الجواب: كثيرًا ما يتردد هذا السؤال، خاصة وأن الطائف بالبيت الحرام يحرص أن يكون طوافه في حجه أو عمرته صحيحًا لا تشوبه شائبة، ولا يُكدره مكدر. وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن الطهارة من النجاسة شرط لصحة الطواف.
ففي مذهب الإمام مالك: أن الطائف لو طاف وهو غير مطهر أعاد طوافه، فإن عاد إلى بلده قبل إعادة طوافه رجع على إحرامه إلى مكة وطاف بالبيت، وقيل يعيد في مكة.. ولو طاف وفي ثوبه أو بدنه نجاسة فعلم بها بعد طوافه فأزالها وصلى لم يعد الطواف، كمن ذكر بعد الوقت([1]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: أن الواجب في الطواف ثمانية شروط، ومنها: طهارة الحدث والنجس في بدن الطائف و ثوبه ومطافه([2]).
وفي مذهب الإمام أحمد: يجب أن يكون الطائف طاهرًا في ثياب طاهرة؛ لأن الطهارة من الأحداث والأنجاس شرط لصحة الطواف، وهذا هو المشهور عن الإمام أحمد، وفي رواية أخرى عنه أن الطهارة ليست شرطًا، فمن طاف للزيارة غير مطهر أعاد إن كان بمكة، فإن عاد إلى بلده جبر طوافه بدم، وعنه أن من طاف للزيارة وهو ناس للطهارة لا شيء عليه([3]). واستدل الجمهور على اشتراط الطهارة من الحدث في الطواف بما روي عن ابن عباس -رضي الله عنه-: أن رسول الله ﷺ قال: «الطواف بالبيت صلاة، إلا أنكم تتكلمون فيه»([4]). وما روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن أبا بكر الصديق بعثه في الحجة التي أمره عليها رسول الله ﷺ حجة الوداع يوم النحر أن يؤذن: «لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان»([5]). وكذا ما روي عن رسول الله ﷺ أنه قال لعائشة -رضي الله عنها- لما حاضت وهي محرمة: اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي([6])، كما استدلوا بأن الطواف عبادة مناطها البيت الحرام، فكانت الطهارة والستر فيها شرط كالصلاة.
أما في المذهب الحنفي: فالطهارة من الحدث والجنابة والحيض والنفاس ليست بشرط، وليست كذلك بفرض، بل واجبة حتى يجوز الطواف بدونها، والدليل في ذلك قول الله -تعالى-: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق} [الحج: 29]، وهذا أمر بالطواف مطلقًا عن شرط الطهارة، فلا يجوز تقييد مطلق الكتاب بخبر الواحد، فقول رسول الله ﷺ: «الصلاة طواف إلا أن الله تعالى أباح فيه الكلام» يحمل على التشبيه كما في قوله -عز وجل-: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] أي كأمهاتهم، ومعناه الطواف كالصلاة. إما في الثواب، وإما في أصل الفرضية في طواف الزيارة؛ لأن كلام التشبيه لا عموم له، فيحمل على المشابهة في بعض الوجوه؛ عملًا بالكتاب والسنة، أو نقول: الطواف يشبه الصلاة وليس بصلاة حقيقة، فمن حيث إنه ليس بصلاة حقيقة لا تفترض له الطهارة، ومن حيث إنه يشبه الصلاة تجب له الطهارة؛ عملًا بالدليلين بالقدر الممكن فإذا طاف من غير طهارة فما دام بمكة تجب عليه الإعادة لأن الإعادة؛ جبر له بجنسه، وجبر الشيء بجنسه أولى…([7]). وقد أشار شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية إلى نزاع العلماء في هذه المسألة؛ لأنه لم ينقل أحد عن رسول الله ﷺ أنه أمر بالطهارة في الطواف ولا نهى المحدث أن يطوف، ولكنه طاف طاهرًا، وقد ثبت عنه أنه نهى الحائض عن الطواف، وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: «مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم»، فالصلاة التي أوجب بها الطهارة ما كان يستفتح فيها بالتكبير، ويختتم فيها بالتسليم كالصلاة التي فيها ركوع وسجود وكصلاة الجنازة وسجدتي السهو، وأما الطواف وسجود التلاوة فليسا من هذا.. كما أشار -رحمه الله- إلى أن للإمام أحمد قولين: أحدهما -أن الرجل إذا طاف وهو غير طاهر فطوافه يجزئه إذا كان ناسيًا. والقول الآخر -أنه لا يجزئه حتى يكون طاهرًا([8]).
قلت: وفي المسألة تفصيل، فالبيت الحرام من شعائر الله، وتعظيم هذه الشعائر من تقوى الله، وفي هذا قال -عز وجل-: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوب} [الحج: 32]، والبيت الحرام أعظم بيوت الله في الأرض، والتطهر للطواف فيه من أوجب الواجبات، فحين يفد الحاج أو المعتمر أو الزائر إلى هذا البيت ينبغي أن يكون طاهرًا في بدنه وملبسه. وجمهور العلماء لم يختلفوا في ذلك، غير أن المذهب الحنفي يرى أن الطهارة ليست بشرط للطواف مع التفصيل في ذلك في رأيهم. ولكن الطائف قد لا يكون على حالة من الطهارة حين يأتى إلى المسجد الحرام؛ فقد يُحْدِثُ في أثناء طوافه فيخرج منه ما يعد نجسًا من بول أو دم أو ريح (غازات)، كما هو الحال في السؤال. وهنا يجب التفريق بين أمرين:
الأول: إن كان الخارج منه في أثناء طوافه يسيرًا كالريح أو الدم القليل، فلعل هذا من النجاسة اليسيرة المعفو عنها، وليس عليه – إن شاء الله – من جناح، فيتم طوافه.
الأمر الثاني: إن كان الخارج منه فاحشًا، كالبول الكثير أو الدم الكثير أو الريح المتكرر، فالواجب عليه إعادة طوافه بعد أن يتطهر من الحدث، فإن كان ممن غلبته الريح فيتم طواف الأشواط التي بقيت عليه. أما إن كان قد أتى إلى المسجد فطاف الأشواط وهو غير طاهر أصلًا فعليه الطواف من جديد؛ لأن الأصل أن يأتي إليه وهو طاهر ما لم يكن ناسيًا. هذا في عموم الحدث، أما الحدث المترتب من الحيض فله وجهان:
الأول: إن حاضت المرأة قبل طوافها (طواف حج أو عمرة أو زيارة) فالواجب عليها أن تنتظر حتى تطهر ما لم يكن لها عذر، كمن رتبت سفرها مع أهلها ورفقتها.
الوجه الثاني: إن حاضت في أثناء طوافها فلها أن تتم طوافها؛ لأن ما تعرضت له من الدم لم يكن بمقدورها دفعه، فهو من الابتلاء والأعذار المسقطة للحكم؛ ولهذا لما قيل لرسول الله ﷺ عن حيض عائشة، قال -عليه الصلاة والسلام: «إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم»([9]).
وخلاصة المسألة: إن الجمهور من الفقهاء يرون أن الطهارة شرط لصحة الطواف، فعلى من أحدث أن يتطهر، وفي المذهب الحنفي: أن الطهارة ليست شرطًا لصحة الطواف، ولعل من المناسب القول بأنه إذا كان الخارج من الطائف يسيرًا كالبول والريح فله أن يتم طوافه. أما إن كان الخارج منه فاحشًا كالبول الكثير أو الدم الكثير فعليه إعادة طوافه بعد أن يتطهر.
([1]) عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة لابن شاس ج1 ص 398.
([2]) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج في مذهب الإمام الشافعي للرملي ج3 ص278.
([3]) المغني مع الشرح الكبير لابن قدامة ج3 ص290، وكتاب الفروع لابن مفلح ج3 ص504.
([4]) أخرجه الحاكم في المستدرك ج1 ص459، صححه الألباني في إرواء الغليل (1102).
([5]) أخرجه البخاري (٤٦٥٥)، ومسلم (١٣٤٧)، وأخرجه الحاكم في المستدرك ج4 ص178.
([6]) أخرجه البخاري في كتاب الحيض، باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، صحيح البخاري مع فتح الباري ج1 ص485.
([7]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للإمام الكاساني ج3 ص129.
([8]) مجموع الفتاوى ج26 ص123، 208.
([9]) عن عائشة -رضي الله عنها- قالت:«خرجنا لا نرى إلا الحج، فلما كنا في سرف حضت، فدخل عليَّ رسول الله ﷺ وأنا أبكي، قال:ما لك أنفست؟ قلت:نعم، قال:إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم فاقضي ما يقضي الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت» أخرجه البخاري (٥٥٥٩)، ومسلم (١٢١١)، فتح الباري ج1 ص477 رقم الحديث (294).