لقد بيَّن الله مصارف الزكاة، فقال -عز وجل-: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيم} [التوبة:60]، تباينت أقوال الفقهاء وأهل التفسير في دلالة معنى {وَفِي سَبِيلِ اللّهِ} أهو سبيل واحد أم اثنان من سبل الخير؟ أم هو عام لكل وجوه الخير؟
ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: أن سبيل الله يشمل الغزاة وجميع القُرَب، فيدخل فيه كل من سعى في طاعة الله وسبيل الخيرات إذا كان محتاجًا له([1]). وعلى هذا الرأي يجوز صرف الزكاة في بناء المساجد والطرقات والملاجئ والمستشفيات وكل سبيل من سبل الخير ذات النفع العام.
وفي مذهب الإمام مالك: سبيل الله مواضع الجهاد والرباط، فيعطى الغزاة ما ينفقونه في غزواتهم، سواء كانوا فقراء أم أغنياء، كما يعطى من هذا المصرف لشراء السلاح وآلات الحرب وكل ما يلزم لدفع العدو وإطفاء الفتن وكف الأذى، والأصل في ذلك فعل رسول الله ﷺ حين ودى الأنصاري الذي قتل في خيبر بمائة ناقة من إبل الصدقة([2]).
وقال القاضي أبو بكر العربي المالكي في أحكام القرآن: قوله:- {وَفِي سَبِيلِ اللّهِ} قال مالك: سبل الله كثيرة، ولكني لا أعلم خلافًا في أن المراد بسبيل الله ههنا الغزو من جملة سبيل الله (هكذا) إلا ما يؤثر عن أحمد وإسحاق فإنهما قالا: إنه الحج. والذي يصح عندي قولهما من جملة السبل مع الغزو؛ لأنه طريق بر فأعطي منه باسم السبيل، وهذا يحل عقد الباب، ويخرم قانون الشريعة، وينثر سلك النظر، وما جاء قط بإعطاء الزكاة في الحج أثر. وقد قال علماؤنا: ويعطى منها الفقير بغير خلاف؛ لأنه قد سمي في أول الآية، ويعطى الغني عند مالك بوصف سبيل الله -تعالى- كان غنيًّا في بلده أو في موضعه الذي يأخذ به لا يلتفت إلى غير ذلك من قوله الذي يؤثر عنه، قال النبي ﷺ: (لا تحل الصدقة إلا لخمسة: غاز في سبيل الله) وقال أبو حنيفة: لا يعطى الغازي إلا إذا كان فقيرًا. وهذه زيادة على النص، وعنده أن الزيادة على النص نسخ، ولا نسخ في القرآن إلا بقرآن مثله أو بخبر متواتر. وقد بينا أنه فعل مثل هذا في الخمس، في قوله: {وَلِذِي الْقُرْبَى} فشرط في قرابة رسول الله ﷺ الفقر، وحينئذ يعطون من الخمس، وهذا كله ضعيف حسبما بيناه. وقال محمد بن عبدالحكم: يعطى من الصدقة في الكراع والسلاح وما يحتاج إليه من آلات الحرب وكف العدو عن الحوزة؛ لأنه كله في سبيل الغزو ومنفعته، وقد أعطى النبي ﷺ من الصدقة مائة ناقة في نازلة بن أبي حثمة إطفاء للثائرة([3]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: أن المراد {وَفِي سَبِيلِ اللّهِ} الغزاة والمحتاجون، وكذا ما يحتاجونه من السلاح والخيل، أما من كان لهم مرتب في ديوان السلطان فلا يستحقون؛ لأنهم يأخذون أرزاقهم من الفيئ([4]).
وفي مذهب الإمام أحمد: لا يجوز صرف الزكاة إلى غير من ذكر الله من بناء المساجد والسقايات وإصلاح الطرقات وتكفين الموتى، ونحو ذلك من القرب التي لم يذكرها الله؛ لأنه -عز وجل- قال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ}، فكلمة (إنما) تفيد الحصر والإثبات، تثبت المذكور وتنفي ما عداه([5]).
وقيل: إن المراد من {وَفِي سَبِيلِ اللّهِ} أولئك الذين يحجون ويعتمرون إلى بيت الله الحرام، وقد أثر هذا عن الإمام أحمد وآخرين، استدلالًا بأن رسول الله ﷺ حمل على إبل الصدقة للحج، وأثر عن عبدالله بن عباس -رضي الله عنه- أنه كان يعتق من زكاة ماله، ويعطي منها للحج.
كما أثر عن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما-: أن المراد من {وَفِي سَبِيلِ اللّهِ} الحجاج والعمار، ولا يرى إعطاء الغزاة من الصدقة بل ينكر ذلك، وقد روى عبدالرحمن بن أبي نعم قال: كنت جالسًا مع عبدالرحمن بن عمر فأتته امرأة، فقالت له: يا أبا عبدالرحمن؛ إن زوجي أوصى بماله في سبيل الله، فقال ابن عمر: فهو كما قال في سبيل الله، فقلت له: ما زدتها فيما سألت عنه إلا غمًّا. قال فما تأمرني يا بن أبي نعم، آمرها أن تدفعه إلى هؤلاء الجيوش الذين يخرجون فيفسدون في الأرض ويقطعون السبيل؟ قلت: فما تأمرها؟ قال: آمرها أن تدفعه إلى قوم صالحين إلى حجاج بيت الله الحرام، أولئك وفد الرحمن، أولئك وفد الرحمن، ليسوا كوفد الشيطان، قالها ثلاثًا.
قلت: يا أبا عبد الرحمن، وما وفد الشيطان؟ قال: قوم يدخلون على هؤلاء الأمراء، فينمون إليهم الحديث، ويسعون في المسلمين الكذب، فيجازون الجوائز، ويعطون عليه العطايا([6]).
وكما أن للفقهاء اجتهادًا في تفسير {وَفِي سَبِيلِ اللّهِ}، فإن لأهل التفسير الأقدمين والمحدثين اجتهادًا فيه، فقد ذكر الفخر الرازي في تفسيره: أن ظاهر اللفظ في قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللّهِ} لا يوجب القصر على كل الغزاة، فلهذا المعنى نقل القفال في تفسيره عن بعض الفقهاء: أنهم أجازوا صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى، وبناء الحصون، وعمارة المساجد؛ لأن قوله {وَفِي سَبِيلِ اللّهِ} عام في الكلام([7]).
وفي فتح البيان لصديق حسن خان القنوجي: «أنهم الغزاة والمرابطون، وإن كانوا أغنياء.. وقيل: إن اللفظ عام فلا يجوز قصره على نوع خاص ويدخل فيه جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الجسور والحصون، وعمارة المساجد وغير ذلك، والأول أولى لإجماع الجمهور عليه»([8]).
وذكر الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في التحرير والتنوير: «والحق أن سبيل الله يشمل شراء العدة للجهاد من سلاح، وخيل، ومراكب بحرية، ونوتية، ومجانيق، وللحملان، ولبناء الحصون وحفر الخنادق، وللجواسيس الذين يأتون بأخبار العدو»([9]).
كما ذكر العلامة الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي في تفسيره: «الغازي في سبيل الله وهم الغزاة المتطوعة، الذين لا ديوان لهم، فيعطون من الزكاة ما يعينهم على غزوهم من ثمن سلاح أو دابة، أو نفقة له ولعياله ليتوفر على الجهاد ويطمئن قلبه. وقال كثير من الفقهاء: إن غير القادر على الكسب لطلب العلم أعطي من الزكاة؛ لأن العلم داخل في الجهاد في سبيل الله. وقالوا أيضًا: يجوز أن يعطى منها الفقير لحج فرضه، وفيه نظر»([10]).
وفي التفسير المبين: «وسبيل الله حكم واسع، فكلما كان هذا في السبيل محل للصدقة، ومن ذلك بناء المساجد والمستشفيات والملاجئ للمعوزين، والمدارس لتعليم القرآن، وسائر العلوم المشروعة، ومن ذلك النفقة على ذوي المجاهدين ورعاية الأيتام، والنفقة على العلماء والدعاة الذين يتعرضون للتضييق عليهم في أرزاقهم»([11]).
قلت: إن الله -عز وجل- لما قال وقوله الحق: {وَفِي سَبِيلِ اللّهِ} لم يحدد المراد من هذا السبيل، بل أطلق الحكم توسعةً لعباده ليصرفوا من صدقاتهم ما يرونه محققًا للحكم، وهو إخراجها في سبيل الله، وهذا السبيل واسع، فالسفر إلى بيت الله الحرام للحج أو العمرة سبيل من سبل الله، وبناء المساجد لعبادة الله وطاعته من سبل الله، وبناء مسجد في بلاد نائية لا تجد الأقلية المسلمة فيها موضعًا لعبادة الله من أعظم القربات، سيما في هذا العصر الذي يجد المسلم فيه تحديًا في دينه. وقد مدح الله من يعمر المساجد بقوله عز ذكره: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:18]. وبين رسوله محمد ﷺ فضل بنائها، فقال: «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ أَوْ أَصْغَرَ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ»([12])، وبناء مدرسة لأيتام المسلمين للحفاظ على دينهم وحفظهم من الضياع سبيل من سبل الله، وإعانة الدعاة الصالحين الذين يبلغون رسالة الله إلى عباده سبيل من سبل الله… والأمثلة تطول. ومن حكمة الله وعلمه بأحوال عباده وتقلب أزمنتهم وتعدد حاجاتهم جعل هذا الحكم عامًّا، فقد يتوقف الجهاد في زمان، فلا يكون هناك حاجة لصرف الصدقة فيه، كما هو الحال في هذا الزمان، وقد يكثر المال في أيدي العباد فلا تجد من يطلب الإعانة لحج أو عمرة، وفي مقابل ذلك قد تكون الحاجة أكثر لعلاج المرضى في زمان دون آخر، فيكون صرف الصدقة لإنشاء مستشفى أشد حاجة وأعظم أجرًا. فالمهم أن يكون صرف الصدقة في سبيل من سبل الله مما هو معلوم من الدين بالضرورة، وأن يكون ذلك ابتغاء وجهه الكريم وتنفيذ أمره وأمر رسوله محمد ﷺ.
([1]) بدائع الصنائع للكاساني ج2 ص68-89، وحاشية ابن عابدين ج2 ص343.
([2]) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج7 ص186.
([3]) أحكام القرآن لابن العربي ج2 ص969.
([4]) المجموع شرح المهذب للنووي ج6 ص211.
([5]) المغني لابن قدامة ج4 ص125.
([6]) المغني لابن قدامة ج4 ص126.
([7]) تفسير الرازي ج15 ص115-116.
([8]) فتح البيان في مقاصد القرآن لصديق حسن خان القنوجي ج6 ص197.
([9]) التحرير والتنوير ج10 ص239-240.
([10]) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص341.
([11]) التفسير المبين ج4 ص141.
([12]) أخرجه ابن ماجه في كتاب المساجد والجماعات، باب من بنى لله مسجدًا، سنن ابن ماجه ج1 ص244، رقمه(738)، صححه الألباني في صحيح ابن ماجه، (٦٠٩).