سؤال يقول: إن هناك أقوالًا بأن كل ما خرج من الأرض فيه زكاة وأقوالًا أخرى تقول: إن بعضًا مما يخرج من الأرض فيه زكاة وليس في كل ما يخرج منها.

أقوال العلماء في زكاة ما ينبت من الأرض

إن الذين يوفقهم الله لطاعته يحرصون كل الحرص على ما يبرئ ذممهم؛ طاعة له وطاعة لرسوله فيكونون أشد حرصًا على إخراج زكاة أموالهم؛ لأن الزكاة قرينة الصلاة، ولأن عدم إخراجها مدعاة لسخط الله وعقابه، كما قال عز وجل: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيم} [التوبة:34]. وأخوف ما يخافه المتقون أن يتسلط عليهم الشيطان، فيزداد عندهم حب المال، فيتهاونون في إخراج زكاته، والمتقون عندما يحرصون على إخراج زكاة أموالهم قد يلتبس عليهم ما تجب فيه الزكاة وما لا تجب، ومن ذلك (كل) ما يخرج من الأرض أو (بعضه).

وفي هذا ثلاثة أقوال:

القول الأول: إن الزكاة تجب في كل ما خرج من الأرض. والأصل فيه قول الله – عز وجل -: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ} [البقرة:267]، وقوله – عز ذكره -: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، ففي الآية الأولى أمر بالإنفاق مقيد بالطيب من الكسب، فانتفى منه كل ما كان خبيثًا من الكسب، سواء في ذاته أو صفته أو مآله؛ لأن الزكاة طاعة الله، والله لا يقبل من العمل إلا الطيب منه، وفي الآية الثانية تذكير من الله لخلقه بأنه وحده الذي ينشئ الجنات المعرش منها، وغير المعرش، وكل ما ينبت في الأرض؛ لأن هذا الإنشاء محكوم بقدرته وخلقه، وفي آخر الآية أمر بالأكل منه مع الوفاء بحقه بعد حصاده، وهو هنا زكاته؛ ولعموم الحكم تباينت آراء الفقهاء حول ما إذا كان الوفاء بالحق يشمل كل ما ينبت في الأرض أم يقتصر على بعضه، خاصة أن الأرض تنبت أنواعًا مختلفة من النبات، وقد رأت طائفة من العلماء أن النص عام يشمل كل ما خرج من الأرض، ومن هؤلاء عمر بن عبدالعزيز ومجاهد وإبراهيم النخعي([1]).

ومنهم الإمام أبو حنيفة: حيث يرى وجوب الزكاة فيما خرج من الأرض، مما يقصد به نماؤها واستغلالها عادة، باستثناء الحشيش والقصب الفارسي والحطب؛ لأن هذه الأشياء لا تستنمى بها الأرض ولا تستغل بها، وعنده أنه لا فرق بين ثمرة الخارج من الأرض وبين بقائها من عدمه، بل يجب العشر، سواء كان الخارج له ثمرة باقية أوليس له ذلك، وهي الخضراوات كالبقول والخيار والقثاء والبصل والثوم. وعنده أن أحق ما تناوله في قول الله -عز وجل -: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ}، الخضراوات؛ لأنها هي مخرجة من الأرض حقيقة خلاف الحبوب، فإنها غير مخرجة من الأرض حقيقة بل من المخرج من الأرض… واستدل الإمام أبو حنيفة على رأيه بقول الله تعالى: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}، فالحصاد القطع، وأحق ما يحمل الحق عليه الخضراوات؛ لأنها هي التي يجب إيتاء الحق منها يوم القطع. وأما الحبوب فيتأخر الإيتاء فيها إلى وقت التنقية، كما استدل بقول رسول الله ﷺ: (فما سقت السماء والعيون العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر)([2]) من غير تفريق بين الحبوب والخضراوات؛ ولأن سبب الوجوب هو الأرض النامية بالخارج. والنماء بالخضر أبلغ؛ لأن بيعها أوفر([3]).

ومن الذين قالوا بشمول الحكم كل ما خرج من الأرض داود بن علي الظاهري فيرى أخذ الزكاة في كل ما انبتت الأرض سواء الحشيش أو غيره([4]).

وأما القول الثاني: فيرى طائفة من التابعين أن الزكاة لا تجب إلا في أربعة أنواع فقط، هي: الحنطة والشعير والتمر والزبيب، وعلى هذا فلا تجب في الخضراوات والفواكه، واستدل من قال بهذا بما رواه أبو موسى ومعاذ بن جبل أن رسول الله ﷺ لما بعثهما إلى اليمن يعلمان الناس أمر دينهم لما يأمرهما بأخذ الصدقة إلا من هذه الأنواع الأربعة([5]).

وأما القول الثالث: فلا يوجب الزكاة إلا في المدخر المقتات من النبات، وعلى هذا لا تجب الزكاة في الفواكه والخضراوات.

فالإمام مالك وأصحابه يرون الزكاة واجبة في كل مقتات مدخر، ومالا فلا، أي لا تجب في التين مثلًا إذا كان رطبًا أما إذا كان يابسًا فتجب فيه الزكاة([6]).

وفي مذهب الإمام الشافعي تجب الزكاة في الأقوات كثمار النخل والعنب، وأما ما سوى الأقوات فلا تجب الزكاة في معظمها بلا خلاف، وفي بعضها خلاف، فما لا زكاة فيه بلا خلاف التين والسفرجل والخوخ والتفاح… ومن المختلف فيه الزيتون ففي القول الجديد لا زكاة فيه وفي القول القديم تجب ببدو صلاحه([7]).

وفي مذهب الإمام أحمد تفصيل للأنواع التي تخرج منها الزكاة، قال أبو القاسم([8]) ما نصه (وكل ما أخرج الله – عز وجل – من الأرض مما يبس ويبقى مما يكال ويبلغ خمسة أوسق فصاعدًا ففيه العشر إن كان سقيه من السماء والسيوح (الماء الجاري)، وإذا كان يسقى بالدوالي والنواضح، وما فيه الكلف فنصف العشر)([9]).

وعلى هذا، يجب أن تتوافر في زكاة ما يخرج من الأرض من الحبوب والثمار مما تنبته الأرض ثلاثة شروط، هي: أن يكون مكيلًا وباقيًا ويابسًا، سواء كان هذا المنتج قوتًا كالحنطة والأرز والذرة والدخن، أو كان من القطنيات (والمراد بها الحبوب التي تدخر) كالعدس والباقلا والحمص، أو كان هذا المنتج من الأبازير كالكزبرة والكمون والكراويا، أو البزور كبزر الكتان والقثاء والخيار، أو حب البقول كالرشاد وحب الفجل والترمس والسمسم. وعلى هذا، فلا تجب في سائر الفواكه كالخوخ والكمثرى والتفاح والمشمش والتين، ولا في الخضر كالقثاء والخيار والباذنجان([10]).

والعلة في عدم إخراج هذه الأنواع من الفواكه والخضراوات كونها لا تكال ولا تدخر، وفي المذهب: يجب أن يبلغ مكيال الأنواع التي تكال أو تقتات وتدخر خمسة أوسق؛ لقول رسول الله ﷺ: (ليس في حب ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق)([11]). والوسق ستون صاعًا.

قلت: هذا هو موجز أقوال العلماء في زكاة ما ينبت من الأرض، ولعل تباين آرائهم في الأنواع التي تجب فيها الزكاة والأنواع التي لا تجب فيها يرجع إلى أماكن وجودهم، واعتياد اقتيات أنواع من المنبتات في هذا المكان وعدم اقتياته في مكان آخر، فالتين المجفف والكزبرة والكمون ونحوهم قد تكال وتدخر في بلاد الشام والعراق مثلًا، بينما اعتياد هذه الأنواع قليل أو نادر في مكان آخر، فيكون الرأي متباينًا فيما تجب فيه الزكاة وما لا تجب فيه.

ولعل ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة ومجاهد هو الأقرب لبراءة الذمة في وجوب العشر أو نصفه في الخارج من الأرض مما هو مراد به استغلالها ونماؤها دون تمييز بين القمح والخضراوات وغيرها.

وقد يسأل سائل: كيف يمكن إخراج الزكاة من الفواكه والخضراوات وهي سريعة العطب فيجاب عن ذلك بأن التقنية الحديثة غيرت من المفاهيم السابقة، بما توفره من تبريد وتجميد. وعلى فرض وجود هذا المحذور بحيث لم يتيسر إخراج زكاة الخضراوات والفواكه عينًا، يترتب الحكم بإخراج زكاتها من أثمانها، وفي هذا قال الزهري: ما كان سوى القمح والشعير والنخل والعنب والسلت والزيتون، فإني أرى أن تخرج صدقته من أثمانه([12]). وقال عطاء الخراساني: ليس في الخضر والجوز واللوز والفاكهة كلها عشر فما بيع منه فبلغ مائتي درهم فصاعدًا ففيه الزكاة.

قلت: وقد سمعنا أن الزراع من أهل هذه البلاد -حماها الله– كانوا فيما مضى من قريب الزمان يدفعون لمن ليس له زراعة زكاة زروعهم من البصل والثوم والبطيخ والخضراوات، وأنواع الأبازير كالكمون والرشاد ونحوهما، وهم إن كانوا لا يتقيدون في ذلك بنص قيل لهم، فإنهم يرون ذلك حقًّا لمن ليس له زراعة؛ لأنهم يدركون أن في الزكاة لأي نوع من أنواع النبات بركة له وتطهيرًا لهم؛ عملًا بقول الله – عز وجل -: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم} [التوبة:103]. وعملًا بقول رسول الله ﷺ: «ما نقصت صدقة من مال»([13]).

وخلاصة المسألة: أن للعلماء ثلاثة أقوال في زكاة ما يخرج من الأرض. القول الأول: وجوب الزكاة في (كل) ما خرج من الأرض، ويشمل ذلك الحبوب والفواكه والخضراوات. القول الثاني: إنها لا تجب إلا في أربعة هي الحنطة والشعير والتمر والزبيب، وعلى هذا لا تجب في الخضراوات ولا في الفواكه. وأما القول الثالث: فيوجب الزكاة في المدخر المقتات من النبات، وعلى هذا لا تجب الزكاة في الفواكه والخضراوات إلا ما كان منها مكيلًا وباقيًا ويابسًا كالتين إذا يبس، وأن يكون المنتج خمسة أوسق أي ستين صاعًا…

ولعل ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة ومجاهد هو الأقرب لبراءة الذمة في وجوب العشر أو نصفه في الخارج من الأرض، مما هو مراد به استغلالها وإنماؤها دون تمييز بين القمع والخضراوات وغيرها؛ لأن في زكاة هذا الخارج نماء له وبركة فيه، وتطهيرًا لصاحبه من تبعات المال، وقد كان هذا دأب الزراع فيما مضى من قريب الزمان في إخراج زكاة ما خرج من أرضهم حقًّا لإخوانهم الفقراء.   والله تعالى أعلم

 

([1]) المحلى لابن حزم ج16/4.

([2]) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب العشر فيما يسقى من ماء السماء وبالماء الجاري برقم (1483) ج3 ص 407.

([3]) بدائع الصنائع للكاساني ج2ص 58 وحاشية الطحطاوي على الدر المختار ج1ص418 وشرح فتح القدير ج2ص244-245وحاشية المختار ج2ص327.

([4]) المحلى بالآثار ج4ص16.

([5]) أخرجه الدارقطني ج2ص 482.

([6]) جامع الأحكام الفقهية للإمام القرطبي ج1 ص316، والكافي في فقه أهل المدينة للقرطبي ص 100.

([7]) روضة الطالبين للنووي ج2ص231.

([8]) هو عمر بن الحسين بن عبدالله، أبو القاسم، الخرقي بغدادي نسبته إلى بيع الخرق، من كبار فقهاء الحنابلة. رحل عن بغداد لما ظهربها سب الصحابة زمن بني بويه، وترك كتبه في بيت ببغداد فاحترقت لم تكن انتشرت، وبقي منها مختصره المشهور بـ »مختصر الخرقي« الذي شرحه ابن قدامة في «المغني» وغيره. طبقات الحنابلة ج2 ص 75 والأعلام للزركلي ج5ص 202.

([9]) المغني لابن قدامة ج4ص155-168.

([10])    نفس المرجع.

([11])    أخرجه الإمام أحمد في المسند ج 3 ص74، حكم ابن حجر العسقلاني على الحديث في هداية الرواة، (٢/٢٥٩): [حسن كما قال في المقدمة].

([12])    كتاب الأموال، ص 504.

([13])    أخرجه مسلم مطولا (٢٥٨٨).