الخمر محرمة في بيعها وشرائها، وتسويقها، وتعاطيها، والأصل في التحريم الكتاب، والسنة، والمعقول.
أما الكتاب فقول الله -تعالى-: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون. إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ} [المائدة: 90-91].
ففي هاتين الآيتين خمسة أحكام:
الحكم الأول: أن الله سمى الخمر رجسًا أي: نجاسة، والنجاسة مما نزه الله المسلم عنها، وأمره باجتنابها، والتطهر منها.
والحكم الثاني: أن الله جعل الخمر من عمل الشيطان، وكل عمل من أعمال الشيطان محرم في ذاته، ووصفه، ووسيلته.
والحكم الثالث: أن الله أمر باجتناب الخمر، وهذا الأمر للوجوب، ومن لم يأتمر به عُدَّ عاصيًا لله.
والحكم الرابع: أن اجتناب الخمر يعد من الفلاح، وعدم اجتنابها يعد من ضده.
والحكم الخامس: أن شرب الخمر سبب للعداوة والبغضاء، والصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، أما العداوة والبغضاء فقد حدثت بين قبيلتين من الأنصار، فلما شربوا الخمر، وانتشوا منها اعتدى بعضهم على بعض، فلما أفاقوا من نشوتهم، ووجدوا آثار العبث في أجسامهم بدأت العداوة بينهم، فنزلت الآية([1])، وأما الصد عن ذكر الله وعن الصلاة فإن من يشرب الخمر يذهب عقله، فيخلط في الذكر والصلاة، فيرد عليه ذكره، وترد عليه صلاته.
هذا في الكتاب، أما في السنة: فما رواه عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-أن رسول الله -ﷺ-قال: (من شرب الخمر في الدنيا، ثم لم يتب منها، حرمها في الآخرة)([2])، وما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -ﷺ- قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)([3])، وما رواه أبو داود أن رسول الله -ﷺ-قال: (لُعنت الخمر بعينها، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها)([4]).
وأما المعقول: فإن الله حين وهب الإنسان العقل أراد أن يكون دليلَه في التمييز بين الخير والشر، ومعرفة الفرق بين الحق والباطل، فإذا شرب الخمر أذهبت عقله، فاختلط فهمه وإدراكه، فلم يعد يفرق بين الهدى والضلال، ولم يعد يعرف ما يجب وما لا يجب عليه، فاقتضى هذا أن ذوي العقول يحرمون على أنفسهم شرب الخمر؛ حتى تكون عقولهم دليلَهم في التمييز بين الخير والشر.
هذا من حيث العموم في مسألة الخمر، أما عن سؤال الأخ فالأصل أن العلاقة بين المسلم والمسلم يجب أن تقوم على التعاون على البر والتقوى، وعدم التعاون على الإثم والعدوان، عملًا بقول الله -عز وجل-: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، وبيع الخمر ليس من البر، بل هو من الإثم والعدوان؛ فهي إثم لأن الله حرمها، وهي عدوان لأنها وسيلة إلى العدوان.
قلت: ولا شك أن شراء البضائع والتعامل مع المسلم الذي يبيع الخمر وما في حكمها من المحرمات يعد تشجيعًا له على ارتكاب المعصية، والأصل أن تعمل الأمة على إزالة المعاصي، أو الحد منها، بوصف ذلك من واجباتها؛ عملًا بما أمرها الله ورسوله به، أما أمر الله فقوله -تعالى-: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأْمرون بالمعروفِ وتنهون عن المنكر} [آل عمران: 110]، وهذه الخيرية التي خص الله بها هذه الأمة لا تتحقق إذا كانت لا تنهى عن المنكر، وأما أمر رسوله فقوله -عليه الصلاة والسلام-: (إن الناس إذا رأوا المنكر، فلم يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده)([5]).
وأما قول الأخ السائل: “إن هذا المحل يبيع البضائع بثمن أقل من المحال الصغرى” فهذا لا يبرر التعامل معه؛ لأن النهي عن التعاون على الإثم نهي مطلق، سواءٌ كان الإثم صغيرًا أم كبيرًا، فلا يستثنى إذًا إلا ما تقتضيه الضرورة، بمعنى أنه إذا كانت البضائع أو السلع التي يحتاجها الناس لضرورات حياتهم، كالأطعمة والأشربة والأدوية لا توجد إلا في هذا المحل فلا بأس من شرائها منه، أما إذا كانت توجد في محلٍّ أو محالَّ أخرى فالواجب عدم شرائها منها.
والله أعلم.
([1]) تفسير القرآن العظيم لابن كثير، ج2 ص90.
([2]) أخرجه البخاري، (٥٥٧٥)، وأخرجه مسلم (٢٠٠٣) باختلاف يسير، فتح الباري للحافظ ابن حجر العسقلاني، ج10 ص33.
([3]) أخرجه مسلم، (٥٧)، وأخرجه البخاري (٦٨١٠) باختلاف يسير، إكمال إكمال المعلم للأبي، ج1 ص271.
([4]) سنن ابن ماجة، ج2 ص111-112، صححه الألباني في صحيح ابن ماجه، (٢٧٤١).
([5]) سنن ابن ماجة، ج2 ص1327، قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى، (٢٨/٣٠٧): ثابت.