لقد حدد الله مصارف الزكاة، وبيَّنها في كتابه العزيز في قوله -عز ذكره-: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيم} [التوبة:60]، فتبيَّن من هذا أن هؤلاء هم الذين يستحقونها حكمًا فلا يجوز صرفها لغيرهم؛ لأن علم الله وحكمته قضيا أن يكون هؤلاء هم أهل الاستحقاق دون غيرهم. ولأن من سماهم الله في الآية اسم عام (الفقراء والمساكين.. وابن السبيل)، فقد اجتهد الفقهاء في تحديد المراد من عموم اللفظ، فبينوا من هو الفقير، ومن هو المسكين، ومن هو المراد: {وَفِي سَبِيلِ اللّهِ}. ولعل هذا الأخير أقرب للجواب عن هذا السؤال.
ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: أن المراد هو المنقطع من الغزاة الفقراء، وقيل الحاج المنقطع، وقيل طلبة العلم، قال صاحب البدائع: {وَفِي سَبِيلِ اللّهِ} عبارة عن جميع القرب، فيدخل فيه كل من سعى في طاعة الله وسبيل الخيرات إذا كان محتاجًا([1]).
وفي مذهب الإمام مالك: المراد به الجهاد دون الحج؛ استدلالًا بقول رسول الله ﷺ: (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله..)([2]). ولم يذكر الحج، ولأن آخذ الزكاة إما لحاجته إليها كالفقير، أو لحاجتنا إليه كالعامل، والحاج لا يحتاج إليها؛ لعدم الوجوب عليه حينئذٍ إن كان فقيرًا، ولأن عنده كفايته إن كان غنيًّا ولا نحتاج إليه([3]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: المراد بـ {وَفِي سَبِيلِ اللّهِ} الغزاة الذين لا رزق لهم في الفيء، وأما الغزاة المرتزقة فلا يصرف لهم شيء من الصدقات، كما لا يصرف منها شيء إلى المطّوعة([4]).
وفي مذهب الإمام أحمد: أن المراد بـ {وَفِي سَبِيلِ اللّهِ} الغزاة الذين لا ديوان لهم، فلهم الأخذ منها بلا نزاع، لكن لا يصرفون ما يأخذون إلا لجهة واحدة، وقيل في المذهب: إن الحج (في سبيل الله) ولا يأخذ إلا لحج الفرض، أو يستعين به فيه، وفي إحدى الروايات: لا يعطى من الزكاة للحج([5]).
وذكر الفخر الرازي في تفسيره: أن المفسرين يرون أن الحكم يعني الغزاة، وأن هذا مذهب الإمام مالك والشافعي وإسحاق وأبي عبيدة، أما الإمام أبو حنيفة وصاحباه فيرون ألا يعطى الغازي إلا إذا كان محتاجًا، ثم قال: «واعلم أن ظاهر اللفظ في قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللّهِ} لا يوجب القصر على كل الغزاة، فبهذا المعنى نقل القفال في تفسيره عن بعض الفقهاء: أنهم أجازوا صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير، من تكفين الموتى، وبناء الحصون، وعمارة المساجد؛ لأن قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللّهِ} عام في الكل»([6]).
وقد فسر بعض الفقهاء المحدثين الحكم ليشمل جميع الْقُرَب فيما تدعو إليه الحاجة بفعل تطور الزمان، وتنوع الحاجات التي تترتب من نوازل العصر، فذكر صاحب الروضة الندية: أن من جملة {وَفِي سَبِيلِ اللّهِ}، الصرف على العلماء الذين يقومون بمصالح المسلمين الدينية، فإن لهم في مال الله نصيبًا، سواء كانوا أغنياء أم فقراء، بل الصرف في هذه الجهة من أهم الأمور؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء وحملة الدين، وبهم نحفظ بيضة الإسلام وشريعة سيد الأنام.
قلت: إن من إعجاز القرآن وعظمته وحكمة الله منه، أنه رحمة لعباد الله في معاشهم ومعادهم، وأحكامه لا تتبدل، ولا تتغير، ولا تتحول بتبدل الزمان أو تغيره أو تحوله، وفي عموم ألفاظه ما يهدي العلماء إلى استنباط الأحكام من عموم آياته لمعالجة الأحداث، التي تنزل بهم في حياتهم وأزمانهم، كما قال -عز وجل-: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [الأنعام:38]، والعلماء الذين جعلوا الغزو من {وَفِي سَبِيلِ اللّهِ} كانوا يدركون ما يحتاج إليه الجهاد من العدة، والذين جعلوا الحج من سبيل الله كانوا يدركون ما يحتاج إليه الحج من النفقة، والعلماء الذين فسروا {وَفِي سَبِيلِ اللّهِ} بمعنى واسع، ليشمل أمورًا من حاجات المسلمين، كبناء الجسور والحصون ونفقات الدعاة ونحو ذلك من الحاجات كانوا يدركون مدى الحاجة إلى صرف الزكاة أو جزء منها في هذه الحاجات. ولما كان علاج الأمراض من الحاجات أو بالأحرى من الضروريات، كغسيل الكلى ونحوه، فلعل شراء آلات الغسيل هذه يدخل في حكم {وَفِي سَبِيلِ اللّهِ} إذا كان المريض محتاجًا إليها، وليس ثمة من يوفر له هذا العلاج، أو يفترض فيه توفيره له من أقاربه أو أصحابه أو الجهة المسؤولة عنه. والله أعلم.
([1]) ينظر: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني، ج2 ص68-99، وحاشية رد المحتار ج2 ص342.
([2]) أخرجه الإمام مالك في الموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي ص179، صححه الألباني في صحيح ابن ماجه، (١٥٠٣).
([3]) الذخيرة في فروع المالكية ج2 ص522.
([4]) روضة الطالبين للنووي ج2 ص321.