الاستهزاء في اللغة: السخرية([1]).
وأما في الاصطلاح: فهو إظهار المستهزئ للمستهزأ به من القول والفعل ما يرضيه ويوافقه ظاهرًا، وهو بذلك من قيله وفعله به مورطة مساءته باطنًا: وكذلك معنى الخداع والسخرية والمكر([2]).
والأصل في تحريم الاستهزاء بما هو معلوم من الدين الكتاب والسنة والإجماع والمعقول. أما الكتاب، فقد كان المنافقون في عهد رسول الله r يحذرون أن تنزل عليه سورة تنبئه بما كانوا يخفونه في نفوسهم من النفاق والاستهزاء به وبدين الله، فنزل فيهم قول الله -عز وجل-: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُون*وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُون*لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 64- 66].
وسبب نزول هذه الآية كما ذكر ابن إسحاق في السيرة النبوية أن جماعة منهم وديعة بن ثابت أخو بني عمرو بن عوف، ومنهم رجل من أشجع، يقال له مخشي بن حمير يشيرون إلى رسول الله r وهو يسير إلى تبوك، فقال بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضًا؟ والله لكأنا بكم غدًا مقرنين في الحبال، وكان هذا إرجافًا للمؤمنين وترهيبًا لهم، فقال مخشي بن حمير: والله لوددت أن أقاضي على أن يضرب كل رجل منا مئة جلدة، وأننا تنفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه. وقال رسول الله r فيما بلغني لعمار بن ياسر: (أدرك القوم، فإنهم قد احترقوا، فاسألهم عما قالوا، فإن أنكروا، فقل: بلى قلتم كذا وكذا. فانطلق إليهم عمار، فقال ذلك لهم، فأتوا رسول الله r يعتذرون إليه، فقال وديعة بن ثابت ورسول الله r واقف على راحلته، فجعل يقول وهو آخذ بحقبها: يا رسول الله إنما كنا نحوض ونلعب. فقال مخشي بن حمير: يا رسول الله قعد بي اسمي واسم أبي، فكان الذي عفا عنه في هذه الآية مخشي بن حمير في قول الله تعالى: {إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِين} [التوبة: 66] فتسمى عبدالرحمن، وسأل الله أن يقتل شهيدًا لا يعلم بمكانه، فقتل يوم اليمامة ولم يوجد له أثر([3]).
كما نزل في المستهزئين بدين الله قول الله تعالى – عز وجل – مخبرًا عن المنافقين قولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُون * اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون} [البقرة: 14-15] وقوله عز ذكره : {وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231] وقوله جل ثناؤه: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} [التوبة: 79].
أما السنة، فقول النبي r: «ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة»([4]).
وأما الإجماع: فإن الأمة مجمعة في سلفها وخلفها على أن من استهزأ بالله أو برسوله أو بأي أمر من أمور الدين المعلومة يعد كافرًا.
وفي مذهب الإمام أبي حنيفة: أن الاستهزاء بشيء من الشرائع كفر([5]).
وفي مذهب الإمام مالك قال القاضي أبو بكر بن العربي: لا يخلو أن يكون ما قالوه من ذلك جدًا أو هزلًا، وهو كيفما كان كفر، لا خلاف عليه بين الأمة، فإن التحقيق أخو العلم، والحق، والهزل أخو الجهل والباطل([6]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: ذكر الإمام النووي، أن الأفعال الموجبة للكفر هي التي تصدر عن تعمد واستهزاء بالدين صريح .. وتحصل الردة بالقول الذي هو كفر، سواء صدر عنه اعتقاد أو عناد أو استهزاء([7]).
وفي مذهب الإمام أحمد: أن ما ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية في شأن الاستهزاء بدين الله دليل على أنه من الكبائر … وأن الاستهزاء هو السخرية، وهو حمل الأقوال والأفعال على الهزل واللعب لا على الجد والحقيقة([8]).
وأما المعقول في تحريم الاستهزاء، فإن الأصل في الكلام حقيقته، فإذا خرج عن هذه الحقيقة يصبح إما أن يكون كذبًا، والكذب محرم، وأشده حرمة إذا كان مناطة الاستهزاء بدين الله أو بأي أمر منه، أو يكون القول عبثًا، والعقل ضد العبث في القول أو الفعل؛ فالمستهزئ في قوله يغلب عليه الخلط بين الجد والهزل؛ فيمقته الناس ولو استمعوا؛ له لأنهم لا يصدقونه ومن لا يصدقه الناس يسقط من عقولهم فلا ينبغي إذا لعاقل أن يستهزئ في قوله أو فعله، ولو كان على سبيل المزاح.
قلت: فهؤلاء الذين ورد ذكرهم في السؤال آثمون؛ لأن الذين خلق الإنسان وخلق لحيته وشعره هو الله، فإن كانوا يعترضون على هذا الخلق فقد ضلوا ضلالًا مبينًا واستهزاؤهم يعد كفرًا صريحًا يجب عليهم التوبة منه. وإن كانوا قد قالوا قولهم على سبيل المزاح فهم كذلك آثمون ويكفرون؛ لأن المنافقين الذين قالوا قولهم كانوا يتمازحون بينهم، فوصفهم الله بالكفر بعد إيمانهم، ووعدهم بالعذاب لإجرامهم، ولم يعف إلا عن مخشي بن حمير؛ لأنه استمع إليهم، والاستهزاء بأي أمر من أمور الدين كفر بلا شك، بدلالة الآية ولوكان على سبيل المزاح، وقد يقال: إنه كفر دون كفر، لا يخرج به المازح من الإسلام. وأيًّا كان القول في ذلك، فإن من يستهزئ بأي أمر من أمور الدين (ولو كان من غير قصد لحقيقة الاستهزاء) يعد آثمًا إثمًا كبيرًا، وعليه التوبة النصوح، عسى الله أن يتوب عليه.
وخلاصة المسألة: أن الاستهزاء بأي أمر من أمور الدين محرم بنص الكتاب والسنة والإجماع، والذين ورد ذكرهم في السؤال يعدون آثمين؛ لأن الذي خلق الإنسان وخلق لحيته وشعره هو الله، فإن كانوا يعترضون على هذا الخلق فقد ضلوا ضلالًا مبينًا؛ لأن استهزاءهم يعد كفرًا صريحًا، ويجب عليهم التوبة منه، وإن كانوا قد قالوا قولهم على سبيل المزاح، فهم كذلك آثمون ويكفرون، وقد يقال: إنه كفر دون كفر، لا يخرج به المازح من الإسلام لانتفاء القصد.
وأيًّا كان القول في ذلك، فإن من يستهزئ بأي أمر من أمور الدين (ولو كان من غير قصد لحقيقة الاستهزاء) يعد آثمًا إثمًا كبيرًا؛ لأنه قد يكفر وقارب الكفر، وعليه التوبة النصوح، عسى الله أن يتوب عليه.
([1]) مصباح المنير للفيومي ص638.
([2]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن ج1ص315.
([3]) السيرة النبوية، لابن إسحاق ج2ص 277-278.
([4]) أخرجه الترمذي في كتاب الطلاق، باب ما جاء في الجدّ ة والهزل في الطلاق ج3ص490، وقال حسن غريب.
([5]) قرة عيون الأخيار تكملة رد المحتار على الدر المختار ج7ص115.
([6]) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج9ص 197.
([8]) الفتاوى الكبرى، لابن تيمية ج6ص 22 وكشاف القناع، للبهوتي ج6ص168.