هذه ليست مشكلة صاحب السؤال بل مشكلة العديد من الناس، وشاهد ذلك كثرة الأمراض النفسية في هذا الزمان، الذي كثرت فيه الحوادث والمغريات بأنواعها، وتعاظمت فيه الفتن بآثارها من سفك للدماء وتعد على الأعراض وتدمير للأموال. وفي ظل ذلك يتعرض المؤمنون لوساوس الشيطان وأضاليلهم وأباطيلهم؛ ظنًّا منهم أنهم يخلعون المؤمن من إيمانه، ويحرفونه عن دينه، ليكون من بين أتباعهم من أعموهم فأضلوهم، ولكن المؤمن الحق لا يزداد إلا إيمانًا ويقينًا واتباع الطريق المستقيم الذي رسمه الله له وأمره باتباعه، وبسبب وطأة هذه الوساوس يتساءل المؤمن عن طبيعتها وأسبابها وكيفية الخلاص منها.
أما طبيعتها فهي حركة خفية في نفس الإنسان بما يخالف طبيعتها فيما مناطه نفسه ذاته حين يتردد في أمره، كالسفر أو الزواج أو نحو ذلك، أو فيما مناطه غيره حين يظن به سوءًا. ودافع الشيطان فيما يوسوس به للإنسان إرادة الشر به وإيقاعه فيه؛ ولهذا أمر الله نبيه ورسوله محمد r أن يعوذ من شره بقوله عز ذكره: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس} [الناس: 1]، إلى قوله تعالى: {مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاس * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاس} [الناس: 4-5].
وأما أنواع الوساوس فمنها: ما يلقيه الشيطان في روع الإنسان، ومنها: وساوس النفس ذاتها، والوساوس التي تصيب العقل، والوساوس التي تنزع إلى المبالغة في فعل الشيء، والوساوس التي تنشأ بسبب الخوف. أما ما يلقيه الشيطان في روع الإنسان فلكي يصده عن ذكر الله وعبادته؛ حتى يكون من أتباعه، وقد عصم الله أنبياءه ورسله من كيد الشيطان، ومنهم نبينا ورسولنا محمد؛ ففي حديث أبي سعيد الخدري t (أن رسول الله r قام فصلى صلاة الصبح وهو خلفه، فقرأ فالتبست عليه القراءة، فلما فرغ من صلاته، قال: لو رأيتموني وإبليس فأهويت بيدي، فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين إصبعي هاتين الإبهام والتي تليها، ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطًا بسارية من سواري المسجد، يتلاعب به صبيان المدينة، فمن استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل)([1])، وفي هذا قال الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم} [الحج: 52]. فإذا حدَّث النبي أو الرسول بحديث أو قراءة أو نحوها تعرض له الشيطان ليفسد ما حدث به أو ما قرأه، فيزيل الله ما أراد الشيطان أن يفعله، فيكون ما ألقاه وعصم الله منه أنبياءه ورسله؛ فتنة لمرضى القلوب وقساتها وللمنافقين ومن على شاكلتهم من الكافرين، وفي هذا قال الله عز وجل: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 53].
أما أهل العلم والإيمان ومن نور الله بصائرهم وهدى عقولهم فهم على النقيض من أتباع الشيطان، يؤمنون بالقرآن كما أنزل وأنه الحق من ربهم، فمن آمن به وصدقه فهو المؤمـن الذي يطمئن قلبه بالإيمان، وينجـو من وسـاوس الشـيطان، وفي هذا قال الله عز وجل: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 54].
وأما النوع الثاني من الوساوس: فوسوسة النفس ذاتها: وذلك حين يتردد الإنسان في فعل الشيء أو تركه، فيكون بذلك في حيرة من أمره وتدبيره، لا يدري ما يفعل، وقد يفعل ما لا يريد حين يسيطر عليه الوهم وكيد الشيطان.
وأما الوساوس التي تصيب العقل: فتلك التي يفقد الإنسان فيها توازنه، ويختل فيها سلوكه وانضباطه، فيفعل الشيء وهو لا يعرف عاقبة فعله حين يظنه حسنًا وهو غير ذلك، أو حين يظنه سيئًا وهو غير ذلك، وهذه من أخطر الوساوس وأشدها ضيقًا بالإنسان.
وأما الوساوس الناشئة عند المبالغة في فعل الشيء: فكثيرة، وقد تصيب الذين يتحوطون في فعلهم، وخاصة في أمور العبادات، ومثل ذلك من يتوضأ للصلاة ثم يتخيل أنه لم يتوضأ كما يجب، فيعيد وضوءه مرارًا، وكذلك من يصلي خلف إمام، ثم يعيد صلاته ظنًا منه أن الإمام ليس من أهل الإمامة والأمانة.. وهكذا مما يوسوس له به الشيطان.
وأما الوساوس الناشئة عن الخوف: فتحدث لمن يعيش في بيئة غير آمنة؛ فالإنسان بطبعه يخشى القتل والسرقة والظلم فيوسوس له الشيطان بأنه سوف يتعرض لكل هذه الأخطار؛ فلا تطمئن حينئذ نفسه، ولا يأمن جاره أو صديقه أو قريبه، فهو في خوف دائم كما كان المشركون يخافون من غزو البلاد القريبة منهم، كما فعل الأحباش في غزوهم مكة بالفيلة، فردهم الله على أعقابهم، حماية لبيته ومقدساته، وقد امتن على قريش بذلك في قوله عز ذكره: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْت * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْف} [قريش: 3-4]، ثم امتن عليهم بإرسال رسول الله r إليهم فكان في ذلك كمال الأمن، والسلام لمن آمن به واتبع ما جاء به.
وأما أسباب الوساوس فكثيرة ومصدرها الشيطان كما ذكر، والأصل في ذلك الكتاب والسنة.
أما الكتاب: فقد أخبر الله -عز وجل- في قوله عن إبليس وعداوته ومحاولته إغواء بني آدم: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيم * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف: 16-17]، وقد استثنى إبليس من عداوته العباد المخلصين فيما حكاه الله عنه بقوله تعالى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِين * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِين} [ص: 82-83]، وقد حذر الله بني آدم منه في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6]، وقوله عز ذكره: { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِين} [يس: 60]، وقوله جل ثناؤه: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً} [البقرة: 268]، وكما حذر الله منه حذر منه رسوله، فقال للرجل الذي طلب أن يوصيه: «لا تغضب»([2]) وقال -عليه الصلاة والسلام-: «إذا غضب أحدكم فليغسل وجهه؛ لأن الغضب من النار والماء يطفىء النار»([3]) فمصدر الغضب إذًا الشيطان؛ لأنه خلق من نار هذا في الكتاب.
وأما في السنة: فقول رسول الله r، «ما منكم من أحد إلا وله شيطان»، قالوا: وأنت يا رسول الله ؟ قال «وأنا، إلا أن الله أغلبني عليه فأسلم، فلا يأمر إلا بخير»([4]). وقوله -عليه الصلاة والسلام-: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم»([5]).
ومن أسباب الوساوس حب الشهوات وغلبتها، والمبالغة في حب المال، وسيطرة الهوى، والحسد، والغفلة عن ذكر الله.
أما حب الشهوات: فمن طبع الإنسان وفطرته حب الطعام والشراب والمال والنساء والولد، وغير ذلك مما هو معلوم، وقد بيَّن الله ذلك في قوله عز وجل: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران: 14]، وهذه الشهوات مشروعة من حيث الأصل، ولكن الشيطان يتربص بالإنسان ليحولها إلى محرمات، فلا يأكل الإنسان مثلًا من الطيبات التي أمر الله بالأكل منها في قوله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، بل يأكل مما حرم الله عليه، سواء من الأطعمة المحرمة أصلًا، أو من الأطعمة التي في ظاهرها حلال وفي أصلها حرام كالطعام المترتب من الربا، فإذا بالغ المرء في شهواته ولو كانت مباحة ساءت فطرته وتغير سلوكه؛ فتكثر وساوسه وأوهامه.
والحال كذلك في حب المال، فمع أن هذا الحب فطرة من فطر الإنسان، فهو زينة في الحياة الدنيا، كما قال الله -عز وجل-: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46]، فإذا بالغ الإنسان في حب المال وزينته تسلط المال عليه بالوساوس ودوافع الشر، فلا يبالي بما يأخذ من الحلال أم من الحرام، وقد كان العرب في الجاهلية يأكلون أموال النساء والأيتام، وقد مقت الله تهالكهم على المال والمبالغة في حبه في قوله -عز ذكره-: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر: 19-20]، أي شديدًا، والشواهد على أن المبالغة في حب المال من أسباب الوساوس كثيرة معلومة؛ فما يحصل في أسواق المال في العالم من تدافع وتهالك وأمراض نفسية وعقلية دليل على ذلك، ومن أسباب الوساوس سيطرة الهوى وغلبته للإنسان، وهذا النوع من السلوك من أخطر الأسباب التي تورث الوساوس والأوهام؛ لما فيه من نزعة الشر والإفساد، وقد حرم الله هذا النوع من السلوك، فقد نهى نبيه ورسوله محمدًا r عن السمع والطاعة لمن غفل قلبه عن ذكر الله فاتبع هواه، فجعله مرجعًا وحكمًا له، فكان كل أمره فاسدًا، قال عز وجل: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]، كما نهى نبيه داود -عليه السلام- من قبل وأمره أن يحكم بالحق المنزل عليه، وبيَّن له أن في اتباع الهوى ضلالًا عن سبيل الله: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَاب} [ص: 26]، وقد عظَّم الله تحريم الهوى، ووصف صاحبه بالذي يعبد هواه، فيصبح بذلك من أهل الضلال، بعد أن طبع الله على قلبه، وجعل على بصره غشاوة، فلا يرى إلا هواه، وبسبب سلوكه هذا تنتكس نفسه، فلا يفرق بين الحق والباطل، وما أصاب الأمم الغابرة من المصائب إلا بسبب سيطرة الهوى على قادتها وأهل الرأي فيها، وما يشهده العالم في هذا الزمان من الحروب والفتن وسوء أحوال النفوس وسيطرة الوساوس والشرور عليها إلا بسبب الهوى والبعد عن الحق الذي جاءها من عند الله.
ومن أسباب الوساوس الحسد لكونه يورث في النفس العداوة والبغضاء وكره المحسود وتمني زوال نعمه. ونزعة الحسد مما عرفها الإنسان؛ فقد حسد أحد ابني آدم أخاه فقتله وحسد الأشرار الأنبياء وأولي الفضل، وفي هذا قال عز وجل: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ} [النساء: 54]،؛ ولأن نفس الحاسد لا تطمئن إلا بزوال هذه النعم يبقى صاحبها متربصًا بمن حسده ينتظر زوال نعمه، فتأتيه الوساوس من كل جانب بعد أن وضع الشيطان فيه نزعة الحسد. وقد وصف الله هذه النزعة بالشر في أمره لنبيه ورسوله محمد r بأن يتعوذ من شر الحاسد وحسده في قوله عز ذكره: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق} [الفلق: 1]، إلى قوله تعالى: {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَد} [الفلق: 5]، وجماع الوساوس الغفلة عن ذكر الله؛ فلو كان المبالغون في حب الشهوات وحب المال وأهل الأهواء والحساد يتذكرون ما أمرهم الله ورسوله به وينتهون عما نُهوا عنه لما كان للشيطان عليهم من سبيل، ولكنهم لما غفلوا عن ذكر الله زين لهم ما كانوا يعملون فأصبحت نفوسهم رهينة للوساوس، وفي هذا قال الله عز وجل: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُون} [المجادلة: 19]، إن الشيطان عدو الله وعدو لعباده، وفي سبيل هذه العداوة يفعل كل ما يبعد العباد عن الله فيغويهم ويعدهم، ليكونوا من أتباعه وجنوده، والمفروض أن يكون للعبد حصانة من إغوائه، وذلك بذكر الله وعدم الغفلة عن هذا الذكر؛ لأن العبد إذا ذكر الله تغلب على ما يصيبه من هم أو غم أو حزن فتطمأن نفسه وتزول وساوسه، ومصداق ذلك قول الله عز وجل: {أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب} [الرعد: 28].
قلت: ويتبين مما سبق ذكره أن الوساوس مما يتعرض لها الإنسان في عمومه ولا يستثنى منها أحد. ومع أن الشيطان قد استثنى من عداوته العباد المخلصين، إلا أن هؤلاء أكثر تعرضًا لوساوسه ليصدهم عن دين الله؛ ذلك أنه لا ييأس من افتتان بني آدم كلهم بما في ذلك أهل الإيمان، رغم صلابتهم وقوتهم في الإيمان، وإدراكهم لعداوته ووساوسه؛ فكما تعرض الأنبياء والرسل -عليهم السلام- لهذه العداوة تعرض لها الصحابة -رضوان الله عليهم- كما تعرض لها العلماء والمؤمنون من عباد الله، ففي حديث ابن عباس -t- قال: (جاء رجل إلى النبي r فقال: يا رسول الله r، إن أحدنا يجد في نفسه -يعرض بالشيء- لأن يكون حُمَمَة أحب إليه من أن يتكلم به فقال: الله أكبر الله أكبر الله أكبر، الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة([6]). وفي حديث أبي هريرة قال: جاءه أناس من أصحابه فقالوا: يا رسول الله r، نجد في أنفسنا الشيء نعظم أن نتكلم به أو الكلام به ما نحب أن لنا وأنّا تكلمنا به. قال: «أو قد وجدتموه؟» قالوا: نعم. قال: «ذلك صريح الإيمان»([7]).
قلت: ووصفه بصريح الإيمان دليل على أنهم يؤمنون بالله حقًّا، وأن نفوسهم مطمئنة بهذا الإيمان، وأن ما يتعرضون له من الوساوس طارئ عليهم، ولا يغير من إيمانهم شيئًا، بل يزيدهم تعلقًا بالله وحبًا له، كما يزيدهم كفرًا بالشيطان ووساوسه. فبذلك ترتفع درجات إيمانهم بعد أن ازدادوا إيمانًا.
وأما كيفية الخلاص من الوساوس التي يتعرض لها المؤمنون، فإن الله -عز وجل- خلق العباد ويعلم بعلمه المطلق ما توسوس به نفوسهم، قال عز ذكره: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيد} [ق: 16]، كما يعلم -عز وجل- بعلمه المطلق أن المؤمنين يتعلقون به ويرجون رحمته، ويكفرون بالشيطان وجنده، وأن الوساوس مهما بلغت بهم وتعاظمت عليهم يبقون مؤمنين بالله وآياته وما أرسل به أنبياؤه ورسله وخاتمهم نبيه ورسوله محمد r. وقد مدحهم الله بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُون} [الأعراف: 201]، وقوله عز ذكره: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِين} [الحجر: 42]، وقد أمرهم بأن يستعيذوا به من الشيطان، فقال تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيم} [الأعراف: 200]، وقال تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} [فصلت: 36].
كما أمر رسوله محمدا r – وهو أمر لأمته – أن يتعوذ من الشيطان الرجيم عند قراءتهم القرآن: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُون} [النحل: 98- 100].
وحتى تكون الاستعاذة أبلغ وأعظم أمر -عز وجل- نبيه ورسوله محمدا r – وهو أمر لأمته- أن يتعوذوا بصفاته الثلاث وهي الربوبية والملك والألوهية من شر الوسواس الخناس الذي كثيرًا ما يأتي الإنسان في صلاته فيحاول إفسادها عليه، فقال جل ثناؤه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس * مَلِكِ النَّاس * إِلَهِ النَّاس * مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاس * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاس} [الناس: 1-5].
قلت: فما على المسلم وهو يواجه هذه الوساوس التي ذكرها صاحب السؤال إلا الاستعاذة بالله على دفع الشيطان ومحاصرته بالاستغفار، والذكر، وأنواع العبادات التي يعرفها المسلم من دينه.
قلت: والحديث عن الوساوس يتطلب البحث عن أحكامها، فأما ما يلقيه الشيطان في روع الإنسان مما يدفعه إلى نقيض الإيمان من المحرمات والنزوع إلى الشرِّ فعلاجه بذكر الله في السر والعلن واستذكار آيات الله في مخلوقاته وفيما أنعم به عليهم، وكذلك استذكار أوامر الله ونواهيه، وما يدخره لعباده المؤمنين من الجزاء الحسن في الدارين، وما يدخره من العقاب للمفسدين، والأصل في ذلك قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُون} [الأعراف: 201]، والتعوذ من الشيطان من أهم الأسباب لدفع نوازعه وغمزه ونفخه ونفثه، فالعبد إذا تعوذ منه تحقق له الأمران:
الأول: وقف نوازعه؛ لأنه حينئذ يخنس ويصغر في نفسه، وقد أمر الله نبيه ورسوله محمدًا r أن يتعوذ منه كما ذكر في سورة الناس، وقد أُثر عن بعض السلف أنه كان يجهر بالتعوذ حين يوسوس له الشيطان وهو في صلاته.
الأمر الثاني: أن التعوذ منه يرضي الله ليس لأنه -عز وجل- أمر بالتعوذ منه فحسب، بل لأن فيه أيضًا إظهارًا لعداوة المؤمن له.
وأما وساوس النفس ذاتها فالحكم فيه العفو عنه؛ لأنه مجرد وهم ليس له فعل أو أثر، فلو حدث نفسه بعقوق والديه أو طلاق زوجته أو عدم النفقة على أولاده ولم يفعل شيئًا من ذلك فلا أثر له؛ لأن النفس تتعرض للكثير من النوازع الطارئة التي تنشأ عن وهم أو مرض نفسي عابر، والأصل في ذلك قول رسول الله r: «إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت له أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم»([8]).
وأما الوساوس التي تصيب العقل، فهذه من أخطر الوساوس؛ لأنها تغيب عقل صاحبها فلا يدرك ما يفعل من خطأ أو صواب، فإن طلق زوجته فلا يقع طلاقه، وفي هذا قال ابن عابدين -رحمه الله- إنه لا يجوز طلاق الموسوس يعني المغلوب في عقله([9]). والأصل في هذا النوع من الوساوس الحجر على صاحبها لما قد يقع منه ضرر لغيره، فإن وقع منه هذا الضرر ضمن في ماله.
وأما الوساوس التي تنزع بالإنسان إلى المبالغة في فعل الشيء فهي كثيرة، وقد يكون الدافع لها ابتغاء التقوى أو الورع، ومع أن هذه الوساوس تبدو في ظاهرها حسنة إلا أنها قد تؤدي بصاحبها إلى الوقوع في الخطأ حين يرى أن فعله هو الحق، وأن فعل غيره ليس كذلك، والخطأ الأكبر في هذا أن صاحب هذا النوع من الوساوس يتجاوز الأصول والحدود الشرعية في العبادات والمعاملات، وهذا ما قد تعرض أو يتعرض له بعض الفتيان الأغرار حين يبالغون في سلوكهم وتصورهم لواقعهم، فيتحول الورع عندهم إلى عنف، والرغبة في التقوى إلى إثم وهم لا يشعرون. وعلاج هذا النوع من الوساوس لا يكون إلا بالتربية الصحيحة، وتعليم هؤلاء حقيقة دينهم في أصوله وفروعه.
وأما الوساوس الناشئة عن الخوف، فهذا النوع يحدث بسبب أمر عارض وقت الفتن، فيلتبس على الإنسان فكره وتدبيره فيفعل الشيء وهو لا يريد أن يفعله، فإذا كان مناط هذا الفعل نفسه، فهذا من باب وساوس النفس. أما إذا تعدى الفعل إلى الغير كمن يعتدي على شخص ظنًا منه أنه عدوه وهو ليس كذلك، فهذا يضمن فعله.
وخلاصة المسألة: أن الوساوس حركة خفية في النفس بما يخالف طبيعتها، وهي أنواع منها ما يلقيه الشيطان في روع الإنسان ليدفعه إلى نقيض الإيمان والتروع إلى الشر، وقد عصم الله الأنبياء والرسل -عليهم السلام- من هذه الوساوس. وعلاج هذا النوع يكون بذكر الله في السر والعلن، واستذكار عظمة الله في آياته ومخلوقاته، عملًا بقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُون} [الأعراف: 201]. ومن الوساوس وسوسة النفس ذاتها، حين يتردد الإنسان في فعل الشيء وتركه، مما يجعله في حيرة من أمره وتدبيره، كما لو حدث نفسه بعقوق والديه أو طلاق زوجته أو عدم النفقة على أولاده ولم يفعل، فحكم هذا النوع العفو عنه؛ عملًا بقول رسول الله r: «إن الله يتجاوز لأمتي ما وسوست أو حدثت به أنفسها ما لم تفعل به أو تتكلم»([10]).
ومن الوساوس ما يصيب العقل، حيث يفقد الإنسان توازنه، ويختل بسببها سلوكه، فيفعل الشيء وهو لا يعرف عاقبته، وهذا النوع من أخطر الوساوس، فإن طلق زوجته فلا يقع طلاقه، وإن تصرف في ماله لا يقبل تصرفه. ومن الوساوس ما ينزع بالإنسان إلى المبالغة في فعل الشيء، ويصيب هذا النوع الذين يتحوطون في فعلهم، وخاصة في أمور العبادات مما يؤدي إلى وقوعهم في الخطأ، حين يرون أن فعلهم هو الحق، وأن من عداهم على خطأ، وهذا النوع من الوساوس يتجاوز الأصول والحدود الشرعية، وهذا ما قد يتعرض له بعض الفتيان الأغرار فيتحول الورع عندهم إلى عنف. وعلاج هذا النوع لا يكون إلا بالتربية الصحيحة وتعليم هؤلاء حقيقة دينهم. ومن الوساوس ما ينشأ بسبب الخوف، كما هو الحال في زمن الفتن حيث يلتبس على الموسوس أمره فيفعل ما لا يريد، فإذا كان مناط هذا نفسه فهو من باب وساوس النفس، أما إذا تعدى فعله إلى غيره، كمن يعتدي على آخر ظنًّا منه أنه عدوه وهو غير ذلك فيضمن فعله. وأسباب الوساوس كثيرة منها حب الشهوات وغلبتها، والمبالغة في حب المال، وسيطرة الهوى، والحسد، والغفلة عن ذكر الله، ومصدر الوساوس الشيطان وكيده للإنسان في عمومه، ومع أنه استثنى من عداوته وكيده عباد الله المخلصين، إلا أن هؤلاء أكثر تعرضًا لعداوته ووساوسه، وقد رد الله كيده وجعل هذه الوساوس دليلًا على صريح إيمانهم، فلما قال أناس من أصحاب رسول الله r: يا رسول الله، نجد في أنفسنا الشيء نعظم أن نتكلم به، والكلام فيه ما نحب أن لنا وأنا ما تكلمنا به، فقال: «أو قد وجدتموه؟ » قالوا: نعم، قال: «ذلك صريح الإيمان».
([1]) مسند الإمام أحمد ج3 ص82، صححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (2475).
([2]) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب برقم (6116) فتح الباري ج10 ص535.
([3]) أخرجه الإمام في المسند بلفظ «إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ». ج4 ص426، وأخرجه أبو داود برقم (4784)، وضعفه الألباني في ضعيف أبو داود (4784).
([4]) أخرجه مسلم في كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب تحريش الشيطان وبعثه سرايا لفتنة الناس وإن مع كل إنسان قرينًا، برقم (2814) ج11 ص7006 .
([5]) أخرجه البخاري في كتاب الاعتكاف، باب اعتكاف المستحاضة برقم (2038) فتح الباري ج4 ص330.
([6]) أخرجه الإمام في المسند ج1 ص235، قال شعيب الأرنؤوط في تخريج زاد المعاد (٢/٤٢١): إسناده صحيح.
([7]) أخرجه مسلم برقم (132)، وأخرجه ابن حبان في صحيحه ج1 ص361، وقال الألباني في تخريج كتاب السنة: (٦٥٤): إسناده صحيح على شرط مسلم.
([8]) أخرجه البخاري في كتاب الطلاق، باب الطلاق في الإغلاق والكره والسكران والمجنون وأمرهما والغلط والنسيان في الطلاق والشرك وغيره، برقم (5269) فتح الباري ج9 ص300.
([9]) حاشية ابن عابدين ج4 ص224 .
([10]) أخرجه البخاري في كتاب الطلاق، باب في الطلاق في الإغلاق والكره والسكران والمجنون وأمرهما والغلط والنسيان في الطلاق والشرك وغيره، برقم(5269) فتح الباري ج9 ص300.