سؤال من ……. عن الأجور التي يكتسبها أصحابها من أعمال غير مشروعة، ومن ذلك: ممتهنو الغناء الماجن، وأصحاب النوادي الليلية، ومن هو في حكمهم، ممن يمارسون أعمالًا غير مشروعة في ذاتها، أو في وسائلها، فما حكم أجورهم؟.

حكم الأجر المكتسب من أعمال غير مشروعة

القول في الغناء كثير([1])، وقد تردد هذا القول بين تحريمه، وبين كراهيته، وبين إباحته في حالات محددة، منها: الغناء في الأعراس لإشهارها، وكذا في المناسبات الأسرية الخاصة، وكذا في حالات الحرب؛ لرفع الحماس للدفاع عن الأوطان، ونحو ذلك، مما هو معتاد ومتعارف عليه، بعيدًا عن اللهو والعبث، ولكن لا خلاف أبدًا في القول بتحريم الماجن منه لأسباب كثيرة، منها: إنه مما يصدق عليه قول الله -عز وجل-: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِين} [لقمان: 6]، ولما سئل عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن دلالة الآية حلف بالله الذي لا إله إلا الله ثلاث مرات أنه الغناء، وقال بذلك -أيضًا-عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-وآخرون([2]).

ومن الأسباب في تحريمه: أنه لهو، وهذا مما يفسد علاقة الإنسان بربه حين يلهو ويعبث، فيستحل بذلك ارتكاب المعاصي والمحرمات.

ومن هذه الأسباب: أن دين الإسلام دين قوة وعطاء، فالذين يمتهنون الغناء تضعف أو تزول عنهم مواطن القوة.

ومن الأسباب في تحريم الغناء: أن دين الإسلام دين أخلاق وحياء، والذين يمتهنون الغناء الماجن يتجردون من القيم والأخلاق التي تكون عليها غالبية أممهم.

وقد علم بالمشاهدة أن الذين يمتهنون اللهو الماجن تتروى أخلاقهم شيئًا فشيئًا، حتى يفقدوا التفكير فيما هم فيه من سوء السلوك.

وحال أصحاب النوادي الليلية أشد سوءًا من هؤلاء؛ لما يفعلونه من إغراء فئات من الشباب والنساء، ودفعهم إلى ممارسة السيئ من السلوك، وحكم الأجر الذي يكتسبه هؤلاء يعد محرمًا؛ لأنه مناف للكسب الطيب الذي أمر الله بالأكل منه في قوله -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُون} [البقرة: 172]، وفي هذا أمر للمؤمنين أن يكون أكلهم حصرًا من الطيب من الكسب، ‏فاقتضى هذا حكمًا تحريم الأكل من غير الطيب، ‏كالربا والرشا والغصوب والغلول، وكذا كل كسب ترتب من عمل غير مشروع، كالغناء الماجن، وما يكتسب من النوادي الليلية التي تبيع وتعرض المحرمات.

وكما أمر الله المؤمنين بالأكل من الطيبات أمر به المرسلين، فقال-عز ذكره-: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيم} [المؤمنين: 51]، وفي هذا أمر لأتباعهم، وخص منهم المؤمنين في الآية الأولى تكريمًا لهم حين ساوى بينهم وبين الرسل؛ لأنهم صدقوهم، واتبعوهم، وفعلوا ما أمروهم به حين بلغوهم رسالة الله إليهم، ولا يعني اختصاص المؤمنين بالأكل من الطيبات نفي غيرهم من لزوم الأمر، فكل عباد الله مأمورون بهذا الأكل، وقد بيّن ذلك رسول الله -ﷺ-في قوله:‏ (أيها الناس! إن الله  -تعالى-طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيم}، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}، ثم ذكر الرجل (يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء، يقول:‏ يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنَّى يستجاب ذلك؟)([3]).

قلت:‏ وحكم أجور الذين ورد ذكرهم في السؤال هو أن عليهم أولًا التوبة إلى الله قبل دنو الأجل؛ عملًا بقول الله -عز وجل-: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيما * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} [النساء: 17-18]، فإذا تابوا حق لهم من أجورهم ما يكفيهم لمعاشهم من طعام وشراب وكساء، وغير ذلك من الحاجات الضرورية، كالعلاج، وذلك لمناط هذه الحاجات بالنفس، والمحافظة عليها من الضرر.

وإذا أرادوا أخذ جزء من هذه الأجور لتوظيفه واستثماره في حاجات مشروعة، وكانت النية هي التخلص من الحرام في هذا الجزء من المال المستثمر، وتحققت النية فعلًا، فتحول هذا الجزء إلى الحلال بفعل الاستثمار، فلعل هذا جائز، وما يبقى بعد ذلك من الأجر غير المشروع يصرفه صاحبه في مصالح المسلمين.

وفي كل الأحوال يكون التخلص من المال الحرام هو السبيل إلى براءة الذمة، والتوبة النصوح إلى الله بشروطها الثلاثة، وهي:‏ التوبة من الذنب (المال الحرام)، والإقلاع عنه، والعزم على عدم العودة إليه.

وخلاصة المسألة:‏ أن على أصحاب الأجور غير المشروعة التخلص منها، ويكفيهم منها ما يسد حاجاتهم الضرورية من طعام وشراب وكساء، فإن أرادوا أخذ جزء من هذه الأجور لاستثماره في حاجات مشروعة، وصدقت نيتهم وفعلهم، وتحول هذا الجزء إلى الحلال بفعل الاستثمار، فلعل هذا جائز، وما يبقى بعد ذلك من هذه الأجور يصرف في مصالح المسلمين.

وفي كل الأحوال يبقى التخلص من المال الحرام هو السبيل إلى براءة الذمة، والتوبة النصوح إلى الله.

والله تعالى أعلم.

 

([1]) مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، العدد 12 رجب، شعبان، رمضان ص222.

([2]) تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج4 ص426، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج14 ص51-52.

([3]) أخرجه مسلم في كتاب الزكاة باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وترتيبها برقم (115).