القمار محرم بنص الكتاب في قول الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون. إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُون} [المائدة: 91]، فالميسر هو القمار وهو مأخوذ من اليسر، أي: وجوب الشيء لصاحبه، وقيل: هو الجزور الذي كانوا يتقامرون عليه في الجاهلية، فسمي ميسرًا لأنه يجزأ أجزاء، فكل شيء جزأته فقد يسرته، وكان الرجل في الجاهلية يخاطر الرجل -أي: يقامره- على أهله وماله، فأيهما قَمَرَ صاحبه ذهب بماله وأهله، ولما في القمار من الإثم والخطيئة والضرر، وإيقاع العداوة والبغضاء بين متعاطيه، حرمه الله في هاتين الآيتين، ففيهما بيان أن الميسر رجس من عمل الشيطان، وأن مراد الشيطان منه الصد هو عن ذكر الله، وعن الصلاة، وأن على المؤمنين أن ينتهوا عن هنا الفعل، ويجتنبوه، فقوله -تعالى-: {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُون} [المائدة: 91]، استفهام يراد به أمرهم وإلزامهم بتركه، وليس استفهامهم عن تركه([1]).
وما سأل عنه الأخ السائل يجب التفريق فيه بين أمرين:
الأمر الأول: حكم التعاقد بين مسلمين على لعب القمار.
وسواء كان هذا العقد يقصد منه اللعب بينهما مباشرة، أو بين أحدهما وصاحب محل يلعب فيه القمار، كصـاحب المقهى في السؤال، فهذا العقد عقد على معصية، وكل عقد فيه معصية-سواءٌ كان بيعا أو شراء أو إجارة أو نحو ذلك-فلا خلاف في أنه لا يجوز الوفاء به.
ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: لا يجوز الاستئجار على المعاصي؛ لأنه استئجار على منفعة غير مقدورة الاستيفاء شرعًا، كاستئجار الإنسان للعب واللهو، واستئجار المغنية والنائحة للغناء([2])، كما أن إعطاء الحرام وأخذه سواءٌ، فكل شيء يكون إجراؤه حرامًا فطلب إيقاعه حرام -أيضًا- ([3]).
وفي مذهب الإمام مالك: يجب أن تكون المنفعة في العقد أو الفعل متلبسة بعدم الحظر، ومثل ذلك: تعليم الغناء وآلات الطرب، أو استئجار مجمع للفساق، أو خمارة، فهذا لا يجوز، ويفسخ متى تم الاطلاع عليه، ويتصدق بالثمن أو الكراء([4]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: لا تجوز الإجارة على المنافع المحرمة، كالزمر، والنياحة، والغناء، وسائر المحرمات، ولا يجوز أخذ العوض على شيء من ذلك([5]).
وفي مذهب الإمام أحمد: كل ما منفعته محرمة كالزنا، والزمر، والنوح، والغناء، والقمار، فلا يجوز الاستنجـار لفعله؛ لأنه انتفاع بمحرم([6]).
وفي هذا قال الإمام ابن تيمية: «إن من عرف حقيقة دين الإسلام، وما اشتمل عليه من مصالح الأنام، وطاعة الملك العلام، وتضمنه من إرشاد العباد إلى ما ينفعهم في المعاش والمعاد، وحفظ ما أنزل الله من الذكر الحكيم، وصونه من كل شيطان رجيم، تبين له أنه لا سبيل لأحد أن يعقد عقدًا لازمًا يمنع من طاعة الله و رسوله، ولا يكلف العبـاد بتحليل تلك العقود إلى ما يصرفهم عن طاعة الله ورسوله»، ثم قال: «وليس من دين الإسلام من يعاهد عهدًا على ترك واجب، أو فعل محرم، ويكون ذلك العهد لازما له، بل مثل هذا العهد يجب نقضه باتفاق المسلمين»([7]).
قلت: فعلى هذا فإن فعل القمـار في المقهى الذي أشار إليه الأخ السائل يعد غير مشروع، والعقد فيه يعد باطلا، سواء كان شفاهة أو مكتوبا، أو أيًّا كـان وصفه، والأجر الذي ترتب على اللاعب لصاحب المقهي لا يجب الوفاء به، وانما يجب صرفه في أي وجه من أوجه البر.
الأمر الثاني: التعاقد بين مسلم وغير مسلم على لعب القمار:
الأصل في لعب القمار التحـريم -كما ذكر أنفا-، سواءٌ كان اللعب به مع مسلم أو غيره، ولما كان اللعب بين شخص يحرم دينه هذا الفعل، وبين شخص آخر يبيح دينه أو قانونه هذا الفعل، وجب النظر إلى مجرد العقد، (وإن كنا نعده في ديننا باطلًا في أصله)، وليس إلى طبيعة الفعل، ومن المعلوم أن الإسلام يوجب الوفاء بالعقود، والأصل في هذا الكتاب والسنة، أما الكتاب فإن الله -تعالى-قد برئ من المشركين، واستثنى من ذلك من كان لهم عهد في مدة، وذلك في قوله -عز وجل-: {وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيم. إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِين} [التوبة: ٤]، والمعنى واضح في أن الله قد برئ من المشركين.
ويستثنى من هذه البراءة من كان له عهد محدد بمدة، فأوجب له الوفاء بعهده بشرطين:
أولهما: أن يكون هذا المعاهد لم ينقض العهد.
وثانيهما: ألا يكون قد عاون أحدا على نقضه، وقد أكد الله على ذلك-أيضا-في موضع آخر من كتابه الكريم في قوله: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِين} [التوبة: 7].
وأما السنة: فما رواه عمرو بن عبسة-رضي الله عنه-أن رسول الله -ﷺ-قال: (من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلن عـهـدًا، ولا يشدنه حتى يمضي أمده، أو ينبذ إليهم على سواء)([8])، وما رواه -أيضا- ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه سمع رسول الله -ﷺ- يقول: (إن الغادر ينصب له لواء يـوم الـقـيـامة)([9])، وما روي -أيضًا- عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه كتب إلى عشاره بالشام بتولية غير المسلمين الخمر، وأخذ العشر من أثمانها، وقيل في هذا: إنه لو لم يجز بيع الخمر منهم لما أمرهم بتوليتهم البيع([10]).
وفي هذا قال الإمام الكاساني: “وعن بعض مشايخنا: أن حرمة الخمر والخنزير ثابتة على العموم في حق المسلم والكافر؛ لأن الكفار مخاطبون بشرائع، هي حرمات..، فكانت الحرمة ثابتة في حقهم لكنهم لا يُمنعون عن بيعها؛ لأنهم لا يعتقدون حرمتها، ويتمولونها، ونحن أمرنا بتركهم وما يدينون به([11]).
قلت: فإذا كانت شريعة غير المسلم تبيع محل العقد، كالخمر، أو الخنزير، أو القمار، وعقد المسلم معه عقـدًا من هذا النوع، وجب عليه الوفاء به-مع إيماننا بحرمة هذا العقد في ديننا؛ لأن عدم الوفاء بهذا العقد يعد غدرًا وخيانة، وهذا مما تاباه شريعة الإسلام، ولكن القول بهذا لا يعني بأي حال الوفاء بكل عقد معه، بل يجب النظر إلى طبيعة هذا العقد ومحله، فهناك أفعال ثبت تحريمها في كل الشرائع السماوية والمعتقدات الوضعية، كالقتل، والزنا، والسرقة، والفساد في الأرض، فليس لأحد أن يقول بوجوب الوفاء بعقد محله الزنا، أو القتل، أو السرقة، وذلك لثبوت حرمة هذه الأفعال في كل الأديان.
وعلى هذا يجب على المسلم دفع الأجرة لصاحب المقهى المشار إليه في السؤال إذا كان هذا غير مسلم، وذلك جزاء للمسلم على فعله.
وخلاصة المسالة: أن القمار محرم بنص الكتاب، ويجب التفريق بين أمرين:
الأمر الأول: حرمة التعاقد بين مسلمين على لعب القمار بينهما، سواءٌ كان محل العقد للعب مباشرة، أم كان صاحب محل يلعب فيه القمار، فهذا العقد باطل، أيًّا كان وصفه، سواءٌ كان مكتوبًا أم شفاهة أم غير ذلك، والأجر الذي يترتب على اللاعب لصاحب المحل لا يجب الوفاء به، وإنما يجب صرفه في أي وجه من وجوه البر.
الأمر الثاني: التعاقد بين مسلم وغير مسلم على لعب القمار، فإذا كانت شريعة غير المسلم تبيح القمار، وعقد المسلم معه عقدًا من هذا النوع وجب الوفاء به، مع إيماننا بحرمة هذا العقد في ديننا، والقول بهذا لا يعني بأي حال الوفاء بكل عقد مع غير المسلم، بل يجب النظر إلى طبيعة هذا العقد ومحله، فهناك أفعال ثابتةٌ حرمتُها في كل الشرائع السماوية، والمعتقدات الوضعيـة، كـالقتل، والزنا، والسرقة، والعقد على فعلها يعد باطلا، ولا يجوز الوفاء بما يترتب عليه.
والله -تعالى-أعلم.
([1]) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج۳ ص52-53، ج6 ص ۲۹۱-۲۹۲.
([2]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني ج4 ص۱۸۹، وانظر: المبسوط للسرخسي ج16 ص38، والبناية شرح الهداية لبدر الدين العيني الحنفي، ج۱۰ ص۲۸۲-۲۸۳.
([3]) درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر كتاب البيوع ج1 ص39.
([4]) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدسوقي ج4 ص۲۰-۲۲.
([5]) المهذب في فقه الإمام الشافعي للـشـيـرازي ج1 ص ٣٩٤، وقليوبي وعميرة ج4 ص۳۱۹-۳۲۰، ومغني المحتاج لمحمد الشربيني الخطيب ج۲ ص۳۳۷.
([6]) المغني مع الشرح الكبير لابن قدامة ج6 ص١٣٤-١٣٥.
([8]) أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد، باب في الإمام يكون بينه وبين العـدو عهد، فيسير إليه، وأخرجه الترمذي في كتاب السير، باب ما جاء في الغدر، برقم (١٥٨٠)، والجامع الصحيح للترمذي ج٤ ص۱۲۱، وتمامه: أنه كان بين معاوية وبين أهل الروم عهد، وكان يسير في بلادهم حتى إذا انقضى العهد أغار عليهم، فإذا رجل على دابة أو على فرس، وهو يقول: الله أكبر، وفاء لا غدر، وإذا هو عمرو بن عبسة، فسأله معاوية عن ذلك، فذكر له الحديث”، صححه الألباني في صحيح الترمذي، (١٥٨٠).
([9]) اخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب تحريم الغدر، وأخرجه الترمذي في كتاب السير، باب ما جاء “أن لكل غادر لواء يوم القيامة”، برقم (٥١٨١)، الجامع الصحيح للترمذي ج٤ ص۱۲۲.