سؤال‮ ‬يقول فيه أصحابه‮: ‬كثر الـحديث عن علاج السحر‮‬،‮ ‬كما كثر الـحديث عما قيل عن علاجه بسحر مثله،‮ ‬بحيث‮ ‬يذهب من أصيب به إلى ساحر‮ ‬يحله عنه،‮ ‬فهل هذا جائز شرعاً؟‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

‬حكم علاج السحر بسحر مثله‮

وقبل الجواب عن سؤال الإخوة السائلين، ينبغي أولًا تعريف السحر، وما ورد في الكتاب والسنة عن تحريمه، ثم معرفة ما إذا كان يجوز العلاج به.

تعريف السحر لغة:

أما تعريفه لغة، فقد ذكره الأزهري بقوله: السحر عمل تُقُرِّبَ به إلى الشيطان وبمعونة منه، كل ذلك الأمر كينونة للسحر، ومن السحر الأخُذه تأخذ العين، حتى يظن أن الأمر كما يُرى، وليس الأصل على ما يُرى.. ثم قال: وأصل السحر صرف الشيء عن حقيقته إلى غيره، فكأن الساحر لما أرى الباطل في صورة الحق، وخيل الشيء على غير حقيقته، قد سحر الشيء عن وجهه أي صرفه([1]).

تعريف السحر اصطلاحا:

أما في الاصطلاح فقد عرفه البيضاوي في تفسيره بقوله: والمراد بالسحر ما يستعان في تحصيله بالتقرب إلى الشيطان بما لا يستقل به الإنسان، وذلك لا يحصل إلا لمن يناسبه في الشرارة وخبث النفس([2]). وعرفه القليوبي بأنه مزاولة النفوس الخبيثة لأقوال أو أفعال، ينشأ عنها أمور خارقة للعادة([3]). أما التهانوي فقال: إن السحر تقرن به كلمات يتلفظ بها من الكفر والفحش المخالف للشرع، ويتوصل بها إلى الاستعانة بالشياطين([4]). وعرفه ابن العربي بأنه كلام من يعظم به غير الله([5]).

وقد اختلف في حقيقة السحر ومعناه؛ فذكر أبو بكر الجصاص أنه كل أمر خفي سببه، ويتخيل على غير حقيقته، ويجري مجرى التمويه والخداع([6]). وقال بهذا أيضًا الإمام ابن حزم وأبو جعفر الاستراباذي الشافعي([7])، واستدلوا على قولهم هذا بقول الله -عز وجل- عن  سحرة فرعون:  {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى}[طه:66]، وقوله عز ذكره:{سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيم}[الأعراف:611]، والمعنى أنهم موّهوا عليهم حتى ظنوا أن حبالهم وعصيهم تسعى فأخبر أن ما ظنوه سعيًا منها لم يكن حقيقة، وإنما كان تخييلًا([8]).

وقيل: إن السحر نوع من الشعوذة، التي تمثل خفة الحركة والسرعة، فيظن من يرى هذه السرعة أنها حقيقة.

أما عند جمهور العلماء: فإن السحر حقيقة لا مراء فيها، ولكن تأثيره ينصب على تغيير المزاج والسلوك فيكون مرضًا من الأمراض، أما الحقائق فلا تتغير بتأثيره، وقد استدلوا على حقيقته وتأثيره في النفوس، أن الله أمر نبيه أن يتعوذ من شر الساحرات بقوله -عز وجل-: {وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَد} [الفلق:٤]، كما استدلوا بتعرض رسول الله r للسحر، وذلك حين سحره لبيد بن الأعصم أحد المنافقين في المدينة([9]).

تحريم السحر: لا خلاف في تحريم السحر وكفر صاحبه، والأصل في ذلك الكتاب والسنة.

أما الكتاب: فقول الله -تعالى-: {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}[البقرة: 201]، إلى قوله -تعالى-: {مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُون} [البقرة:201]، وقوله:{وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى}[طه:96].

وأما تحريمه في السنة: فالأحاديث في ذلك كثيرة، منها ما رواه أبو هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله r  قال: «اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله والسحر»([10])، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: «من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك»([11]). ومنها ما روي أن رسول الله r قال: «من أتى عرافًا فسأله عن شيء لم يقبل له صلاة أربعين يومًا»([12]).

ومنها ما رواه عمران بن الحصين- رضي الله عنه- أن رسول الله r قال: «ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له»([13]). وقال: «ومن أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد r»([14])، فهذه الأحاديث تدل كل الدلالة على أن السحر في مختلف مسمياته وأصنافه حرام، وأن صاحبه يعد كافرًا، وأن من يصدقه هو في الجرم والخطيئة سواء.

أقوال الفقهاء في السحر والساحر:

ولم يختلف الأئمة -رحمهم الله- في هذه المسألة، ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: السحر حرام بلا خلاف بين أهل العلم، واعتقاد إباحته كفر، ويكفر الساحر بتعلمه وفعله، سواء اعتقد الحرمة أم لا، ويقتل ولا يستتاب إذا عرفت مزاولته لعمل السحر، وذلك لسعيه بالفساد في الأرض([15]). وفي مذهب الإمام مالك: يعد مرتداً، وقد عرف الدردير الردة: أنها كفر المسلم بصريح من القول، أو لفظ يقتضيه، أو فعل يتضمنه كإلقاء مصحف بقذر وسحر. وفيه: إن تعلم السحر كفر وإن لم يعمل به. وفي المذهب: أن عقوبة الساحر القتل([16]). وفي مذهب الإمام الشافعي: إذا اعتقد حل السحر كفر([17]). وفي مذهب الإمام أحمد: يكفر الساحر بتعلم السحر وفعله، سواء اعتقد تحريمه أو إباحته، وعلى هذا جماهير الأصحاب([18]).

حكم حل السحر بالسحر:

هذه بإيجاز حقيقة السحر وتحريمه وعقاب من يفعله صنعًا وتعليمًا، والسـؤال هو عما إذا كان يجوز شرعًا لمن أصيب به أن يذهب إلى ساحر يحله عنه؟

والـجواب عن هذا من وجهين : –

الوجه الأول- حل السحر بسحر مثله: أي النشرة:

وهنا ينبغي أولاً تعريفها: فقد عرفها ابن منظور في لسان العرب: بأنها رقية يعالج بها المجنون والمريض، تنشر عليه تنشيراً، وقد نَشَّر عنه، قالوا للإنسان المهزول الهالك: كأنه نشرة، والتنشير من النشرة عنه، وهي كالتعويذ والرقية، قال الكلابي: وإذا نُشر المسفوع كان كأنما أنشط من عقال، أي يذهب عنه سريعًا، قال فلعل طبَّا أصابه، يعني سحرًا، ثم نَشَّره بقول: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس}أي رقاه([19]).  وفي النهاية لابن الأثير: «النشرة ضرب من الرقية والعلاج، يعالج به من كان يظن أن به مسًّا من الجن، سميت بنشرة؛ لأنه ينشر بها عنه ما خامره من الداء، أي يكشف ويزال»([20]). وعلى هذا لا يفهم من اسم النشرة على إطلاقها بمفهومها اللغوي: أنها حل السحر بالسحر فحسب، وإنما هي نوعان: نوع محرم، ونوع مباح، وقد فهم ذلك الإمام ابن القيم فقال: «هي نوعان حل سحر بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، فإن السحر من عمله، فيتقرب إليه الناشر والمنتشر بما يجب فيبطل عمله عن المسحور.

والثاني: النشرة بالرقية والتعوذات والدعوات والأدوية المباحة، فهذا جائز بل مستحب([21]).

وقد استدل من قال بجواز النشرة (أي حل السحر بالسحر) بأربعة أمور: أولها: حديث عائشة- رضي الله عنها- ومفاده: أن رسول الله r سُحِرَ حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن، فقال: يا عائشة، أَعلمتِ أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه؟ أتاني رجلان، فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال  الذي عند رأسي للآخر: ما بال الرجل؟ قال مطبوب. قال ومن طبه؟ قال لبيد بن الأعصم رجل من بني زريق حليف ليهود كان منافقًا، قال: وفيم؟ قال: في مُشطٍ ومشاطة؟ قال: وأين؟ قال: في جف طلعة ذكر تحت رعوفة في بئر ذروان، قالت: فأتى النبي r البئر حتى استخرجه، فقال: هذه البئر التي أريتها، وكأن ماءها نقاعة الحناء، وكأن نخلها رءوس الشياطين. قال: فاستخرج، قالت فقلت: أفلا؟ أي تنشرتِ فقال: أما والله فقد شفاني، وأكره أن أثير على أحد من الناس شرًا([22]). وقد ذكر ابن حجر في شرح الحديث تعدد رواياته،  ففي رواية عيسى بن يونس قلت: يا رسول الله ﷺ (أفلا استخرجته)، وفي رواية وهيب: (قلت يا رسول الله فأخرجه للناس)، وفي رواية ابن نمير: (أفلا أخرجته؟) «قال:، لا»، وكذا في رواية أبي أسامة، قال ابن بطال: ذكر المهلب أن الرواة اختلفوا على هشام في إخراج السحر المذكور، فأثبته سفيان وجعل سؤال عائشة عن النشرة، ونفاه عيسى بن يونس، وجعل سؤالها عن الاستخراج، ولم يذكر الجواب مما يدل على تعدد الروايات حول الاستخراج، فقيل: إنهم أخرجوه فرموا به، وفي رواية عمرة وحديث ابن عباس: أنهم وجدوا وترًا فيه عُقد، وأنها انحلت عند قراءة المعوذتين، وفي رواية البخاري: (أفلا أخرجته؟) وعند مسلم عن أبي كريب عن أبي أسامة: (أفلا أحرقته؟) وقال النووي: كأنها طلبت أن يخرجه ثم يحرقه([23]). وذهب القرطبي فجعل الضمير في (أحرقته) للبيد بن الأعصم، أي أن عائشة استفهمته عن ذلك، عقوبة له على ما صنع من السحر، فأجابها بالامتناع، ونبَّه على سببه، وهو خوف وقوع شر بينهم وبين اليهود لأجل العهد، فلو قتله لثارت فتنة، قال ابن حجر: ويحتمل أن يكون من النشر بمعنى الإخراج، فيوافق رواية من رواه (فهلا أخرجته؟)، ويكون لفظ هذه الرواية: (هلا استخرجت؟)، وحذف المفعول للعلم به، ويكون المراد بالمخرج ما حواه لا الجف نفسه([24]).

قلت: فهذه الأقوال المختلفة حول الحديث لا تدل أبدًا على أن عائشة- رضي الله عنها- قد سألت على وجه التوكيد رسول الله r  عن النشرة بقولها: (أفلا تنشرت؟)؛ لأنه إذا كان المقصود أن يعالج بالسحر كما قد يتوهم بذلك متوهم، فرسول الله r منزه مطلقًا أن يفعل ذلك أو يقول به، كما أن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- منزهة أن تسأله هذا السؤال، ولو فرض أنها قد سألته هذا السؤال، فهو إما أن يكون بلفظ (أفلا أخرجته؟) أو يكون بمعنى (فهلا حللته؟) بما يقتضيه حله بالتعوذ منه، وهو هنا بمعنى (النشرة المباحة) كالدعاء، كما أكد ابن عباس- رضي الله عنهما- آنفًا أن العُقد التي وجدت في الوتر انحلت عند قراءة المعوذتين (سورة الناس وسورة الفلق)، أو يكون السؤال (فهلا عاقبته؟) أي عاقبت لبيد بن الأعصم بالإحراق، والمراد به الإحراق المجازي، أي العقاب الذي يستحقه على فعله.

وعلى هذا، فلا حجة أبدًا لمن جعل كلمة (أفلا تنشرت؟) دليلاً على جواز هذا الفعل المحرم.

الأمر الثاني: الاستدلال بقول سعيد بن المسيب: (إنما نهى الله عما يضر، ولم ينه عما ينفع)، وأنه لما سئل عما إذا كان لا يرى بأسًا إذا كان بالرجل سحر أن يمشي إلى من يطلق عنه، فقال: (هو صلاح)([25]). والجواب عنه: أن من تدبر هذا القول، وفهمه حق فهمه، عرف بكل بساطة أنه – رحمه الله- لم يقل صراحة أو ضمنًا بجواز حل السحر بالسحر، فهو التابعي الجليل، ولا يمكن أن يقول بأن التداوي بالسجود للشياطين، والذبح لهم فيه نفع للمسحور، وليس فيه ضرر عليه، وإنما أراد القول بأن في علاج السحر بما هو مشروع فيه نفع للمسحور؛ لأن الله سبحانه وتعالى أباح لعباده التداوي بما هو مباح لهم، ونهاهم عن التداوي بما هو حرام عليهم من الخبائث كالخمر، فحين سئل رسول الله r عن التداوي بها، قال: (هي: الداء وليس الدواء)([26]).

وأما قوله: (هو صلاح)، فالمعنى أن في علاجَ المسحور بأنواع الرقى المباحة صلاحًا له، ومن هذا العلاج الرقى المعنوية كالأدعية والتعوذات، ومنها الرقى المادية كالعلاج بأي دواء مجرب ومباح، أو بهما معًا.

الأمر الثالث: الاستدلال بأن الإمام أحمد سئل عمن يطلق السحر عن المسحور؟ فقال: لا بأس به([27]) والجواب عن هذا: أن أحدًا لا يستطيع أن يثبت أنه -رحمه الله- قال بجواز حل السحر بسحر مثله. وجوابه (بعدم البأسية) عمن يطلق السحر جواب صحيح؛ ذلك أن المسحور إذا وجد من يحل عنه السحر بعلاج معنوي كالرقى، أو مادي مباح فهذا لا بأس به، ولما سئل -رحمه الله – عن رجل يجعل في الطنجير (إناء من نحاس) ماءً، ويغيب فيه، ويعمل كذا. نفض يده كالمنكر وقال: ما أدري ما هذا؟ قيل له: أترى أن يؤتى مثل هذا يحل السحر؟ فقال: ما أدري ما هذا([28]). وإذا كان قد ورد في مسنده -رحمه الله- أن رسول الله r  لما سئل عن النشرة (وهي هنا علاج السحر بمثله)، قال: هي من عمل الشيطان([29])، فهل يعقل إذًا أن يقول الإمام أحمد – وهو المحدث الورع التقي – بجواز حل السحر بسحر مثله؟ إن هذا لشيء عجاب!

الأمر الرابع – نعم: قيل: إن بعض علماء الحنابلة أو واحد منهم، قال بجواز حل السحر بسحر ضرورة([30])، خلافًا لعلماء الأمة الأعلام، وقد أجيب عن هذا من عدد من أئمة الحنابلة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «والمسلمون وإن تنازعوا في جواز التداوي بالمحرمات كالميتة والخنزير، فلا يتنازعون في أن الكفر والشرك لا يجوز التداوي به بحال؛ لأن ذلك محرم في كل حال، وليس هذا كالتكلم به عند الإكراه، فإن ذلك إنما يجوز إذا كان قلبه مطمئنًا بالإيمان، والتكلم به إنما يؤثر إذا كان بقلب صاحبه، ولو تكلم به مع طمأنينة قلبه بالإيمان لم يؤثر. والشيطان إذا عرف أن صاحبه مستخف بالعزائم لم يساعده. وأيضًا فإن المكره مضطر إلى التكلم به، ولا ضرورة إلى إبراء المصاب به لوجهين: أحدهما: أنه قد لا يؤثر أكثر مما يؤثر من يعالج بالعزائم، فلا يؤثر بل يزيده شرًا، والثاني: أن في الحق ما يغني عن الباطل»([31]).

وقال في موضع آخر: «والذين أجازوا التداوي بالمحرم قاسوا ذلك على إباحة المحرمات كالميتة والدم للمضطر، وهذا ضعيف لوجوه: أحدها: أن المضطر يحصل مقصوده يقينًا بتناول المحرمات، فإنه إذا أكلها سدت رمقه وأزالت ضروراته، وأما الخبائث بل وغيرها فلا يتعين حصول الشفاء بها، فما أكثر من يتداوى ولا يشفى بها، ولهذا أباحوا دفع الغصة بالخمر لحصول المقصود بها وتعيينها له، بخلاف شربها للعطش فقد تنازعوا فيه، فإنهم قالوا: إنها لا تروي. الثاني: أن المضطر لا طريق له إلى إزالة ضرورته إلا الأكل من هذه الأعيان، وأما التداوي فلا يتعين تناول هذا الخبيث طريقًا لشفائه، فإن الأدوية أنواع كثيرة، وقد يحصل الشفاء بغير الأدوية: كالدعاء والرقية، وهو أعظم نوعي الدواء، والثالث: أن أكل الميتة للمضطر واجب عليه في ظاهر مذهب الأئمة وغيرهم.. وأما التداوي فليس بواجب عند جماهير الأئمة، وإنما أوجبته طائفة قليلة([32]).

وفي فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ عن النشرة، قال -رحمه الله-: «وكلام الأصحاب هنا بين أنه حرام، ولا يجوز إلا بضرورة فقط، ولكن هذا يحتاج إلى دليل، ولا دليل إلا كلام ابن المسيب([33]): ومعنا حديث جابر في ذلك وقول ابن مسعود، وقول الحسن: لا يحل السحر إلا ساحر. وهو لا يتوصل إلى حله إلا بسحر. والسحر حرام وكفر، أفيعمل الكفر لتحيا نفس مريضة أو مصابة؟.. فالرسول منع وسد الباب، ولم يفصل في عمل الشيطان، ولا في المسحور»([34]).

قلت: إن وضع الفعل المنافي للعقيدة تحت مقتضى الضرورة أمر غير صحيح على الإطلاق، إذ لا يجوز للمسلم أن يقف على باب ساحر يراه يدوس على كتاب الله، ويضعه في الزبل، ويسجد للشيطان، ويذبح له، (تعالى الله عن فعل الظالمين علوا كبيرًا)، ثم يطلب منه العلاج، وإن اجتهد أحد العلماء، كالذي اجتهد من علماء الحنابلة – رحمهم الله – فرأى في ذلك ضرورة فهذا الاجتهاد ربما جاء من تصوره للسحر، خلافًا للسحر الذي نعيشه في هذا الزمان، أو لأنه قدَّر الضرورة على نحو اجتهد فيه، فهذا اجتهاد من أصاب فيه فله أجران ومن أخطأ فيه فله أجر واحد،  كما قال ذلك رسول الله r([35])، ولكن هذا الاجتهاد لا يكون ملزمًا لأحد مع وضوح النصوص وبيانها، وكل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله r، كما قال ذلك الإمامان مالك والشافعي -رحمهما الله.

إن حفظ النفس من الضرورات الشرعية، وإذا كان قد أبيح النطق بالكفر لمن أكره عليه مع اطمئنان قلبه بالإيمان، كما في قول الله -عز وجل-: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، فإنه ليس في اللجوء إلى السحر، ما يعد إكراهًا؛ بل هو اختيار يعرف المختار أنه يتعامل مع شرك وكفر صريح، ناهيك بأن له ما يغنيه في الأوراد والأدعية عن هذا العمل الكفري البواح؟

الوجه الثاني: علاج السحر بالمباح:

لا خلاف بين العلماء في أن أفضل علاج للسحر واتقائه يكون بالأدعية  والتعوذات والأوراد المشروعة،  فمن ذلك قول الإمام بن القيم: «ومن أنفع علاجات السحر الأدوية الإلَهية، بل هي أدويته النافعة بالذات، فإنه من تأثيرات الأرواح الخبيثة السفلية، ودفع تأثيرها يكون بما يعارضها ويقاومها من الأذكار، والآيات والدعوات، التي تبطل فعلها وتأثيرها، وكلما كانت أقوى وأشد كانت أبلغ في النشرة، وذلك بمنزلة التقاء جيشين مع كل واحد منهما عُدَّتُهُ وسلاحه، فأيهما غلب الآخر قهره، وكان الحكم له، فالقلب إذا كان ممتلئًا من الله معمورًا بذكره، وله من التوجهات والدعوات والأذكار والتعوذات وردٌ لا يُخِلُّ به يطابق فيه قلبه لسانه، كان هذا من أعظم الأسباب التي تمنع إصابة السحر له. ومن أعظم العلاجات له بعد ما يصيبه»([36]).

وقد ذكرنا من قبل أن الأدوية الإلَهية التي ذكرها الإمام ابن القيم تكون للسحر بعد وقوعه، ووقاية منه قبل وقوعه، فما من شك بأن القلب المعمور بذكر الله وخشيته، والائتمار بأوامره، واجتناب نواهيه، والمداومة على الأذكار المشروعة سياج، وحصن من حبائل الشيطان ورسله. ومن المأثور في ذلك قراءة آية الكرسي بعد الصلاة المفروضة، وقراءة سورة (الإخلاص) و(الفلق) و(الناس) ثلاث مرات بعد صلاة الفجر وبعد صلاة المغرب. ومن ذلك أيضًا قراءة آخر سورة البقرة، والتعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، والحرص على الأدعية المأثورة([37]).

ومن المأثور في علاج السحر بالأدعية المعنوية والمادية ما ذكره ابن بطال أن في كتب وهب بن منبه: «أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر، فيدقه بين حجرين، ثم يضربه بالماء، ويقرأ فيه آية الكرسي والقواقل، ثم يحسو منه ثلاث حسوات، ثم يغتسل به فإنه يذهب عنه كل ما به، وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله»([38]).

ومن ذلك أيضًا ما رواه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ليث بن أبي سليم قال: بلغني أن هؤلاء الآيات شفاء من السحر بإذن الله، تقرأ في إناء فيه ماء، ثم يصب على رأس المسحور: {فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِين * وَيُحِقُّ اللّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُون} [يونس:81-82]. إلى آخر الآيات الأربع([39]) وقوله: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69]. وفي رد الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- على من قال بأنه لم يرد عن رسول الله r شيء مما يقول ابن أبي سليم ولا ابن القيم، وأنّ ما ينقل عن وهب  بن منبه قد يكون من باب البدع، قال الشيخ: «إن هذا القول غلط؛ لأن التداوي بالقرآن الكريم والسدر ونحوه من الأدعية المباحة ليس من باب البدع، بل هو من باب التداوي وقال النبي r  «عباد الله تداووا، ولا تتداوا  بحرام» وثبت في سنن أبي داود في كتاب الطب أن النبي r قرأ في ماء في إناء وصبه على المريض، وبهذا يعلم أن التداوي بالسدر وبالقراءة في الماء، وصبه على المرضى ليس به محذور من جهة الشرع، إذا كانت القراءة سليمة، وكان الدواء مباحاً»([40]).

قلت: وبناء على ما سبق وجوابًا عن سؤال الإخوة السائلين، فإن القول بجواز حل السحر بسحر مثله قول غير صحيح، بل هو باطل من وجهين:

أولهما: أنه ليس له سند شرعي، لا من الكتاب، ولا من السنة، ولا من أقوال العلماء المتقدمين والمحدثين، بل هو محرم بكل المقاييس الشرعية، التي أشير إلى بعضها في هذه المسألة.

وثانيهما: أن القول بهذا مع مخالفته للأدلة الشرعية الصريحة ذو خطر عظيم؛ لأنه يعني السماح للسحرة بمعالجة الناس بكفرياتهم  وشركياتهم وأباطيلهم؛ إذ لا يتصور عاقل أن يكون للسحرة عيادات، ثم يقف المرضى -كما ذكرنا آنفًا- على أبوابهم يطلبون العلاج منهم، وهم يرونهم أو يعلمون أنهم يدوسون بأقدامهم على كتاب الله العزيز، ويضعونه في الزبل، ويذبحون للشياطين، ويسجدون لهم، ويتوسلون إليهم، فتعالى الله وتقدست أسماؤه وصفاته، وتنزه كتابه العزيز عما يقول ويفعل الظالمون.

ولا يسعنا إلا أن ندعو الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

 

 

([1]) لسان العرب (4/ 843) مادة (س ح ر).

([2]) تفسير البيضاوي (١/ 79).

([3]) قليوبي وعميرة (4/ 169).

([4]) كشاف اصطلاحات الفنون  (٣/ 846).

([5]) أوجز المسالك (٣١/ 711) .

([6]) أحكام القرآن (١/ 24).

([7]) فتح الباري للحافظ ابن حجر (1/233).

([8]) انظر: أحكام القرآن للجصاص (١/34)، والجمل على شرح المنهج (٥/ 001)، وروضة الطالبين للنووي ج9 وص 346.

([9]) انظر: فتح الباري لابن حجر 10/237، وقال صحيح.

([10])     أخرجه البخاري في كتاب الوصايا باب قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} برقم (2766).

([11])     أخرجه النسائي في كتاب المحاربة باب الحكم في السحرة برقم (4090)، وحسنه ابن مفلح في  الآداب الشرعية ٣‏/٦٨.

([12])     أخرجه مسلم في كتاب السلام باب تحريم الكهانة واتيان الكهان برقم (2230).

([13])     أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط ج4 ص301، صححه الألباني في السلسلة الصحيحة ٥‏/٢٢٩.

([14])     أخرجه الإمام أحمد في المسند ج15 ص331، قال الألباني في صحيح الترغيب (٣٠٤١): صحيح لغيره.

([15])     حاشية رد المحتار، لابن عابدين ج٤ ص 240.

([16])     أوجز المسالك ج ٣١ ص ٧١١.

([17])     المجموع شرح المهذب، للنووي ج19 وص 240-243.

([18])     الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، للمرداوي ج ٠١ ص 349 وكشاف القناع ج ٦ ص 681.

([19])     لسان العرب ج4 ص 209، مادة (رقي).

([20])     النهاية في غريب الحديث والأثر ج٥ ص 53 – 54.

([21])إعلام الموقعين ج 4 ص 396.

([22])     أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب هل يستخرج السحر، فتح الباري ج 10ص243 ، رقمه (5765). ومسلم (رقم 2189).

([23]) فتح الباري ج 10 ص  542 – 642.

([24]) فتح الباري ج 10 ص 642.

([25])     فتح الباري ج 10 ص  442.

([26]) ذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، ج ٤ ص 174 وقال : «حسن».

([27])     المغني ج 12 ص 304، ومطالب أولي النهى ج 6 ص 503.

([28])     المغني ج 12 ص  403 – 503.

([29])     مسند الإمام أحمد ج ٣ ص  492، رواه الهيثمي في مجمع الزوائد (٥‏/١٠٥(، وقال: رجاله رجال الصحيح.

([30])     مطالب أولي النهى ج ٣ ص  503.

([31])     مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج ٣  ص 6.

([32])     مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج ٤٢ ص267-269.

([33]) أشير آنفًا إلى مراد ابن المسيب رحمه الله.

([34]) فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم ج1  ص 561.

([35])     أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، فتح الباري ج ٣١ ص ٠٣٣، رقمه (٥٢٣٧).

([36])     زاد المعاد في هدي خير العباد ج ٤ ص  351.

([37])     مجلة البحوث الفقهية المعاصرة ، العدد 53 ص 682.

([38])     فتح الباري ج 10 ص  442.

([39])     تفسير القرآن العظيم ج ٢ ص ٩٠٤.

([40])فتح المجيد شرح كتاب التوحيد للشيخ عبدالرحمن حسن آل الشيخ ، تحقيق الشيخ العلامة عبدالعزيز بن عبدالله بن باز ص 462، وحديث “عباد الله تداووا..” صححه السيوطي في الجامع الصغير (١٦٩٠).