لهذه المسألة قاعدتان: الأولى ما يجب للزوجة من النفقة.
والثانية: ما يجب لها من حسن المعاشرة.
أما القاعدة الأولى (النفقة): فواجبة على الزوج لزوجته بلا خلاف في ذلك، والأصل في هذا الكتاب، والسنة، والإجماع، والمعقول:
أما الكتاب: فقد خص الله تعالى السكن للمطلقات طلاقًا رجعيًا، بقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق:6]، ثم خص ذات الحمـل المطلقة طلاقًا بـائنًا بقوله عزوجل: {وَإِن كُنَّ أُولاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:6]، ثم خص المرضعة بقوله جل ثناؤه: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق:6]، وإذا كان هذا في المطلقة فهو في غير المطلقة أكد وألزم، ثم بين عز وجل حكم بوجه عام في قوله: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا} [الطلاق:7].
وأما السنة: فقد أكد رسول الله ﷺ على حق الزوجة في الطعام، والكساء في خطبته الشهيرة في حجة الوداع بقوله: اتقوا الله في النساء فإنـكـم أخـذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بـكـلـمـة الـلـه ،وإن لـكـم عـلـيـهـن أن لا يـوطـئـن فـرشـكـم أحـدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف([1])، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: «إن لكم من نسائكم حقًا ولنسائكم عليكم حقًا، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بـيـوتـكـم لمن تكرهون، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن» ([2]). . . ولما شكت هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان شح زوجها في النفقة عليها وعلى ولده أمـرها -عليه الصلاة والسلام- أن تأخذ من ماله ما يكفيها، ويكفي ولدها بالمعروف([3]).
وأما الإجماع: فقد أجمع علماء الأمة على حق الزوجة في النفقة إذا توافرت فيها عدة شروط أهمها: أن يكون زواجها صحيحًا، وأن تمكن زوجهـا من نفسها، وأن تكون صالحة للاستمتاع، وأن يكون زوجها قادرا على الإنفاق عليها([4]).
وأمـا المعقول فمن المعلوم بالضرورة أن كل من يؤدي عملًا لآخر يحق له الحصول على أجر هذا العمل، ولو قيل بخلاف ذلك فسوف تختل العلائق وتفسد الأحوال وتسوء المعاملات، فإذا كانت الزوجة تقيم مع زوجها في بيته، وتقوم بما يجب له عليها من حقوق، فلا يتصور إذا أن يمتنع عن النفقة عليها، وإلا عد مسخرا وظالمًا لها. والسؤال هو عما إذا كان يجب لها عليه حقوق أخرى غير النفقة كالدواء وأجرة الطبيب؟
ذهب عامة الفقهاء على أنه ليس من الواجب على الزوج شراء أدوية لزوجته في حال مرضها، كما لا تجب عليه أجرة طبيبها([5])، والحجة في ذلك أن الأدوية وعمـل الطبيب يراد منهما إصلاح الجسد.
فكما لا يلزم المستأجر للـدار بناء ما يقع منهـا لا يلزم الزوج مايتعلق بإصلاح جسد زوجته([6]).
واستثنى الفقهاء رحمهم الله من ذلك أجـرة القابلة، وفي هذا قال الخرشي في المختصر: المشهور أن أجرة القابلة – وهي التي تولد النسـاء- لازمة للزوج؛ لأن المرأة لا تستغني عن ذلك كالنفقـة أي في ولد لاحق بالزوج، ويجب للزوجة عند الولادة ما يصلح لها مما جرت به العادة ولو مطلقة بائنا([7]).
ومن الفقهاء من رأى واجب الزوج في شراء أدوية لزوجته، ففي المذهب الزيدي. . يعد علاج الزوجـة حقًا من حقوقها لا يقل عن حاجاتها الأخرى([8]). ويرى صاحب الروضة الندية: أن الكفاية بالنسبة للطعام تعم جميع ما تحتاج إليه الزوجة، ومن ذلك الأدوية ونحوها. وأشار في ذلك إلى ما ذكره العراقي في الغيث الهامع أن الـدواء لحفظ الـروح فأشبه النفقة([9]). ثم قال صـديق حسن خان صاحب الروضة الندية: «قلت: هو الحق؛ لدخوله تحت عموم قوله: «ما يكفيك»، وتحت قوله: « رزقهن»؛ فإن الصيغة الأولى عامة باعتبار لفظ مـا، والثانية عامة؛ لأنها مصدر مضاف، وهي من صيغ العموم، واختصاصه ببعض المستحقين للنفقة لا يمنع من الإلحاق([10]) وقد ذهب إلى هذا عدد من الفقهاء المعاصرين([11]).
قلت: ولعل ما كان يحكم اجتهاد بعض الفقهاء واقع الحال في أزمنتهم، فلم تكن الأمراض على نحو ما هي عليه في العصر الحديث، ولم يكن العلاج أنذاك يتعدى الفصد أو الحجامة أو الكي الذي يقوم به في الغالب الرجال، ومن المحتمل أن معظم التداوي أنذاك، يتمثل في اختيار أنواع من الأطعمة للمريض ومن هو في حكمه فمثلًا ذكر بعض الفقهاء أن من حق الزوجة حال ولايتها الحصول على أنواع معينة من الطعام أو الشراب كالعسل([12]).
أما البعض الآخر الذيـن قـالـوا بـعـدم إلزام الزوج بمداواة زوجته، فقد عقلوا اجتهادهم بأن المراد من التداوي إصلاح الجسد، فلم يلزم به الزوج مثل عـدم إلزام المستأجر للـدار إذا وقع منها شيء يحتاج إلى إصلاح.
قلت وفي هذا نظر: فإصلاح الجسد فيه حفظ للنفس وهذا الحفظ من الضرورات الشرعية، وليس هناك أقرب للزوجة من زوجها حال مرضها؛ لأن في حفظ نفسها منفعة له فيما هو واجب له بحكم علاقتهما الزوجيـة والغرم بالغنم، ناهيك لما في حفظ نفسها من منفعة وحفظ لولده فيما يحتاج إليه من إرضاع وتربية، فقياس مرضها على ما يقع من الدار المستأجرة قياس يتعارض مع حفظ نفسها، وهو أيضًا قياس لا يتفق مع واقع حالنا في هذا العصر بل مع أسس العلاقة الزوجية.
أما القاعدة الثانية فهي ما يجب للزوجة من حسن المعاشرة: وهذا اسم جامع للعديد من اللطائف والفضائل التي تجمع بين الزوج وزوجته، والأصل فيها الكتاب والسنة والمعقول:
أما الكتاب: فقول الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19]، وفي هذا أمر من الله عز وجل للأزواج، أن تكون العلاقة بينهم وبين زوجاتهم قائمة على حسن الصحبة، لما يؤدي إليه ذلك من السكينة والمحبة، وهو ما بينه الله -عز وجل- في آية أخرى بقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون} [الروم:21]، قال الإمام القرطبي في تعليقه على الآية الأولى: استدل علماؤنا بقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} على أن المرأة إذا كان لا يكفيهـا خادم واحد عليه أن يخدمها قدر كفايتها، كابنة الخليفة والملك وشبههما ممن لا يكفيها خادم واحد، وإن ذلك هو المعاشرة بالمعروف([13]).
وأما السنة: فلقول رسول الله ﷺ “وخيركم خيركم لأهله وانا خيركم لأهلي”([14])، وقوله -عليه الصلاة والسلام- “ولا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضي منها آخر”([15])، وقد أشرنا إلى ما قاله رسول الله ﷺ، في حجة الوداع من حق الزوجات على أزواجهن.
وأما المعقول: فإن عدم حسن المعاشرة يقتضي عقلًا الشقاق، وانعدام السكينة، وسوء العلاقة وما يفضي إليه ذلك من العداوة، وانعكاس ذلك كله على الولد، وهذا ليس من حكمة الزواج، فالذي أراده الله سكينة وطمانينة الزوجين وولدهما.
قلت: فما دامت هذه مقاصد الشريعة من الزواج حسا ومعنى، فهل يكون من حسن المعاشرة والمحبة أن يرى الزوج زوجته مريضة في بيته وتحت طاعته ويمتنع عن مداواتها، إن علاج المرض قد يكون في حالات معينة أهم من الطعام، فقد يصبر الجائع من الطعام فترة من الوقت، ولكنه قد لا يستطيع الصبر على المرض، وعندئذ لا يكون للطعام معنى في حال المرض، وإذا كان الفقهاء -رحمهم الله- يقولون بحق الزوجة في خادم يخدمها –وهذا أشد وطأة على الزوج- فمن باب أولى أن يكون لهـا حق التداوي من المرض، وألا نأخذ بخلاف الأولى، ونعطي الكثير ونمنع القليل.
وينبني على ما سبق أن الأصـوب – والله أعلم- أن من حق الزوجة على زوجها مداواتها من المرض، ودفع أجـرة طبيبها سواء كان مرضها عارضًا، أو مزمنا.
وخلاصة ما سبق: أن من حق الزوجة على زوجـهـا مداواتها من المرض، ودفع أجرة طبيبها، سواء كان مرضها عارضًا أو مزمنا، وهذا منی للنفس؛ وهذا الحفظ من على قاعدتين:
الأولى: قاعدة النفقة، وهذه القاعدة شاملة لكل ما هو ضروري لحاجة الزوجة من الطعام والكساء، ولما كان التداوي يعد إصلاحًا للجسد، فقد اقتضى هذا وجوبه على الزوج، لما فيه من حفظ مقاصد الشريعة الضرورية؛ لأن في حفظ نفس الزوجة منفعة لزوجها فيما هو واجب له بحكم علاقتهما الزوجية، ناهيك بما فيه من منفعة لولده فيما يحتاج إليه من إرضاع وتربية.
القاعدة الثانية: ما يجب للزوجة من حسن المعاشرة، وقد أمر الله بذلك في كتابه في قوله عز وجل: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} «، كما أمر بذلك رسوله ﷺ، وليس من حسن المعاشرة أن يرى الزوج زوجته وهي مريضة في بيته، ويمتنع عن مداواتها.
والله تعالى أعلم.
([1]) أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب حجة النبي، صحيح مسلم مع شرحي الابي والسنوسي ج4 ص٢٥٦-٢٥٧، برقم (١٤٧)، وأخرجه ابن ماجه في كتاب المناسك، باب حجة رسول الله ﷺ، ورقمه (٣٠٧٤)، سنن ابن ماجه ج۲ ص۱۰۲۲-١٠٢٥.
([2]) أخرجه ابن ماجه ماجه كتاب النكاح، باب حق المرأة على الزوج، برقم (١٨٥١)، سنن ابن ماجه ج1 ص594، حسنه الألباني في صحيح الجامع، (٧٨٨٠).
([3]) أخرجه البخاري في كتاب النفقات، باب إذا لم ينفق الرجل، فالمرأة أن تأخذ بغير علمه ما يكفيها وولدها بالمعروف، فتح الباري ج9 ص ٤١٨، ورقمه (٥٣٦٤).
([4]) انظر الفتاوى الهندية ج1 ص568، وحاشية ابن عابدین ج۳ ص٥٧١ وما بعدها. والخرشي على مختصر خليل ج۳ ص ١٨٣۳-١٨٥، وبداية المجتهد لابن رشد ج۲ ص54، وعقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة لابن شاس ج۲ ص٣۰۳-٣٠٤. والحاوي الكبير للماوردي ج15 ص3-7، والمهذب للشيرازي ج۲ ص159-161. وكشاف القناع للبهوتي ج5 ص٤٦٠-٤٦٢، والإنصاف للمرداوی ج۹ ص٣٥٢-٣٥٥. والمبدع شرح المقنع لابن مفلح ج۸ ص١٨٥-١٨٨، والمحلى بالآثار لابن حزم ج9 ص٢٤9-٢٥٢
([5]) انظر حاشية رد المحتار لابن عابدين ج3 ص ٥٧٥، والفتاوى الهندية ج1 ص ٥٧١، والخرشي على مختصر خليل ج۳ ص۱۸۷، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج2 ص٥١٠، وروضة الطالبين للنووي ج9 ص50، والمهذب في فقه الإمام الشافعي للشيرازي ج۲ ص ١٦١، ومغني المحتاج للخطيب ج۳ ص ٤٣١، وكشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي ج5 ص463، والمبدع في شرح المقنع لابن مفلح ج۸ ص۱۸۹.
([6]) حاشية رد المحتار لابن عابدين ج 3 ص ٥٧٥، والـفـتـاوى الهندية ج1 ص۵۷۱ والخرشي على مختصر خليل ج۳ ص۱۸۷، ومغني المحتاج للخطيب ج3 ص431.وكشاف القناع ج5 ص463
([7]) الخرشي على مختصر سيدي خليل ج۳ ص١٨٥-١٨٦.
([9]) الروضة الندية لصديق حسن خان القنوجي ج۲ ص٧٦.
([10]) التعليقات الرضية على الروضة الندية، لمحمد ناصر الدين الألباني ج۲ ص۳۱۲
([11]) ومنهم الشيخ السيد سابق في كتابه فقه السنة ج۲ ص۳۰۹-3۱۰، والدكتور وهبة الزحيلي في كتاب الفقه الإسلامي وادلته ج 10 ص۷۳۸۰-۷۳۸۱، والدكتور حسين أحمد عبد الغني سمرة في بحثه المسمى مسقطات النفقة الزوجية، المنشور في مجلة البحوث الفقهية العدد 58 محرم- صفر -ربیع الاول ١٤٢٤ هـ، ص ٨٥-٨٦ 3)
([12]) ينظر حاشية مقدمة الدسوقي في الشرح الكبير للدردير ج۲ ص510.
([13]) الجامع لأحكام القرآن ج5 ص۹۷.
([14]) أخرجه ابن ماجه في كتاب النكاح، باب حسن معاشرة النساء، برقم ۱۹۷۷ سنن ابن ماجه 1 ص 636، صححه الألباني في صحيح ابن ماجه، (١٦٢١)..
([15]) أخرجه مسلم في كتاب الرضاع، باب الوصية بالنساء، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم للأبي، ج5 ص۱۸۰، برقم (١٤٦٩). وأخرجه الإمام احمد في المسند ج 2 ص 329.