سؤال يقول صاحبه: إنه كثيرًا ما يقرأ كلمة الذرية في بعض الوصايا، ويشتبه عليه معناها، ويسأل عن المراد منها؟

كلمة (الذرية) وما تدل عليه من أحكام في الوصية

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبعد:

فالذرية في اللغة: إما فعلية من الذر، أو فعولية من الذرا، ومعناها لغة: نسل الثقلين، وقيل ولد الرجل، وقيل من الأفراد، وتجيء تارة بمعنى الأبناء وتارة بمعنى الآباء، وتتناول أولاد البنات(1)، والمراد بها عند العرب في الجاهلية: الأبناء وأبناؤهم وإن نزلوا دون أبناء البنات؛ كما قال الشاعر:

بنونا بنو أبنائنا وبناتنا  بنوهن أبناء الرجال الأباعد

وجاء الإسلام فأبطل هذا المعنى، فجعل أبناء البنات أبناء لأجدادهن.

والأصل فيه القرآن الكريم والسنة النبوية.

ففي القرآن الكريم: يعد العباد كلهم من ذرية آدم ونوح؛ كما قال الله -عز وجل- في ثنائه على عدد من أنبيائه ورسله، وإنعامه عليهم بالنبوة وهم إبراهيم وموسى وعيسى وإسماعيل: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ} [مريم: 58] كما أن العباد كلهم من ذرية نوح؛ كما قال عز وجل: {وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} الانعام: 84]، وقال عز ذكره: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِين} [الصافات: 77].

وفي القرآن الكريم أيضًا أن ولد البنت ابن لأبيها، فقد أمر الله نبيه ورسوله محمدًا ﷺ بمباهلة نصارى نجران في قوله عز ذكره: {فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِين} [ال عمران: 61].

وأما السنة: فقول رسول الله ﷺ في الحسين بن علي إن ابني هذا سيد شباب أهل الجنة([1]) «وقوله في الحسن بن علي إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين»([2]). وقوله -عليه الصلاة والسلام- حين أخذ الحسن والحسين: «أولادنا أكبادنا»([3])، فثبت من هذا أن ولد البنت ولد لأبيها، فلو أوقف الرجل دارًا أو مزرعةً أو نحو ذلك، وجعله على (ذريته) شمل ذلك أولاده وأولاد بناته؛ لأنهم من ذريته بحكم النص.

وقد ذهب الجمهور من الفقهاء إلى أن ولد بنت الرجل يعد في حكم ذريته:

ففي مذهب الإمام أبي حنيفة روايتان: رواية بعدم دخولهم؛ لأن أولاد البنات من ذرية آبائهم لا من ذرية قوم الأم، أما الرواية الثانية أن الذرية اسم للفرع المتولد من الأصل، والأبوان أصلان للولد، ومعنى الأصلية والتولد في جانب الأم أرجح؛ لأن الولد يتولد منها بواسطة ماء الرجل([4]).

وفي مذهب الإمام مالك: العبرة في لفظ الوصية؛ وذلك للتفريق بين لفظ (الولد) أو (العقب) أو (الذرية).

فلو أوصى ل(عقب) دخل فيه الأولاد الذكور والإناث من ولد الصلب وولدهم من الذكور والإناث من ولد الذكور، وفي هذا قال ابن القاسم: وهذا ما لم يختلف فيه قول مالك، ولا قول أحد من أصحابه، كلهم يقول: إن (عقب) الرجل إنما هو يرجع نسبه إليه من ولده وولد ولده وإن نزلوا، فبنت الرجل من عقبه، وبنت ابنه وابن ابنه وإن نزل؛ لأن كل واحدة منهن تنتسب إليه وترثه، إذا لم يكن من يحجبها، أما ولد بنت الرجل ذكرًا كان أم أنثى فليس من عقبه؛ لأنه لا ينتسب إليه ولا يرثه، وإنما هو من عقب بنته، فالأصل في هذا عند الإمام مالك مراعاة النسب والميراث، فإذا أوصى (لولد رجل) أو (لعقبه) أوصى على ولد رجل أو على عقبه لم يدخل في ذلك أولاد البنات، أما إذا كان اللفظ في الوصية ب(الذرية)، فاختلف شراح المذهب: فمنهم من قال: إنه لا فرق بين الولد والعقب والذرية والنسل؛ لأن أولاد البنات لا يدخلون في ذلك، ومنهم من قال: إنهم يدخلون في الذرية والنسل ولا يدخلون في الولد والعقب([5]).

وفي مذهب الإمام الشافعي: يدخل أولاد البنات في الوقف على الذرية والنسل والعقب وأولاد الأولاد؛ لصدق اللفظ بهم، إلا أن يقول على من ينتسب إليَّ منهم، فلا يدخل أولاد البنات فيمن ذكر؛ نظرًا إلى القيد المذكور([6]).

وفي مذهب الإمام أحمد: إذا وقف الرجل على قوم وأولادهم وعاقبتهم دخل في الوقف ولد البنين، أما ولد البنات فقال الخرقي من علماء المذهب: لا يدخلون فيه، وحجته في ذلك أن الله -تعالى- قال: {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء: 11]، فيدخل فيه ولد البنين دون البنات، وهكذا كل موضع ذكر فيه الولد في الإرث والحجب دخل فيه ولد البنين دون ولد البنات؛ لأن أولاد البنات منسوبون إلى آبائهم، وقال الإمام أحمد: فيمن وقف على ولده ما كان من ولد البنات فليس لهم فيه شيء، فهذا النص -كما يقول صاحب المغني- يحتمل أن يعدى إلى هذه المسألة، ويحتمل أن يكون مقصورًا على من وقف على ولده ولم يكن ولد ولده([7]).

قلت: والراجح -والله أعلم- أن كلمة الذرية وما في معناها في الوصايا التي أشار إليها الأخ السائل يشمل أولاد البنات؛ فإذا أوقف الرجل شيئًا من ماله على ذريته، دخل في حكمه أبناؤه وأبناؤهم وبناته وأولادهن؛ لأنهم من ذريته كما قال رسول الله ﷺ الحسين ابني هذا سيد شباب أهل الجنة، وبحكم هذه القرابة لا ينبغي أن يحرموا من هذه المنفعة، ناهيك بأن برهم لجدهم من دعاء وصدقة ونحوها معلوم بحكم هذه القرابة، بل قد يكونون أكثر برًا بجدهم من أولاده المباشرين. والله أعلم.

([1]) أخرجه الإمام أحمد في المسند ج3 ص3، وفي رواية أبي سعيد الخدري: ” الحسنُ والحُسَينُ سيِّدا شبابِ أهلِ الجنَّةِ؛ إلا ابنَي الخالةِ عيسى ابنَ مريمَ ويحيي بنَ زكريا، وفاطمةُ سيدةُ نساءِ أهلِ الجنَّةِ؛ إلا ما كان من مريمَ بنتِ عِمرانَ” أخرجه الترمذي (٣٧٦٨ )، وصححه الألباني في صحيح الجامع، (٣١٨١).

([2]) أخرجه البخاري في كتاب الصلح، باب قول النبي ﷺ للحسن بن علي -رضي الله عنه- ابني هذا سيد… برقم(2704) ج5 ص361.

([3]) ذكره ابن عابدين في حاشية رد المحتار ج4 ص136.

([4]) حاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين على الدر المختار شرح تنوير الأبصار في مذهب الإمام أبي حنيفة ج4 ص6. وانظر: البحر الرائق شرح كنز الدقائق في فروع الحنفية للنسفي ج5ص13.

([5]) البيان والتحصيل لابن رشد ج14 ص402-403 وانظر: شرح الزرقاني على مختصر خليل ج7 ص161-162وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدسوقي ج4 ص92-93.

([6]) حاشية قليوبي وعميرة ج3 ص104.

([7]) المغني مع الشرح الكبير لابن قدامة ج6 ص206-208. وانظر: المبدع شرح المقنع ج5 ص238-241.