: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159]، واستشعارًا لهذه المسؤولية وعظمها كان الخلفاء الراشدون -رضوان الله عليهم- ومن كان على نهجهم يعظَّمون هذه المسؤولية، وفي قصصهم العديد من الشواهد التي تفوق العد والحصر، وما كان الإسلام ليبلغ مبلغه في الأرض إلا لأنهم فعلوا ما أمرهم الله به من العدل، وحتى يكون الأمر أبلغ في استشعار المسؤولية. روى عبدالرحمن بن شماسة([19]) قال: أتيت عائشة أسألها عن شيء، فقالت ممن أنت؟ فقلت: رجل من أهل مصر، فقالت: كيف كان صاحبكم لكم في غزاتكم هذه؟ فقال: ما نقمنا منه شيئًا إن كان ليموت للرجل منا البعير فيعطيه البعير، والعبد فيعطيه العبد، ويحتاج إلى النفقة فيعطيه النفقة، فقالت: أما إنه لا يمنعني الذي فعل في محمد بن أبي بكر أخي أن أخبرك ما سمعت من رسول الله r يقول في بيتي هذا: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به)([20]).
كما روى أبو الأشهب عن الحسن([21]) قال: عاد عبيد الله بن زياد معقل بن يسار المزني في مرضه الذي مات فيه، قال معقل: إني محدثك حديثًا سمعته من رسول الله r لو علمت أن لي حياة ما حدثتك، إني سمعت رسول الله r يقول: (ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)([22]).
وأما العدل في القضاء، فمن أهم القواعد في الإسلام لما فيه من صيانة الأنفس والأعراض والأموال وإحقاق الحقوق ورد المظالم لأهلها، فأول من تولى القضاء في الإسلام رسول الله r وقد بيَّن الله له ما سبق أن أنزله على نبيه داود في وجوب العدل بين الناس والحكم بينهم بالحق، في قوله -عز ذكره-: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]، كما أنزل الله عليه قوله -تقدست أسماؤه-: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ} [النساء: 105]، وقوله -عز ثناؤه-: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49].
وعدل القاضي في القضاء يشمل العدل بين الخصوم في الجلوس عنده، وفي استماعه ونظرته لهم، وعدم استضافته لأحدهم دون الآخر أو قبول هديته، ما لم تكن العادة قد جرت بينهما قبل ذلك. وقد وضع عمر بن الخطاب القواعد التي يجب على القاضي اتباعها، لكي يكون عادلًا في حكمه، وذلك في كتابه إلى أبي موسى الأشعري يقول: (بسم الله الرحمن الرحيم. من عبدالله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى عبدالله بن قيس. سلام عليك. أما بعد: فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فافهم إذا أدلى إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك. البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر. والصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا. ولا يمنعك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك، وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق؛ فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة. ثم اعرف الأشباه والأمثال، فقس الأمور عند ذلك، واعمد إلى أقربها إلى الله وأشبهها بالحق، واجعل لمن ادعى حقًا غائبًا أو بينة أمدًا ينتهي إليه، فإن أحضر بينته أخذت له حقه. وإلا استحللت عليه القضية فإنه أنفى للشك وأجلى للعمى. المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودًا في حدٍّ، أو مجربًا عليه شهادة زور، أو ظنينًا في ولاء أو نسب، فإن الله تولى منكم السرائر ودرأ بالبينات والأيمان، وإياك والقلق والضجر والتأذي بالخصوم والتنكر عند الخصومات، فإن الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر ويحسن به الذخر، فمن صحت نيته وأقبل على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه شانه الله، فما ظنك بثواب غير الله -عز وجل- في عاجل رزقه وخزائن رحمته. والسلام([23]).
وفي قصة الإمام علي مع القاضي شريح واليهودي الذي التقط درع الإمام علي حين سقط من راحلته الدليل على عظمة العدل في القضاء، وأن الإسلام لا يفرق بين إنسان وآخر؛ فقد ذكر أبو نعيم في الحلية هذه القصة بقوله: وجد علي بن أبي طالب –كرم الله وجهه- درعًا له عند يهودي التقطها فعرفها، فقال: درعي سقطت عن جمل له أورق. فقال اليهودي: درعي وفي يدي. ثم قال اليهودي: بيني وبينك قاضي المسلمين، فأتوا شريحًا. فلما رأى عليًّا قد أقبل تحرف عن موضعه، وجلس علي فيه. ثم قال علي: لو كان خصمي من المسلمين لساويته في المجلس، ولكني سمعت رسول الله r يقول: لا تساووهم في المجلس. وساق الحديث، قال شريح: ما تشاء يا أمير المؤمنين؟ قال: درعي سقطت عن جمل لي أورق فالتقطها هذا اليهودي: قال شريح: ما تقول يا يهودي؟ فقال: درعي وفي يدي. قال شريح: صدقت، والله يا أمير المؤمنين إنها لدرعك، ولكن لا بد لك من شاهدين، فدعا قنبرًا والحسن بن علي فشهدا أنها درعه.
فقال شريح: أما شهادة مولاك فقد أجزناها، وأما شهادة ابنك فلا نجيزها، فقال علي: ثكلتك أمك، أما سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله r: (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة). قال: اللهم نعم. قال: أفلا تجيز شهادة سيد شباب أهل الجنة؟ ثم قال لليهودي: خذ الدرع. فقال اليهودي: أمير المؤمنين جاء معي إلى قاضي المسلمين فقضى لي ورضي. صدقت والله يا أمير المؤمنين، إنها لدرعك سقطت عن جمل لك التقطتها. أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله r. فوهبها له علي –كرم الله وجهه- وأجازه بتسع مئة وقتل معه يوم صفين([24]).
وأما العدل في الشهادة فالأصل أن يكون الشاهد عدلًا في نفسه؛ لأنه بشهادته يبيِّن صاحب الحق من الخصوم، والأصل فيه قول الله -تعالى-: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2]، وقوله -عز وجل-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِين} [الحجرات: 6]، فاقتضى هذا أن يكون الشاهد موصوفًا بالصلاح والدين، فلا تقبل إذا شهادة الفاسق، ولا الزاني، ولا من يرتكب الكبائر، ولا من عرف بالكذب، أو اشتهر بسوء الأخلاق، إذا كان على تلك الحال فلم يتب من فسقه أو سوء حاله، والأصل فيه قول رسول الله r: (لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا محدود في الإسلام، ولا ذي غمر([25]) على أخيه)([26]) وللفقهاء تفصيل في مسألة عدالة الشاهد:
فالجمهور منهم على وجوب الصلاح فيه من أداء الصلاة واجتناب المحرمات وترك المنكرات، وكل ما يفسد حاله.
ويرى الأحناف: أن العدالة المطلوبة في الشاهد هي العدالة الظاهرة، أما عدالته الحقيقية فتعرف من خلال السؤال عن حاله. وذلك بتزكيته وتعديله إذا طلب خصمه ذلك، ولكن العدالة الظاهرة لا تكفي إذا كان مناط الحكم الحدود والقصاص، فالواجب على القاضي عدم الاكتفاء بها([27]).
قلت: والعدالة المطلوبة في الحاكم والقاضي والشاهد حكم عام في كل ولاية (رغم اختلاف الأسماء)، فالعدل مشروط في كل من يتولى ولاية من ولايات العباد، ومن ذلك من يؤمهم في صلاتهم، أو يقوم بجباية زكاتهم، أو يشهد على بداية صيامهم وبداية فطرهم وبداية حجهم، أو يعمل في أي عمل مناطه مصالحهم؛ فالموظف أنى كان مسماه أو رتبته يجب أن يكون عدلًا في نفسه؛ لأن عمل الفاسد لا يمكن أن يكون نافعًا لمن ولي أمرهم، فالمرتشي لا يمكن أن يكون صالحًا للولاية، والمزور كذلك، ومثلهما كل سيء في أخلاقه.
كما أن حكم العدالة شرط في كل من يتولى ولاية خاصة، مثل نظار الأوقاف والأولياء والأوصياء والوكلاء، وكل من كان على شاكلتهم ممن يلي أمرًا من أمور العباد.
والأصل في ذلك عموم الآيات والأحاديث ومقاصدها، فمن الآيات قول الله تعالى-: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة: 83]، وقوله -عز ذكره-: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النحل: 90]، وقوله تقدست أسماؤه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا} [الأحزاب: 70]، وقوله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحشر: 18].
فالقول الحسن والعدل والتقوى جماع شامل لكل مفردات الخير والبعد عن الشر، فمن يتق الله لا يمكن أن يظلم عباده أو يبخسهم حقوقهم أو يتنقص منهم، ومن الآيات قول الله -عز وجل-: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوب} [الحج: 32]، وقوله -عز ذكره-: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} [الحج: 30]، فالعدل من شعائر الله. ومـن يقوم به يعظم هذه الشعائر، ومن الآيات قول الله-عز وجل-: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِين} [الشعراء: 215]، وفي هذا أمر يشمل كل مكلف بأمر من أمور العباد، فمن تكبر أو تجبر عليهم فقد ظلمهم؛ فلا يستحق الولاية عليهم، وقد شدد رسول الله r على ذلك، فقال: (من لا يرحم الناس لا يرحمه الله)([28])، وقال -عليه الصلاة والسلام-: (المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله)([29]) وفي حديث آخر (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجته كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة)([30]) والآيات والأحاديث ومقاصدها في هذا المعنى كثيرة، وهي في مبانيها ومعانيها ومقاصدها تشدد على رعاية عباد الله، وحفظ أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، وهذا الحفظ لا يقوم به إلا من كان عدلًا في نفسه، وموصوفًا بالصلاح في دينه وخلقه.
([1]) لسان العرب، لابن منظور ج11 ص430، والمعجم الوسيط ص588.
([2]) التعريفات، للجرجاني ص42.
([3]) كنز العمال حديث رقم (6986)، قال الألباني، السلسلة الصحيحة (٢/٦٧١): [فيه] أبو الدهماء البصري قال ابن حجر: مقبول وله شاهد.
([4]) أخرجه الإمام أحمد في المسند ج3 ص121، قال شعيب الأرنؤوط في تخريج مشكل الآثار (١٢/ ٣٥٦): سنده حسن.
([5]) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل. صحيح مسلم شرح النووي ج6 ص510، رقمه(1827).
([6]) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل، صحيح مسلم شرح النووي ج6 ص512-513، رقمه(1828).
([7]) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل، صحيح مسلم شرح النووي ج6 ص514، رقمه(1829).
([8]) أخرجه ابن ماجه في كتاب الأحكام، باب التغليظ في الحيف والرشوة، سنن ابن ماجه ج2 ص775، رقمه(2312)، حسنه الألباني في صحيح ابن ماجه (١٨٨٤).
([9]) أخرجه أبو يعلى في مسنده رقم (4040)، قال الطبراني في المعجم الأوسط (١/٢٤٣): لم يرو ثابت الأعرج عن أنس حديثا غير هذا، ولا رواه عن ثابت إلا إسحاق بن يحيى بن طلحة تفرد به عبد الرحمن بن أبي الرجال.
([10]) ونص الحديث عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «يقتص الخلق من بعضهم، حتى الجلحاء من القرناء، وحتى الذرة من الذرة» رواه أحمد في المسند ج2 ص363.
([11]) رواه الإمام أحمد في المسند ج5 ص65، قال شعيب الأرنؤوط في تخريج المسند لشعيب (١٥٦٢٩): حسن إلى قوله: ولا تتخذوها كراسي.
([12]) أخرجه أبو داود في كتاب النكاح، باب في القسم بين النساء برقم (2134) ج2 ص209، قال الحاكم، المستدرك على الصحيحين (٢٧٩٩): صحيح على شرط مسلم.
([13]) أخرجه أبو داود في كتاب النكاح، باب في القسم بين النساء برقم (2133) ج2 ص209، قال ابن حجر العسقلاني، بلوغ المرام (٣١٥): إسناده صحيح.
([14]) الذخيرة في فروع المالكية للقرافي ج4 ص227- 228.
([15]) أخرجه أبو داود في كتاب النكاح، باب في القسم بين النساء برقم ( 2135) ج2 ص209، حسنه الألباني في إرواء الغليل (٧/٨٥).
([16]) أخرجه مسلم في كتاب الهبات، باب كراهية تفضيل بعض الأولاد في الهبة برقم (1623) ج 7 ص 4416.
([17]) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ج 8 ص413. قال الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة ج4 ص372 برقم (1900) «ضعيف».
([18]) أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب الجمعة في القرى والمدن برقم (893) فتح الباري ج2 ص441.
([19]) هو عبدالرحمن بن شماسة بكسر المعجمة وتخفيف الميم بعدها مهملة، المهري، بفتح الميم وسكون الهاء، المصري، ثقة من الثالثة، مات سنة إحدى ومئة أو بعدها، تقريب التهذيب ص 342.
([20]) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل ، وعقوبة الجائر ، والحث على الرفق بالرعية والنهي عن إدخال المشقة عليهم برقم (1828) صحيح مسلم بشرح النووي ج8 ص 5101.
([21]) أبو الأشهب هو جعفر بن حبان بمهملة وتحتانية ثقيلة ، والحسن هو البصري . فتح الباري ج13 ص 136.
([22]) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب استحقاق الوالي الغاش لرعيته النار برقم (142) صحيح مسلم بشرح النووي ج1 ص854.
([23]) تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، لابن فرحون المالكي ج1 ص51.
([24]) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم الأصفهاني ج4 ص149.
([25]) الغمر: هو الحقد، النهاية في غريب الحديث والأثر ج3ص 384.
([26]) أخرجه أبو داود في كتاب الأقضية، باب من ترد شهادته برقم (3601) ج3 ص298، قال أحمد شاكر في تخريج المسند لشاكر (١١/١٤٥): إسناده صحيح.
([27]) بدائع الصنائع، للكاساني ج6ص 267- 271 والقوانين الفقهية، لابن جزي ص 202-203 ومغني المحتاج، للشربيني الخطيب ج4ص 426 -428 والمغني مع الشرح الكبير، لابن قدامة ج12ص 28- 33.
([28]) أخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب رحمته ﷺ بالصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك، برقم (2319) صحيح مسلم بشرح النووي ج10 ص 6136.
([29]) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله برقم (2564) صحيح مسلم بشرح النووي ج10 ص 6573.
([30]) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم برقم (2580) صحيح مسلم بشرح النووي ج10 ص 6594.
العدل في اللغة: ما قام في النفوس أنه مستقيم، وهو ضد الجور([1]). وفي الاصطلاح: إعطاء كل ذي حق حقه([2]).
والحديث عن العدل مما يطول بل يصعب الإحاطة بكل جوانبه في حيز صغير كهذا، فنكتفي بالعموميات لإيضاح معنى العدل وما شرعه الله -عز وجل- لعباده. فالعدل من أسمائه الحسنى وكفى بذلك شاهدًا على معنى العدل، فالله هو العدل. وقوله العدل وحكمه العدل، والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
أما الكتاب: فالآيات التي تأمر بالعدل كثيرة، منها قوله -عز وجل-: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون} [النحل: 90]، وهذه الآية من آيات الأحكام الكبرى، فقد أمر الله -عز ذكره- فيها بثلاثة أوامر:
أولها – العدل: وهذا أمر جامع يشمل كل ما هو عدل من القول أو الفعل، ففي جانب الله يعد توحيده وطاعته عدلًا وأداء الفرائض عدل وأداء كل ما أمر به -عز وجل- عدل.
وفي جانب العباد كف الأذى عن الناس عدل، وقضاء حوائجهم لمن عنده هذه الحوائج عدل، وهكذا في كل أمر يحبه الله ويحبه رسوله r.
وثاني الأحكام: الإحسان: وهذا أيضًا جامع يشمل كل ما يفعله الإنسان من قول أو فعل في جانب الله أو جانب عباده، ففي جانب الله أن يعبد المسلم ربه مخلصًا من قلبه كأنه يراه فإن لم يكن يراه، يؤمن بأنه -عز وجل- يراه.
وفي جانب عباده تعد محبتهم إحسانًا إليهم، فمحبة المسلم منهم محبته لإسلامه، ومحبة غير المسلم منهم أن يكون مسلمًا.
وثالث الأوامر: بإيتاء ذي القربى: والمراد به صلة الأرحام بالقول والفعل، فالقول يشمل محبتهم والدعاء لهم، والفعل بمساعدتهم بالمال لمن كان يحتاج إليه، وفي هذا قال رسول الله r: «إن أعجل الطاعة ثوابًا صلة الرحم، إن أهل البيت ليكونون فجرة فتنمو أموالهم ويكثر عددهم إذا وصلوا أرحامهم»([3]) ولما أمر الله -عز وجل- بهذه الأوامر أتبعها بثلاثة محرمات: أولها: تحريم الفحشاء، وهذا النهي يشمل كل مستقبح أو محرم من الأقوال والأفعال، فالربا محرم وكل وسيلة تؤدي إلى الوقوع في المحرم تعد فحشاء، وإن كانت تعد في ظاهرها صغيرة. المحرم الثاني: المنكر، وأساسه الكفر بالله أو الاستهزاء بآياته أو برسله أو كتبه أو ملائكته، وكل ما كان فيه مخالفة للأوامر، وأوامر رسوله من قول أو فعل حقيقي أو مجازي سري أو جهري. والمحرم الثالث: البغي، وهذا تحريم جامع يشمل كل ما هو مناف للعدل، كالظلم والكبر وغمط العباد حقوقهم بالتطاول عليهم بالقول أو الفعل.
ومن آيات القرآن الكريم في العدل قول الله -عز وجل-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135]، وهذا أمر من الله -عز وجل- لعباده أن يقوموا بينهم بالقسط وهو العدل في كل أمورهم؛ لأن العدل أمر رباني لا يتجزأ، فكما أنه حق للمسلم فهو حق لغيره، فالبغض للمشركين ومن في حكمهم لا ينفي العدل لهم، سواء في القضاء أو في غيره، فقوله -عز وجل-: {وَ اعْدِلُواْ} للتوكيد على العدل وإقامته بينهم، وفي حادثة شريح بن ضبيعة البكري الملقب بالحطم شاهد على هذا التوكيد، فقد أخذه جنود رسول الله r وهو آت للعمرة، وقد سبق أن أتى رسول الله r في المدينة وترك خيله خارجها، فقال إلى ما يا محمد تدعو الناس؟ فقال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، فقال: حسن إلا أن لي أمراء لا أقطع أمرًا دونهم، ولعلي أسلم وآتي بهم، وكان رسول الله r قال لأصحابه: يدخل عليكم رجل يتكلم بلسان شيطان، ثم خرج من عنده، فقال لقد دخل بوجه كافر، وخرج بقفا غادر، فمر بمال المسلمين فساقه معًا، فلما خرج رسول الله r لقضاء العمرة التي أحصر عنها سمع تلبية حجاج اليمامة، فقال (هذا الحطم) وأصحابه، فتوجهوا في طلبه فنزل قول الله -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا} [المائدة: 2]، فما فعله الحطم من الغدر والخيانة وعدم الوفاء بعهده لا يجب أن يكون سببًا لعدم العدل فيه ومنعه وأصحابه من الوصول إلى بيت الله الحرام.
ومن الآيات في العدل قول الله -عز وجل-: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58]، فمع أن الأمانة أمر يشمل كل ما ائتمن الله عباده عليه من طاعته وطاعة رسوله وما ائتمنهم عليه من أداء الحقوق والواجبات فيما بينهم إلا أنها أي الأمانة جزء من العدل، فمن عدل في قوله وفعله فهو أمين، ومن حكم بهواه في قوله أو فعله فهو خائن لا أمانة له… وهكذا، والحكم بين الناس بالعدل أنزل الله به الكتب وأرسل به الرسل دون استثناء، وهو في ديننا الحنيف من الأحكام والقواعد الكبرى، فعلى كل حاكم أنى كان مسماه أو صفته أو منزلته أن يحكم بالعدل، وإلا كان ظالمًا يحكم بهواه؛ كما قال -عز وجل-: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَاب} [ص: 26].
وقد دلت وقائع التاريخ أن العدل سياج وحصن للأمم، وأن الظلم مصدر لهلاكها، وما كانت أمم من الغابرين لتهلك، إلا لأنها عصت أوامر الله بالعدل، فحل فيها الظلم بعد أن سيطر أقوياؤها على ضعفائها، فما كان لها أن تدوم؛ لأنها خالفت سنن الله في خلقه، ومنها إقامة العدل بينهم، ونفي الظلم عنهم.
ومن هذه الآيات في العدل قول الله -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135]، وفي هذه الآية أمر للمؤمنين أن يقوموا بالقسط وهو العدل، ويترتب على هذا القيام أربعة أحكام:
أولها شهادة المرء على نفسه: والمراد به إقراره بما عليه من الواجبات فيما مناطه حق الله عليه، من توحيده وطاعته وطاعة رسوله محمد r فيما أمرا به وما نهيا عنه، وإقراره كذلك بما عليه من الواجبات فيما مناطه حقوق العباد عليه في تعامله معهم وإعطائهم حقوقهم وعدم بخسها.
وثاني الأحكام: شهادة المرء على والديه: فمع أن عليه واجبًا في برهما، فقد أوجب الله عليه الشهادة عليهما؛ لأن العدل من أسس الدين وقواعده، بل إن من أبر البر بهما أن يمنعهما من الظلم الذي قد يقعان فيه، فإذا منعهما منه فقد برهما، وكذلك للأقربين منه، فمع أن للقرابة حقوقًا من جهة النسب والأخوة والمحبة، إلا أن العدل يعلو على هذه الوجوه؛ لهذا لا خلاف بين الفقهاء في شهادة المرء على والديه أو إخوانه أو أقاربه وعدم جواز شهادته لهم، ومع ذلك فقد اختلف في ذلك، فمن الفقهاء من قال بشهادة الأخ لأخيه إذا كان عدلًا، ومنهم من قال: يجوز شهادة الزوج لزوجته، وجواز شهادة الزوجين لبعضهما؛ لأنهما أجنبيان، وعقد الزوجية بينهما معرض للزوال. وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله r رد شهادة الخائن والخائنة وذي الغمر على أخيه فترد شهادته([4]). والمراد به من يكون بينه وبين المشهود عليه عداوة ظاهرة. وبعيدًا عن الخلاف فالحكم واضح، بأن للمرء أن يشهد على والديه وأقاربه، ولا يشهد لهما، والحال كذلك للزوجين وكذا عدم شهادة الوكيل لموكله والولي لمن ولاه.
وثالث الأحكام في الآية: تحريم اتباع الهوى لما في ذلك من الظلم.
وأما الأصل في وجوب العدل في السنة: ففيه أحاديث كثيرة، منها قول رسول الله r: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا»([5]) والقسط هو العدل. وفيها قوله r: «اللهم من ولي أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه. ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به»([6]). ومن الأحاديث قول رسول الله r: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألا وكلكم راع مسؤول عن رعيته»([7])، والمسؤولية هنا تقتضي بالضرورة العدل في أداء المسؤولية، وفيها قوله -عليه الصلاة والسلام-: «إن الله مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار وكله الله إلى نفسه»([8]) وقوله: «لا تزال هذه الأمة بخير ما إذا قالت صدقت، وإذا حكمت عدلت، وإذا استرحمت رحمت»([9]).
وأما الإجماع: على وجوب العدل، فقد أجمعت الشرائع كلها وفي مقدمتها شريعتنا الخالدة على وجوب العدل بين الناس: ذكرهم وأنثاهم، وغنيهم وفقيرهم، وقويهم وضعيفهم، وكبيرهم وصغيرهم. وإن عدم العدل مما يوجب عقاب الله، كما حدث لبعض الأمم الغابرة حين عصت أوامره بالعدل، وقد أثر عن بعض سلف الأمة أن عدل يوم كعبادة أربعين سنة، وذلك لما للعدل من صلاح العباد في دينهم وسائر أحوالهم.
وقد سبق القول بأن الله -عز وجل- لما جعل داود خليفة في الأرض (أي رسولًا) أمره أن يحكم بين الناس بالحق ولا يتبع الهوى؛ لما فيه من الإضلال عن سبيل الله.
أما الحكم الرابع في الآية: فهو الوعيد لمن يلوي في الشهادة، ويميل فيها إلى أحد الخصوم، أو يعرض عن الأمر الذي أمره الله به من القسط وهو العدل، وهذا الوعيد مستفاد من قوله -عز وجل-: {فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135].
وأما المعقول: فإن العدل ميزان في الحياة، ذلكم أن الله -عز وجل- لما خلق السموات والأرض، وخلق المخلوقات، أقام العدل فيما خلق، فقد رفع السموات بغير عمد، وجعل الجبال رواسي للأرض، وجعل إنزال المطر بقدر معلوم، وجعل جريان البحار والأنهار بقدر معلوم، وسير الكواكب في نظام معلوم لا يتغير ولا يتبدل، فمن كمال حكمته أن جعل العدل ميزان الحياة، وهذا الميزان في كينونة الكون في أصوله وفروعه، فكما أنه يجب أن يكون بين العاقل من المخلوقات، فإنه كذلك في غير العاقل منها، فالشاة الجلحاء تقتص يوم القيامة من الشاة القرناء، فالأولى لا تملك قرونًا تدافع بها عن نفسها، والأخرى تملكها، فإذا استعملت هذه القرون في ظلم الأولى وجب القصاص منها؛ كما قال ذلك رسول الله r([10])، كما أن المركوبة من الدواب تقتص من راكبها إذا ظلمها في ركوبه أو في عدم إطعامه لها، وفي هذا روى سهل بن معاذ عن أبيه عن رسول الله r أنه مر على قوم وهو وقوف على دواب لهم ورواحل، فقال لهم: « اركبوها سالمة، ودعوها سالمة، ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق، والأسواق فرب مركوبة خير من راكبها، وأكثر ذكرًا لله -تعالى- منه»([11]). وإذا كان هذا في المخلوقات العاقلة وغير العاقلة، فإن ميزان العدل في الماديات كذلك، فالسفن والطائرات وسائر المركبات لا تسير إلا إذا كانت الأحمال التي عليها متوازنة، فإذا اختل هذا التوازن فسدت هياكلها وأحمالها، فاقتضى ما ذكر أن العدل ميزان في كل مسارات الحياة، فإذا اختل هذا الميزان اختل هذا المسار، وفوق كل ذلك يدرك العاقل، ويؤمن بأن الله -عز وجل- ما أمر بأمر أو نهى عن نهي إلا وفيه عدل بين عباده رحمة بهم.
قلت: ولما كان العدل أساسًا في حياة العباد اقتضى ذلك بالضرورة أن يكون العبد عدلًا في علاقته في خاصة نفسه وعدلًا في عامة علاقته بغيره. فأما علاقته في خاصة نفسه فكل، ما مناطه علاقته بأهله وولده وعلاقته بغيره. فأما علاقته بأهله فمع أنه قد لا يستطيع تحقيق العدل بينهم على النحو المراد؛ لما قد يتعرض له من نوازع النفس وهواها، إلا أنه مع ذلك محكوم بوجوب العدل بينهم رغم هذه النوازع، وفي هذا قال -عز وجل-: {وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129]، وفيه قال رسول الله r -وهو العادل بين نسائه- (اللهم إن هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك)([12]). وجاء الوعيد الشديد لمن لم يعدل بين أهله، فمن ذلك قول رسول الله r: (إذا كان عند الرجل امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه مائل)([13]) والعدل المراد المساواة بينهما في السفر والإقامة والنفقة والعلاج والمبيت، حتى إن الإمام مالك – رحمه الله- قال: إذا أغلقت الزوجة الباب ضررًا له فله الذهاب إلى الأخرى، وإن قدر على المبيت في حجرتها فعل؛ لأنها وإن ظلمته لم تسقط حقها([14])، ومثل ذلك المساواة في القسم، ففي حديث هشام بن عروة عن أبيه قال: قالت عائشة –رضي الله عنها-: يا ابن أختي كان رسول الله r لا يفضل بعضنا على بعض في القسم في مكثه عندنا، وكان كل يوم إلا وهو يطوف علينا جميعًا، فيدنو من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ التي يومها فيبيت عندها([15]).
وأما العدل بين أولاده، فمحكوم بقول الله -عز وجل- {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل: 90]، ومقتضى العدل أن يساويهم في التربية والنفقة والعلاج والعطية، سواء كانوا ذكورًا أم إناثًا (مع مراعاة ترتيب المواريث) أو قصرًا أو مرضى أو معاقين، والأصل في هذا الآية السابقة، وما رواه بشير أبو النعمان أنه أتى بالنعمان إلى رسول الله r فقال: إني نحلت ابني هذا غلامًا كان لي، فقال له رسول الله r: «أكل ولدك نحلته مثل هذا؟» فقال: لا، فقال رسول الله r: «فأرجعه»([16]) ومع أن العدل بين الأولاد حُكْمٌ حَكَمَ الله به وحكم به رسوله، إلا أنه حكم اقتضته أيضًا طبيعة العلاقة بين الوالد وولده، ففي التفرقة بينهم ظلم وجور يرتد إليه ويرتد إليهم أنفسهم بما يورثه من العداوة والبغضاء والقطيعة، ولعل سبب الكثير من المشكلات بين الأولاد في هذا الزمان يرجع إلى عدم فهم الوالد لواجبه في العدل بينهم، الأمر الذي جعل الولد – والعياذ بالله- يقتل والديه أو أحدهما، ويقتل أخاه بعد أن يزين له الشيطان سوء عمله. ومع ما قاله بعض العلماء من التفرقة في العطية بين البررة والمتأدبين وبين الفسقة من ولده، إلا أن العدل واجب بينهم، فيصلح الله به الفاسق من فسقه، ويزيد البار من بره.
وأما العدل في عامة علاقة العبد بالعباد فكثيرة يعرفها من دينه بالضرورة، ومنها بذل النفع لغيره من إخوانه بما يستطيعه؛ لقول رسول الله r (الخلق كلهم عيال الله، فأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله)([17]) ومنها الرفق بهم وعدم الإضرار بهم بالقول أو الفعل، وعدم الظن السيئ بهم، وعدم التجسس عليهم أو الاستهزاء بهم، وعدم التعدي عليهم أو خيانتهم، فكل ذلك من العدل الذي أمر الله به مما يطول ذكره.
وأما العدل في علاقة العبد بولايته على غيره، فمن ذلك عدل الحاكم في رعيته، وعدل القاضي في قضائه، وعدل الشاهد في شهادته، وعدل الوصي فيمن هو وصي عليه، وعدل الولي في ولايته. فأما عدل الحاكم في من هم تحت ولايته فمحكوم بالآية السابقة، وهي أمر الله له بالعدل، كما أنه محكوم بقول رسول الله r: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)([18])، وهذه المسؤولية توجب عليه العدل بينهم وعدم ظلمهم، كما توجب عليه الدفاع عنهم، والرفق بهم، وحفظ حقوقهم، ورعاية أمورهم في كل ما مناطه حياتهم ومعاشهم. كما توجب عليه مشاورتهم، حيث أمر الله بذلك في قوله -عز وجل- لنبيه محمد r: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159]، واستشعارًا لهذه المسؤولية وعظمها كان الخلفاء الراشدون -رضوان الله عليهم- ومن كان على نهجهم يعظَّمون هذه المسؤولية، وفي قصصهم العديد من الشواهد التي تفوق العد والحصر، وما كان الإسلام ليبلغ مبلغه في الأرض إلا لأنهم فعلوا ما أمرهم الله به من العدل، وحتى يكون الأمر أبلغ في استشعار المسؤولية. روى عبدالرحمن بن شماسة([19]) قال: أتيت عائشة أسألها عن شيء، فقالت ممن أنت؟ فقلت: رجل من أهل مصر، فقالت: كيف كان صاحبكم لكم في غزاتكم هذه؟ فقال: ما نقمنا منه شيئًا إن كان ليموت للرجل منا البعير فيعطيه البعير، والعبد فيعطيه العبد، ويحتاج إلى النفقة فيعطيه النفقة، فقالت: أما إنه لا يمنعني الذي فعل في محمد بن أبي بكر أخي أن أخبرك ما سمعت من رسول الله r يقول في بيتي هذا: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به)([20]).
كما روى أبو الأشهب عن الحسن([21]) قال: عاد عبيد الله بن زياد معقل بن يسار المزني في مرضه الذي مات فيه، قال معقل: إني محدثك حديثًا سمعته من رسول الله r لو علمت أن لي حياة ما حدثتك، إني سمعت رسول الله r يقول: (ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)([22]).
وأما العدل في القضاء، فمن أهم القواعد في الإسلام لما فيه من صيانة الأنفس والأعراض والأموال وإحقاق الحقوق ورد المظالم لأهلها، فأول من تولى القضاء في الإسلام رسول الله r وقد بيَّن الله له ما سبق أن أنزله على نبيه داود في وجوب العدل بين الناس والحكم بينهم بالحق، في قوله -عز ذكره-: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]، كما أنزل الله عليه قوله -تقدست أسماؤه-: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ} [النساء: 105]، وقوله -عز ثناؤه-: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49].
وعدل القاضي في القضاء يشمل العدل بين الخصوم في الجلوس عنده، وفي استماعه ونظرته لهم، وعدم استضافته لأحدهم دون الآخر أو قبول هديته، ما لم تكن العادة قد جرت بينهما قبل ذلك. وقد وضع عمر بن الخطاب القواعد التي يجب على القاضي اتباعها، لكي يكون عادلًا في حكمه، وذلك في كتابه إلى أبي موسى الأشعري يقول: (بسم الله الرحمن الرحيم. من عبدالله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى عبدالله بن قيس. سلام عليك. أما بعد: فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فافهم إذا أدلى إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك. البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر. والصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا. ولا يمنعك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك، وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق؛ فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة. ثم اعرف الأشباه والأمثال، فقس الأمور عند ذلك، واعمد إلى أقربها إلى الله وأشبهها بالحق، واجعل لمن ادعى حقًا غائبًا أو بينة أمدًا ينتهي إليه، فإن أحضر بينته أخذت له حقه. وإلا استحللت عليه القضية فإنه أنفى للشك وأجلى للعمى. المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودًا في حدٍّ، أو مجربًا عليه شهادة زور، أو ظنينًا في ولاء أو نسب، فإن الله تولى منكم السرائر ودرأ بالبينات والأيمان، وإياك والقلق والضجر والتأذي بالخصوم والتنكر عند الخصومات، فإن الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر ويحسن به الذخر، فمن صحت نيته وأقبل على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه شانه الله، فما ظنك بثواب غير الله -عز وجل- في عاجل رزقه وخزائن رحمته. والسلام([23]).
وفي قصة الإمام علي مع القاضي شريح واليهودي الذي التقط درع الإمام علي حين سقط من راحلته الدليل على عظمة العدل في القضاء، وأن الإسلام لا يفرق بين إنسان وآخر؛ فقد ذكر أبو نعيم في الحلية هذه القصة بقوله: وجد علي بن أبي طالب –كرم الله وجهه- درعًا له عند يهودي التقطها فعرفها، فقال: درعي سقطت عن جمل له أورق. فقال اليهودي: درعي وفي يدي. ثم قال اليهودي: بيني وبينك قاضي المسلمين، فأتوا شريحًا. فلما رأى عليًّا قد أقبل تحرف عن موضعه، وجلس علي فيه. ثم قال علي: لو كان خصمي من المسلمين لساويته في المجلس، ولكني سمعت رسول الله r يقول: لا تساووهم في المجلس. وساق الحديث، قال شريح: ما تشاء يا أمير المؤمنين؟ قال: درعي سقطت عن جمل لي أورق فالتقطها هذا اليهودي: قال شريح: ما تقول يا يهودي؟ فقال: درعي وفي يدي. قال شريح: صدقت، والله يا أمير المؤمنين إنها لدرعك، ولكن لا بد لك من شاهدين، فدعا قنبرًا والحسن بن علي فشهدا أنها درعه.
فقال شريح: أما شهادة مولاك فقد أجزناها، وأما شهادة ابنك فلا نجيزها، فقال علي: ثكلتك أمك، أما سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله r: (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة). قال: اللهم نعم. قال: أفلا تجيز شهادة سيد شباب أهل الجنة؟ ثم قال لليهودي: خذ الدرع. فقال اليهودي: أمير المؤمنين جاء معي إلى قاضي المسلمين فقضى لي ورضي. صدقت والله يا أمير المؤمنين، إنها لدرعك سقطت عن جمل لك التقطتها. أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله r. فوهبها له علي –كرم الله وجهه- وأجازه بتسع مئة وقتل معه يوم صفين([24]).
وأما العدل في الشهادة فالأصل أن يكون الشاهد عدلًا في نفسه؛ لأنه بشهادته يبيِّن صاحب الحق من الخصوم، والأصل فيه قول الله -تعالى-: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2]، وقوله -عز وجل-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِين} [الحجرات: 6]، فاقتضى هذا أن يكون الشاهد موصوفًا بالصلاح والدين، فلا تقبل إذا شهادة الفاسق، ولا الزاني، ولا من يرتكب الكبائر، ولا من عرف بالكذب، أو اشتهر بسوء الأخلاق، إذا كان على تلك الحال فلم يتب من فسقه أو سوء حاله، والأصل فيه قول رسول الله r: (لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا محدود في الإسلام، ولا ذي غمر([25]) على أخيه)([26]) وللفقهاء تفصيل في مسألة عدالة الشاهد:
فالجمهور منهم على وجوب الصلاح فيه من أداء الصلاة واجتناب المحرمات وترك المنكرات، وكل ما يفسد حاله.
ويرى الأحناف: أن العدالة المطلوبة في الشاهد هي العدالة الظاهرة، أما عدالته الحقيقية فتعرف من خلال السؤال عن حاله. وذلك بتزكيته وتعديله إذا طلب خصمه ذلك، ولكن العدالة الظاهرة لا تكفي إذا كان مناط الحكم الحدود والقصاص، فالواجب على القاضي عدم الاكتفاء بها([27]).
قلت: والعدالة المطلوبة في الحاكم والقاضي والشاهد حكم عام في كل ولاية (رغم اختلاف الأسماء)، فالعدل مشروط في كل من يتولى ولاية من ولايات العباد، ومن ذلك من يؤمهم في صلاتهم، أو يقوم بجباية زكاتهم، أو يشهد على بداية صيامهم وبداية فطرهم وبداية حجهم، أو يعمل في أي عمل مناطه مصالحهم؛ فالموظف أنى كان مسماه أو رتبته يجب أن يكون عدلًا في نفسه؛ لأن عمل الفاسد لا يمكن أن يكون نافعًا لمن ولي أمرهم، فالمرتشي لا يمكن أن يكون صالحًا للولاية، والمزور كذلك، ومثلهما كل سيء في أخلاقه.
كما أن حكم العدالة شرط في كل من يتولى ولاية خاصة، مثل نظار الأوقاف والأولياء والأوصياء والوكلاء، وكل من كان على شاكلتهم ممن يلي أمرًا من أمور العباد.
والأصل في ذلك عموم الآيات والأحاديث ومقاصدها، فمن الآيات قول الله تعالى-: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة: 83]، وقوله -عز ذكره-: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النحل: 90]، وقوله تقدست أسماؤه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا} [الأحزاب: 70]، وقوله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحشر: 18].
فالقول الحسن والعدل والتقوى جماع شامل لكل مفردات الخير والبعد عن الشر، فمن يتق الله لا يمكن أن يظلم عباده أو يبخسهم حقوقهم أو يتنقص منهم، ومن الآيات قول الله -عز وجل-: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوب} [الحج: 32]، وقوله -عز ذكره-: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} [الحج: 30]، فالعدل من شعائر الله. ومـن يقوم به يعظم هذه الشعائر، ومن الآيات قول الله-عز وجل-: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِين} [الشعراء: 215]، وفي هذا أمر يشمل كل مكلف بأمر من أمور العباد، فمن تكبر أو تجبر عليهم فقد ظلمهم؛ فلا يستحق الولاية عليهم، وقد شدد رسول الله r على ذلك، فقال: (من لا يرحم الناس لا يرحمه الله)([28])، وقال -عليه الصلاة والسلام-: (المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله)([29]) وفي حديث آخر (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجته كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة)([30]) والآيات والأحاديث ومقاصدها في هذا المعنى كثيرة، وهي في مبانيها ومعانيها ومقاصدها تشدد على رعاية عباد الله، وحفظ أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، وهذا الحفظ لا يقوم به إلا من كان عدلًا في نفسه، وموصوفًا بالصلاح في دينه وخلقه.
([1]) لسان العرب، لابن منظور ج11 ص430، والمعجم الوسيط ص588.
([2]) التعريفات، للجرجاني ص42.
([3]) كنز العمال حديث رقم (6986)، قال الألباني، السلسلة الصحيحة (٢/٦٧١): [فيه] أبو الدهماء البصري قال ابن حجر: مقبول وله شاهد.
([4]) أخرجه الإمام أحمد في المسند ج3 ص121، قال شعيب الأرنؤوط في تخريج مشكل الآثار (١٢/ ٣٥٦): سنده حسن.
([5]) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل. صحيح مسلم شرح النووي ج6 ص510، رقمه(1827).
([6]) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل، صحيح مسلم شرح النووي ج6 ص512-513، رقمه(1828).
([7]) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل، صحيح مسلم شرح النووي ج6 ص514، رقمه(1829).
([8]) أخرجه ابن ماجه في كتاب الأحكام، باب التغليظ في الحيف والرشوة، سنن ابن ماجه ج2 ص775، رقمه(2312)، حسنه الألباني في صحيح ابن ماجه (١٨٨٤).
([9]) أخرجه أبو يعلى في مسنده رقم (4040)، قال الطبراني في المعجم الأوسط (١/٢٤٣): لم يرو ثابت الأعرج عن أنس حديثا غير هذا، ولا رواه عن ثابت إلا إسحاق بن يحيى بن طلحة تفرد به عبد الرحمن بن أبي الرجال.
([10]) ونص الحديث عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «يقتص الخلق من بعضهم، حتى الجلحاء من القرناء، وحتى الذرة من الذرة» رواه أحمد في المسند ج2 ص363.
([11]) رواه الإمام أحمد في المسند ج5 ص65، قال شعيب الأرنؤوط في تخريج المسند لشعيب (١٥٦٢٩): حسن إلى قوله: ولا تتخذوها كراسي.
([12]) أخرجه أبو داود في كتاب النكاح، باب في القسم بين النساء برقم (2134) ج2 ص209، قال الحاكم، المستدرك على الصحيحين (٢٧٩٩): صحيح على شرط مسلم.
([13]) أخرجه أبو داود في كتاب النكاح، باب في القسم بين النساء برقم (2133) ج2 ص209، قال ابن حجر العسقلاني، بلوغ المرام (٣١٥): إسناده صحيح.
([14]) الذخيرة في فروع المالكية للقرافي ج4 ص227- 228.
([15]) أخرجه أبو داود في كتاب النكاح، باب في القسم بين النساء برقم ( 2135) ج2 ص209، حسنه الألباني في إرواء الغليل (٧/٨٥).
([16]) أخرجه مسلم في كتاب الهبات، باب كراهية تفضيل بعض الأولاد في الهبة برقم (1623) ج 7 ص 4416.
([17]) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ج 8 ص413. قال الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة ج4 ص372 برقم (1900) «ضعيف».
([18]) أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب الجمعة في القرى والمدن برقم (893) فتح الباري ج2 ص441.
([19]) هو عبدالرحمن بن شماسة بكسر المعجمة وتخفيف الميم بعدها مهملة، المهري، بفتح الميم وسكون الهاء، المصري، ثقة من الثالثة، مات سنة إحدى ومئة أو بعدها، تقريب التهذيب ص 342.
([20]) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل ، وعقوبة الجائر ، والحث على الرفق بالرعية والنهي عن إدخال المشقة عليهم برقم (1828) صحيح مسلم بشرح النووي ج8 ص 5101.
([21]) أبو الأشهب هو جعفر بن حبان بمهملة وتحتانية ثقيلة ، والحسن هو البصري . فتح الباري ج13 ص 136.
([22]) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب استحقاق الوالي الغاش لرعيته النار برقم (142) صحيح مسلم بشرح النووي ج1 ص854.
([23]) تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، لابن فرحون المالكي ج1 ص51.
([24]) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم الأصفهاني ج4 ص149.
([25]) الغمر: هو الحقد، النهاية في غريب الحديث والأثر ج3ص 384.
([26]) أخرجه أبو داود في كتاب الأقضية، باب من ترد شهادته برقم (3601) ج3 ص298، قال أحمد شاكر في تخريج المسند لشاكر (١١/١٤٥): إسناده صحيح.
([27]) بدائع الصنائع، للكاساني ج6ص 267- 271 والقوانين الفقهية، لابن جزي ص 202-203 ومغني المحتاج، للشربيني الخطيب ج4ص 426 -428 والمغني مع الشرح الكبير، لابن قدامة ج12ص 28- 33.
([28]) أخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب رحمته ﷺ بالصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك، برقم (2319) صحيح مسلم بشرح النووي ج10 ص 6136.
([29]) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله برقم (2564) صحيح مسلم بشرح النووي ج10 ص 6573.
([30]) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم برقم (2580) صحيح مسلم بشرح النووي ج10 ص 6594.