الحمد لله ربُّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على رسوله الأمين محمَّدٍ، وعَلَى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فإن النُّحُوت والتَّماثِيْل مما عرفته البشريَّة في تاريخها، وكان لهذه التَّماثِيْل هدفان:
الأول: هَدَف التَّقْدِيس والعبادة عند الأمم البائدة، ومنهم: قوم نوحٍ، وقوم عادٍ، وقوم هودٍ، وقوم صالحٍ، فكان هؤلاء يعبدون هذه التَّماثِيْل اقتداءً بآبائهم، وكانت رسلهم تُبَلِّغهم أن هذه التَّماثِيْل لا تُغْنِي عنهم شيئًا، وأنَّ ما يفعلونه ضلالٌ مبينٌ، وأنَّ العبوديَّة لله وحده، وهو ما قصَّه الله عن نبيِّه إبراهيم وقومه، فكان -عليه السلام- يخاطبهم بالعقل لعلهم يهتدون، بقوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (٥٢) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (٥٣) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٥٤) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (٥٥) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (٦٠) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ (٦٢) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ﴾ [الأنبياء: 52-63] وغالب الأمم في جاهليَّتهم كانوا ينحتون هذه التَّماثِيْل من الجبال، ويعدونها الآلهة التي يرجعون إليها، فيطلبون منها جَلْب النَّفْع ودَفْع الضُّر، فما كانت أمَّة من الأمم تخلو من هذه التَّماثِيْل.
ولا تزال هذه التَّماثِيْل في العديد من بلدان آسيا وغيرها تتمتع بالتَّقْدِيس والتَّعظيم، ويقصدها العامة، ورغْم أنَّ هذه البلدان تَخَطَّت مراحل الجهل التي كان عليها آباؤهم الأوَّلون، إلا أنَّ هذه التَّماثِيْل وأساطيرها وقصصها لا تزال واقعًا لا ينفكُّ عنها.
النوع الثاني من التَّماثِيْل: ما يُقْصَد به التَّفاخُر والتَّباهي، كما كانت القبائل العربيَّة المشركة تتباهَى بتماثيلها: (اللات) و(العزى) و(مناة). وفي هذا الزمان تُوضَع التماثيل في الميادين العامَّة، ويُقَال إنها تخليدٌ لمن عمل عملًا عظيمًا لبلده في الحرب أو في السِّلم، وهذا واضحٌ في العديد من البلدان المعاصرة.
وأيًّا كانت الأغراض والمسمَّيات لهذه التَّماثِيْل فإنَّها في شرعنا محرَّمة، سواء كانت لغَرَضٍ ديني أو لأيِّ غَرَضٍ مماثلٍ فهي محرَّمة أصلًا، فلا يُعبَد بحقٍّ إلا الله وحده، وكلُّ عملٍ خلاف ذلك يُعَدُّ شركًا أكبر، عاقبته الخلود في العذاب، وإن كانت لأيِّ غَرَضٍ آخر فهي كذلك محرَّمة؛ لأنها مضاهاة لخلْق الله، فمن صَوَّر صورة في الدنيا كُلِّف يوم القيامة أن يُنْفَخ فيها الرُّوح، وليس بنافخ؛ كما قال ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-([1]).
وحاصل القول: إن في التَّماثِيْل لذوات الأرواح مضاهاة لخلْق الله، وهي محرَّمة في أصلها أو الباعث لها. والله -تعالى- أعلم.
([1]) أخرجه البخاري، كتاب: اللباس، باب: من صور صورة كلف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ، برقم: (5963)، (7/169)، ومسلم، كتاب: اللباس والزينة، برقم: (2110)، (6/162).