سؤال يقول: إن الأقوال بدأت تتزايد في زماننا حول جواز دفع الرشوة بحجة الضرورة.

حكم دفع الرشوة بحجة الضرورة

الرشوة في اللغة: ما يعطيه الشخص للحاكم أو غيره ليحكم له أو يحمله على ما يريد. هكذا عرفها الفيومي صاحب المصباح المنير، ومعناها في الاصطلاح الشرعي لا يخرج عن هذا.

وحرمة الرشوة معلومة من الدين بالضرورة، والأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع والمعقول.

أما الكتاب: فنَهْيُ الله للمؤمنين عن أكل أموالهم بينهم بالباطل في قوله -عز وجل-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29]، والنهي هنا يقتضي التحريم الموجب للعقاب الشديد، بدليل الآية التالية في قوله -تعالى-: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا} [النساء:30]، وقوله -عز وجل- في وصف نفر من أسلاف اليهود: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة:42]، وهو هنا الرشا.

وأما تحريم الرشوة في السنة: فقول رسول الله -ﷺ- : «كل لحم نبت بالسحت فالنار أولى به»، قالوا: يا رسول الله! وما السحت. قال: «الرشوة في الحكم»([1]). وقوله -عليه الصلاة والسلام-: «لعن الله الراشي والمرتشي والرائش»([2]).

وأما الإجماع: فقد أجمعت الأمة في سلفها وخلفها على أن الرشوة حرام على المعطي والآخذ والوسيط بينهما؛ لما في ذلك من أكل المال بالباطل، والظلم، وفقد العدل، وقد حرم الله الظلم على نفسه، وجعله محرمًا بين عباده كما ورد في الحديث القدسي: «يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا»([3])، ومن أشد أنواع الظلم أن يحكم الحاكم لآخر بناء على ما دفعه له من مال أو هدية.

وكما حرم الله الظلم أوجب العدل بين عباده، وأمرهم به في قوله -عز ذكره-: {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} [النساء:58]، وقوله: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النحل: 90]، ومن منافاة العدل: أن يحكم الحاكم لأحد الخصوم بناء على ما دفعه له من مال أو هدية.

وأما المعقول: فإن من المعلوم عقلًا أن كل صاحب مال يختص بماله، وهذا الاختصاص يقتضي حكمًا وعقلًا عدم التعدي عليه دون سبب مشروع، فمن دفع رشوة لحاكم أو نحوه؛ ليحكم له به، فقد تعدى عليه؛ لأكله ماله بالباطل، ومن عاونه في هذا الحكم آخذًا أو وسيطًا فقد شاركه في التعدي، فأصبح كل منهما مشمولًا بالطرد من رحمة الله.

ولا تختلف أقوال الفقهاء – رحمهم الله – في مسألة التحريم، وإن كان بعضها يذهب إلى التفصيل، فيخرج من حكمها ما يراه محكومًا بالضرورة للمعطي.

ففي مذهب الإمام أبي حنيفة أن الرشوة تنقسم إلى أربعة أقسام:

الأول: الرشوة المحرمة على الآخذ والمعطي: كالرشوة التي تعطى للقاضي ليحكم له، ويأثم المعطي في إعطاء الرشوة على ذلك الوجه، ولو كان محقًّا في دعواه، ويأثم القاضي إذا حكم لذلك الرجل بناء على الرشوة التي أخذها، ولو كان الراشي محقًّا في دعواه، ويكون ملعونًا([4]).

الثاني: الرشوة المحرمة على الآخذ وغير المحرمة على الدافع: كما لو دفع أحد رشوة لأحد لخوفه على نفسه، أو ماله، أو دفع أحد لآخر رشوة لتحققه طمعه في ماله، وبقصد تخليص بعض ماله منه، فأخذ الرشوة من طرف الآخذ حرام وممنوع، ولكن ليس محرمًا إعطاؤها([5]).

الثالث: لو كان لأحد أمر محق فيه عند والٍ، فأدى لأحد الأشخاص غير الموظفين مالًا لِيُتِمَّ ذلك الأمر، فيحل دفع ذلك وأخذه؛ لأنه وإن كانت معاونة الإنسان للآخر بدون مال واجبة، فأخذ المال مقابل المعاونة لم يكن إلا بمثابة أجرة([6]).

الرابع: أن يكون أخذه وإعطاؤه حلالًا، حيث لم يكن رشوة، بل هو بدل إيجار: وهو كما ذكر في القسم الثالث، وهو إذا استأجر أحد آخر ليقوم له بشغل والوقت مساء بكذا درهمًا، فاستخدم ذلك الرجل في شغل آخر مباح([7]).

وفي مذهب الإمام مالك: أن أخذ الرشوة حرام، وإنما التفصيل في دفعها لهم، فإن كان الدفع لأجل تحقيق حق، أو إبطال باطل جاز، وإن كان لتحقيق باطل أو إبطال حق حرم([8]).

وفي مذهب الإمام الشافعي: أن الرشوة حرام مطلقًا، قال الإمام النووي: «الرشوة حرام مطلقًا، والهدية جائزة في بعض الأحوال، فيطلب الفرق بين حقيقتيهما، مع أن الباذل راضٍ فيهما، والفرق من وجهين:

أحدهما: أن الرشوة هي التي يشرط على قابلها الحكم بغير الحق، أو الامتناع عن الحكم بحق، والهدية هي العطية المطلقة.

الوجه الثاني: ما نقله عن الغزالي من أن المال إما يبذل لغرض آجل، فهو قربة وصدقة، وإما لعاجل وهو إما مال فهو هبة بشرط ثواب، أو لتوقع ثواب، وإما عمل، فإن كان عملًا محرمًا، أو واجبًا متعينًا، فهو رشوة، وإن كان مباحًا فإجارة أو جعالة، وإما للتقرب والتودد إلى المبذول له، فإن كان بمجرد نفسه فهدية، وإن كان ليتوسل بجاهه إلى أغراض ومقاصد، فإن كان جاهه بالعلم أو النسب فهو هدية، وإن كان بالقضاء والعمل فهو رشوة([9]).

وفي مذهب الإمام أحمد: ذكر الإمام ابن قدامة أن الرشوة في الحكم ورشوة العامل حرام بلا خلاف، ثم ذكر أن الراشي إن رشا المرتشي ليحكم له بالباطل، أو يدفع عنه حقًّا فهو ملعون، أما إن رشاه ليدفع ظلمه، ويجزيه على واجبه، فذكر أن طائفة من العلماء قالوا: لا بأس أن يصانع عن نفسه، وذكر أن جابر بن زيد قال: ما رأينا في زمن زياد (يقصد زياد بن أبيه) أنفع لنا من الرشا([10]).

قلت: لأهمية أمر الرشوة وأخطارها ذكرنا بعض أقوال الأئمة بشيء من التفصيل في تحريمها، وهم في تفصيلهم لهذا التحريم قد تأثروا بما حدث في بعض مراحل حكم بلاد المسلمين من تسلط بعض الولاة، وضياع الحقوق على أصحابها، فجعلوا لمن ظُلم في ماله (حكمًا استثنائيًّا) يستطيع بموجبه أن يحفظ ماله بإرشاء الظالم، وجعلوا الإثم على المرتشي، واستثنوا الراشي بحكم ضرورته، حاله في ذلك حال من يرشي؛ لأنقاذ حياته من القتل، وهكذا الحكم في استثنائيته مقيد بعدم استطاعة صاحب المال الحصول على ماله بسبب ما يواجهه من ظلم، خاصة مع ضعف الاتصال آنذاك بين الولاة ومراكز الحكم، الأمر الذي لا يستطيع معه أصحاب الحقوق الاتصال بهذه المراكز.

أما وقد أصبح الولاة والقضاة والموظفون ومن في حكمهم يتبعون في هذا الزمان سلطة حكومية تدار بأنظمة وقواعد تحفظ حقوق الناس وأموالهم وأعراضهم، وتنظم أمورهم وأحوالهم، فإن هذا الحكم الاستثنائي يعد منتفيًا؛ لزوال أسبابه، ولكل صاحب مظلمة استعداء السلطة للحصول على حقه مما هو معروف اليوم في بلاد العالم، لهذا فإن التساهل في أمر الرشوة بدعوى الضرورة غير جائز، خاصة أننا نشهد في هذا الزمان استشراء حب المال، وضعف الذمم، وتعقد الإجراءات، فإذا فتح باب ما يسمى (دفع الرشوة للضرورة) فسوف يلجه الوالجون، ويتذرع به المدَّعون من أرباب المصالح؛ فيكون ذلك مدعاة للفساد، وضياع الحقوق لهذا كان رسول الله -ﷺ- حريصًا على بيان الحكم في تحريم الرشوة بلعن الراشي والمرتشي والرائش، وكان -أيضًا- عليه الصلاة والسلام- حريصًا على إبلاغ الحكم لأمته، كما فعل مع عامل الصدقة الأزدي الذي يقال له: (ابن اللتبية) حين قال: هذا لكم، وهذا أهدي إلي. فما كان منه -عليه الصلاة والسلام- إلا أنه خطب في الناس، فحمد الله، وأثنى عليه، وقال: «ما بال العامل نبعثه، فيجيئ فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي إلي؟، ألا جلس في بيت أبيه، فينظر أيهدى إليه أم لا؟، والذي نفس محمد بيده لا نبعث أحدا منكم، فيأخذ شيئًا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته… الحديث»([11]).

وخلاصة المسألة: أن الرشوة محرمة بنص الكتاب والسنة والإجماع والمعقول، وقد أجمع سلف الأمة وخلفها على تحريمها، وتعرض الأئمة لأحكامها بشيء من التفصيل، وقد تأثروا – رحمهم الله – بما حدث في بعض مراحل حكم بلاد المسلمين من تسلط بعض الولاة، وضياع الحقوق على أصحابها، فجعلوا للراشي (حكمًا استثنائيًّا) يجوز له بموجبه دفع الرشوة؛ للحصول على حق، أو لدفع ظلم أو ضرر، ويكون الإثم على المرتشي، وليس على الراشي، ولهذا الحكم الاستثنائي أسبابه، ولعل من أهمها ضعف الاتصال آنذاك بين الولاة ومراكز الحكم، الأمر الذي لا يستطيع معه أصحاب الحقوق الاتصال بهذه المراكز، أما وقد أصبح الولاة والقضاة والموظفون يتبعون سلطة حكومية تدار بأنظمة وقواعد تحفظ حقوق الناس، فإن هذا الحكم الاستثنائي يعد منتفيًا؛ لزوال أسبابه، ولكل صاحب مظلمة استعداء السلطة؛ للحصول على حقه مما هو معروف اليوم في بلاد العالم؛ لهذا فإن التساهل في أمر الرشوة بحجة الضرورة لا يجوز.

([1]) أخرج الجزء الأول من الحديث الحاكم في المستدرك، ج4 ص141، والجزء الأخير البيهقي في السنن الكبرى عن ابن عباس- رضي الله عنهما- موقوفًا، ج6 ص12، صحح إسناده السخاوي في المقاصد الحسنة، (٣٩٤).

([2]) أخرجه الإمام أحمد في المسند ج2 ص387، صححه السيوطي في الجامع الصغير، (٧٢٣٦) .

([3]) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم برقم (2577)، صحيح مسلم بشرح النووي ج10 ص1592 .

([4]) درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر، ج4 ص536، وانظر: حاشية رد المحتار لابن عابدين ج5 ص362-364.

([5]) المصدران السابقان .

([6]) درر الحكام شرح مجلة الأحكام ج4 ص536.

([7]) المصدر السابق.

([8]) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدسوقي، ج4ص181، وانظر: الذخيرة في فروع المالكية للقرافي ج8ص74.

([9]) روضة الطالبين وعمدة المفتين ج11 ص144.

([10]) المغني ج4 ص59-60، وانظر: كشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي ج6ص316.

([11]) أخرجه البخاري في كتاب الهبة، باب من لم يقبل الهدية لعلة، برقم (2597) فتح الباري ج5 ص260 .