قد يتعرض الإمام في أثناء الصلاة لحدث خارج عن إرادته، أو حدث تذكَّره يوجب عليه الوضوء، كخروج ريح أو رعاف يسيل منه، أو عجز لمرض طارئ، ويسمى هذا الحدث سماويًّا؛ لكونه يخرج عن إرادته، وقد يتعرض لبطلان صلاته بفعل يفعله، كالقهقهة أو العبث المنافي لأحكام الصلاة؛ فالواجب عليه حينئذٍ أن يستخلف من يتم الصلاة بالمأمومين، وقد تباينت آراء الفقهاء حول صحة الاستخلاف من عدمه، ففي المذهب الحنفي: يجوز الاستخلاف في الصلاة، أي يستخلف الإمام خليفة في موضعه، بحيث يأخذ بثوبه ويجره إلى المحراب، ويكون ذلك بالإشارة، وإن استخلف بالكلام فسدت صلاته وصلاة المأمومين، سواء كان عامدًا أم ساهيًا أم جاهلًا([1]).
وفي مذهب الإمام مالك: إذا أحدث الإمام فله أن يستخلف غيره بالإشارة ممن يقرب من موضعه، فإن تكلم فقال: يا فلان، تقدم. لم يضر المأمومين؛ لأنه في غير صلاة، فإن خرج ولم يستخلف فيتقدمهم رجل منهم، فيصلي بهم بقية صلاتهم. والإمام إذا أحدث أو رعف، فالذي ينبغي له أن يخرج من مكانه، وإنما يضر المأمومين لو تمادى فصلى بهم، فأما إذا لم يفعل وخرج فإنه لم يضر أحدًا([2]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: إذا أحدث الإمام في الصلاة ففي المذهب قولان: في قول الإمام الشافعي القديم: لا يجوز له أن يستخلف، والحجة أن المستخلَف كان لا يجهر ولا يقرأ السورة ولا يسجد للسهو، فصار يجهر ويقرأ السورة ويسجد للسهو، وذلك لا يجوز في صلاة واحدة.
وفي مذهب الإمام الجديد: يجوز الاستخلاف، استدلالًا بما روته عائشة -رضي الله عنها- قالت: لما مرض رسول الله مرضه الذي توفي فيه قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) فقلت يا رسول الله، إنه رجل أسيف، ومتى يقم مقامك يبك فلا يستطيع، فمر عمر فليصل بالناس، فقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) فقلت يا رسول الله، إن أبا بكر رجل أسيف، ومتى يقم مقامك يبك فلا يستطيع، فمر عليًّا فليصل بالناس، قال: (إنك؛ لأنتهن صويحبات يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس)، فوجد رسول الله من نفسه خفة فخرج، فلما رآه أبو بكر ذهب ليستأخر، فأومأ إليه بيده، فأتى رسول الله حتى جلس إلى جنبه، فكان رسول الله يصلي بالناس، وأبو بكر يسمعهم التكبير([3]).
وفي مذهب الإمام أحمد: إذا تعرض الإمام للحدث فله أن يستخلف من يتم بالمأمومين الصلاة، استدلالًا بما روي في ذلك عن عمر وعلي وعلقمة وعطاء والحسن والنخعي والثوري والأوزاعي والشافعي والحنفية، وروي عن الإمام أحمد رواية أخرى أن صلاة المأمومين تبطل؛ لأنه قال: كنت أذهب إلى جواز الاستخلاف وجَبُنْتُ عنه، وقال أبو بكر: تبطل صلاة المأمومين؛ لأنه فقد شرط صحة الصلاة في حق الإمام، فبطلت صلاة المأموم، كما لو تعمد الحدث، والمذهب جواز الاستخلاف، وقول أحمد جبنت عنه إنما يدل على التوقف، وتوقفه لا يبطل ما انعقد الإجماع عليه([4]).
وفيه يجوز للإمام استخلاف من لم يكن معه في الصلاة، استدلالًا بأن رسول الله – كما سبق ذكره – دخل في صلاة أبي بكر ولم يكن معه، فأخذ من حيث انتهى أبو بكر، وفي المذهب: إن لم يستخلف الإمام فاستخلف الجماعة؛ لأنفسهم جاز، أو صلوا وحدانًا جاز([5]).
فالمانعون للاستخلاف احتجوا بأن الإمام إذا سبقه الحدث بطلت صلاته، لفقده شرط صحة الصلاة له، فتبطل صلاة المأمومين تبعًا له، والذين جوزوا الاستخلاف استدلوا بواقعة عمر فلما طعن وهو في الصلاة أخذ بيد عبدالرحمن بن عوف فقدمه، فأتم بهم الصلاة، وكان ذلك بمحضر من الصحابة فلم ينكره أحد منهم، فكان ذلك إجماعًا.
قلت: ومما سبق يتبين أن لحدث الإمام حالتين: الأولى أن يكون متهيئاً للصلاة بعد أن سوى المأمومون صفوفهم، أو يكون قد كبَّر لتوه ثم يحدث له الحدث، أو يتذكر عدم الطهارة، ففي هذه الحال لتوِّه عليه أن يتطهر إذا كان الماء قريبًا منه، وعلى المأمومين انتظاره، والأصل فيه حديث أبي هريرة قال: أقيمت الصلاة وصف الناس صفوفهم فخرج رسول الله حتى إذا قام في مقامه ذكر أنه لم يغتسل، فقال للناس: (مكانكم)، ثم رجع إلى بيته فخرج علينا، ينطف رأسه قد اغتسل ونحن صفوف([6]). وفي لفظ آخر من حديث عياش: فلم نزل قيامًا ننتظره حتى خرج علينا وقد اغتسل([7]).
الحالة الثانية: أن يكون قد مضى في الصلاة في الركعة الثانية أو الثالثة، ثم يحدث له الحدث أو يتذكر عدم طهارته، ففي هذه الحال عليه أن يستخلف من يتم الصلاة بالمأمومين، والأصل في جواز الاستخلاف الأدلة التالية:
أولها: أن عمر استخلف من يؤم الناس بعدما طعن كما ذكر، وقد شهد هذه الواقعة جمع من صحابة رسول الله فلم ينكره أحد منهم، فكان ذلك إجماعًا لا ينقض باجتهاد.
وثانيها: أن الأحاديث والآثار تدل على أن فساد صلاة الإمام لا تبطل صلاة المأمومين، ومنها ما رواه البراء بن عازب أن رسول الله قال: (إذا صلى الجنب بالقوم أعاد صلاته، وتمت للقوم صلاتهم)([8]). ومنها حديث أبي هريرة أن رسول الله قال: (يصلون بكم فإن أصابوا فلكم، وإن اخطؤوا فلكم وعليهم)([9]).
ومن هذه الآثار: أن عمر بن الخطاب صلى بالناس الصبح، ثم غدا إلى أرضه بالجرف، فوجد في ثوبه احتلامًا، فقال: إنا لما أصابنا الودك؛ لأنت العروق، فاغتسل وغسل الاحتلام من ثوبه وعاد لصلاته([10]). وفي لفظ الدارقطني: أنه صلى بالناس وهو جنب فأعاد ولم يأمرهم أن يعيدوا([11]).
ومن هذه الآثار: أن عثمان صلى بالناس صلاة الفجر، فلما أصبح وارتفع النهار فإذا هو يأثر الجنابة، فقال: كَبُرَتْ والله، كَبُرَتْ والله، فأعاد الصلاة ولم يأمرهم أن يعيدوا([12]).
ومنها: قول علي : إذا صلى الجنب بالقوم فأتم بهم الصلاة آمره أن يغتسل ويعيد، ولا آمرهم أن يعيدوا([13]).
ومنها: أن ابن عمر – رضي الله عنهما – صلى بهم الغداة، ثم ذكر أنه صلى بهم بغير وضوء، فأعاد ولم يعيدوا([14]).
وثالث الأسباب: أن القول ببطلان صلاة المأمومين تبعًا لبطلان صلاة إمامهم فيه تكليف لهم، ولم يكلف الله أحدًا من عباده إلا وسعه، فلو أحدث الإمام – مثلًا – في الركعة الأخيرة من الصلاة الرباعية فإن إعادة صلاة المأمومين فيها تكليف لهم؛ لأن فيهم العاجز والمريض والحاقن ونحوهم، مما سيكون في بطلان صلاتهم – كما يقول المانعون – تكليف لهم.
قلت: وتثور في مسألة الاستخلاف أهلية المستخلَف – بفتح اللام- ففي المساجد الكبرى، مثل الحرم المكي والمدني والأقصى والمساجد الكبرى في بعض البلاد الإسلامية ينبغي أن يكون فيها بجانب الإمام الراتب إمام مرادف، تتوافر فيه شروط الإمامة في حال تعرض الإمام الراتب لحدث أو عارض. كما ينبغي أن يكون الموالون للإمام الراتب في المساجد جميعهم من هم أهل للإمامة، كمعرفتهم بالقرآن وأحكام الصلاة، والأصل في ذلك قول رسول الله : (ليلني منكم أولو الأحلام والنهى)([15]).
وخلاصة المسألة: أن لحدث الإمام حالتين: الأولى- أن يكون متهيئاً للصلاة بعد أن سوى المأمومون صفوفهم، أو يكون قد كبَّر لتوِّه ثم يحدث له الحدث، أو يتذكر عدم طهارته، ففي هذه الحالة عليه أن يتطهر إذا كان الماء قريبًا منه، وعلى المأمومين انتظاره، كما فعل ذلك رسول الله. الحالة الثانية- أن يكون قد مضى في الصلاة في الركعة الثانية أو الثالثة ثم يحدث له الحدث، أو يتذكر عدم طهارته، ففي هذه الحالة عليه أن يستخلف من يتم الصلاة بالمأمومين، والمستخلَف – بفتح اللام – ينبغي أن يكون أهلًا للإمامة، وينبغي أن يكون في المساجد الكبرى، مثل المكي والمدني والأقصى والمساجد الكبرى إمام مرادف بجانب الإمام الراتب. كما ينبغي أن يكون الموالون للإمام الراتب في جميع المساجد من هم أهل للإمامة، كمعرفتهم بالقرآن وأحكام الصلاة.
([1]) البناية شرح الهداية لبدر الدين العيني ص376-377، والبحر الرائق للنسفي ص642-654.
([2]) المدونة الكبرى للإمام مالك ج1 ص227، وعقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة ج1 ص202-207.
([3]) المهذب في فقه الإمام الشافعي ج1 ص96، روضة الطالبين ج1 ص393، ج2 ص13-16، والحديث أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب حد المريض أن يشهد الجماعة، برقم (664)، فتح الباري ج2 ص178.
([4]) المغني لابن قدامة ج2 ص507.
([5]) المغني لابن قدامة ج2 ص507.
([6]) أخرجه البخاري في كتاب الغسل، باب إذا ذكر في المسجد أنه جنب خرج كما هو ولا يتمم، برقم (275)، فتح الباري ج1 ص456.
([7]) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في الجنب يصلي بالقوم وهو ناسٍ، برقم (235)، ج1 ص99.
([8]) المغني لابن قدامة ص507-512، والكافي للإمام ابن قدامة ج1 ص385-386.
([9]) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب إذا لم يتم الإمام وأتم من خلفه، برقم (694)، فتح الباري ج2 ص219.
([10]) أخرجه الإمام مالك في الموطأ، رواية يحيى الليثي ص43.
([12]) أخرجه ابن عبدالبر في التمهيد 1/182، وفي الاستذكار ج1 ص253.
([13]) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف ج2 ص45.
([14]) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف ج2 ص44.
([15]) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها، برقم (432)، صحيح مسلم بشرح النووي ج2 ص1621.