سؤال يقول : إن بعض أئمة المساجد وخاصة الشباب منهم يقنتون في الفرائض بحجة حدوث النوازل،ويطيلون في الدعاء وقد يعتدون فيه، مما يصعب على المأمومين فهمه، فما حكم هذا الدعاء؟

القنوت في الفرائض عند النوازل والتعدي فيه

دعاء القنوت مما اختلف العلماء فيه، وفي كيفيته، وفي وقته، فمنهم من قال‏: إنه قد نسخ بترك رسول الله ﷺ له، ومنهم من قال‏: إن الدعاء الذي ورد فيه هو الذي علَّمه رسول الله ﷺ للحسن بن علي فيما رواه رضي الله عنهما قال‏: «علمني رسول الله ﷺ كلمات أقولهن في الوتر‏: «اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت»([1]). ومنهم من قال بدعاء آخر كدعاء عمر – رضي الله عنه – بقوله‏: اللهم إنَّا نستعينك ونستغفرك، ونتوب إليك، ونؤمن بك، ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير كله، ولا نكفرك اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد… إلخ.

ومنهم من قال بجواز القنوت في الفرائض، ومنهم من قال‏: إن رسول الله ﷺكان يقنت في المغرب والفجر فقط، ومنهم من قال بأن القنوت في النوافل مقيد في النصف الأخير من شهر رمضان، ومنهم من قال بجوازه في جميعه. ومنهم من قال بالتخيير بين فعله وتركه؛ فإن قنت في جميع ليالي شهر رمضان أو في نصفه الأخير أو لم يقنت فيه ففعله جائز.

قلت‏: والقنوت في ليالي رمضان مما تعارفه السلف؛ ابتغاء إجابة الدعاء فيه لفضله وعظمه عند الله، وإن كان من الأفضل عدم المداومة عليه في الليالي؛ حتى لا ينظر إليه أنه واجب يجب عدم تركه، وبمثل هذا رأى الإمام مالك – رحمه الله – عدم صيام ستة أيام من شوال؛ خشية أن تلحق برمضان بفعل المداومة عليها([2]). والأفضل أن يكون دعاء القنوت مما ورد النص عليه في حديث الحسن بن علي – رضي الله عنهما – ولا بأس من الزيادة عليه كما ذكر، ولكن لا يجب إطالة هذا الدعاء أو التعدي فيه، بما لم يرد النص عليه في الكتاب أو السنة، كما يفعل بعض أئمة المساجد، من السجع والترتيل ورفع الصوت في المكبرات لجمع المصلين حولهم.

أما القنوت في الفرائض فله حكم آخر، ففي حديث سالم عن أبيه أنه سمع رسول الله ﷺ يقول‏: إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الثانية من صلاة الفجر‏: اللهم العن فلانًا وفلانًا، بعدما يقول‏: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، فأنزل الله عليه قوله تعالى‏: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُون} [أل عمران: 128] وفي قول آخر‏: كان – عليه الصلاة والسلام – يقول‏: اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن سهيل بن عمرو، اللهم العن صفوان بن أمية، فنزلت هذه الآية فتاب الله عليهم كلهم([3]). وفي قول آخر أنه عليه الصلاة والسلام كان يدعو على مضر بقوله‏: اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف، وكان يجهر بذلك فنزلت الآية، فهذه الروايات صحيحة، وإن اختلفت في بعض ألفاظها، وحاصلها أنه – عليه الصلاة والسلام – كان يدعو على أناس بعينهم، فنهاه الله عن ذلك بقوله‏: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}، أي أن الأمر كله لله، فهو أعلم بخلقه، كما قال عز وجل‏: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء} [البقرة: 272] وقوله‏: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَاب} [الرعد: 40] وقوله: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} أي يقبل توبتهم ويرحمهم {أَوْ يُعَذَّبَهُمْ}إذا أصروا على كفرهم، وقد امتثل رسول الله ﷺ لأمر ربه فترك الدعاء على أولئك الأقوام وغيرهم.

والحكمة في النهي واضحة؛ ذلك أن الله – عز وجل – أعلم بأحوال خلقه ومآلهم، وما كتب لهم قبل خلقهم؛ فقد يصبح العبد كافرًا ويمسي مؤمنًا وقد يصبح مؤمنًا ويمسي كافرًا، وقد يصبح العبد عدوًّا ويمسي مجاهدًا؛ فقد كان خالد بن الوليد – رضي الله عنه – عدوًّا للمسلمين في غزوة أحد، ثم أصبح سيفًا من سيوف الله على المشركين، فنصر الله به الإسلام وعز به المسلمين؛ فالأمر إذًا مقيد بمشيئة الله وحكمته وتدبيره لخلقه، ومآل العبد حسب عمله، وفوق ذلك كله رحمة الله له. وفي الحديث الطويل الذي رواه عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – أن رسول اللهﷺ قال‏: «فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها»([4]).

ولما كان الله – عز وجل – قد جعل له الأمر كله وهو الحق، فقد اقتضى ذلك عدم جواز سب شخص أو أشخاص أو قوم بعينهم أو لعنهم، وترك أمرهم إلى الله، كما أمرنا عز وجل بذلك، وهو أحكم الحاكمين، وأعلم بأحوال خلقه أجمعين برهم وفاجرهم ومؤمنهم وكافرهم {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِين} [يونس: 61].

قلت‏: هذا حكم القنوت في الأحوال الخاصة؛ أما في الأحوال العامة، أي ما يحدث من النوازل، بين المسلمين كالزلازل والطاعون أو الأوبئة الشديدة السارية أو البراكين أو الفيضانات، فهذه مما يحسن القنوت فيها من قبل المسلمين إذا وقعت في بلد من بلدانهم؛ لكونهم أمة واحدة، كما قال – عز وجل-‏: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُون} [الانبياء: 92] وقوله – عز ذكره -‏: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، ولا شك أن الدعاء الصالح من البر والتقوى، وفيه قال رسول الله ﷺ‏: «المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضًا. وشبك بين أصابعه»([5]) وقال – عليه الصلاة والسلام -‏: «المسلم كالجسد الواحد، إذا اشتكى فيه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»([6]) وفي القنوت في النوازل مسألتان‏: الأولى – الواجب أن يكون في صلاتي المغرب والفجر؛ اتباعًا لسنة رسول اللهﷺ، فقد قنت – كما ذكر آنفًا في صلاتي المغرب والفجر، ولا يكون في غيرهما، والأصل اتباع سنته لقوله الله – عز وجل-‏: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].

المسالة الثانية‏: أن يكون القنوت في النوازل بإذن ولي الأمر أو من يقوم مقامه؛ لأن القنوت حالة خاصة يقدرها ولي الأمر أو من يقوم مقامه؛ لأن الأفهام تختلف حول ما إذا كانت هذه أو تلك نازلة، فإذا ترك الأمر لتقدير أئمة المساجد اختلط الأمر وثار الخلاف،؛ لأن منهم من يرى هذه نازلة، ومنهم من لا يراها كذلك.

وخلاصة المسألة‏: إن دعاء القنوت في ليالي رمضان مما تعارف عليه السلف ابتغاء إجابة الدعاء فيه، وإن كان من الأفضل عدم المداومة عليه في كل الليالي حتى لا ينظر إليه أنه واجب يجب عدم تركه. والأفضل أن يكون دعاء القنوت مما ورد النص عليه، ولكن لا يحسن إطالته أو التعدي فيه بما لم يرد النص عليه في الكتاب أو السنة، كما يفعل بعض أئمة المساجد من السجع والترتيل ورفع الصوت في المكبرات.

أما القنوت في الفرائض على أناس بعينهم فقد فعله رسول الله ﷺ فنهاه الله عنه؛ لأنه جعل الأمر كله له، وهو أعلم بأحوال خلقه ومآلهم؛ فاقتضى هذا عدم جواز سب شخص أو أشخاص أو طوائف بعينهم أو لعنهم، وترك أمرهم له. وأما إذا حل ببلد من بلاد المسلمين نازلة شديدة، كالبراكين أو الفيضانات أو الزلازل فيحسن القنوت والدعاء برفعها عنهم، على أن يكون هذا القنوت في صلاتي المغرب والفجر وليس في غيرهما؛ اتباعًا لسنة رسول الله ﷺ وأن يكون هذا القنوت بإذن ولي الأمر أو من يقوم مقامه؛ لأن الأفهام تختلف حول ما إذا كانت هذه أو تلك نازلة، فإذن ولي الأمر يرفع الخلاف.

 

([1])  انظر أقوال الفقهاء في القنوت، في حاشية رد المختار لابن عابدين على الدر المختار في فقه الإمام أبي حنيفة، ج2، ص 11-12 ، وروضة الطالبين للإمام النووي، ج1، ص 253-255، وكتاب الفروع لابن مفلح، ج1، ص 243-539، والإنصاف في معرفة الراحج من الخلاف للمرداوي، ج2،ص 170-176، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ج23، ص 10-107.

([2])  مواهب الجليل شرح مختصر الخليل، ج3، ص 329.

([3])  أخرجه الترمذي في كتاب التفسير باب(4)من سورة آل عمران برقم (3004)، ج5، ص212.

([4])  والحديث بكامله ما رواه عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – قال حدثنا رسول الله ﷺوهو الصادق المصدوق قال‏: ‏«إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً فيؤمر بأربع كلمات ويقال له اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه كتابه فيعمل بعمل أهل النار ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها». أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء باب خلق آدم وذريته برقم(3332) فتح الباري، ج6، ص418. ومسلم (٤/٢٠٣٦ رقم ٢٦٤٣).

([5])  أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب تعاون المؤمنين بعضهم بعضاً برقم(6026) ، ج10.ص464.

([6])  أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم برقم(6011)، فتح الباري، ج10، ص452.