الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا ورسولنا محمد، أما بعد:
فإن صلاة الجمعة من فرائض الإسلام فقد فرضها الله عليهم فرض عين في قوله جل في علاه: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ “(الجمعة:9) فاقتضى هذا الأمر وجوب المناداة لهذه الصلاة ثم الأمر بالسعي إليها ثم الأمر بوجوب ترك البيع إذا دخل وقتها ثم البيان بأن هذا السعي وترك التجارة هو الخير للمؤمنين ثم بين تقدس اسمه ما يباح لهم بعد هذه الصلاة من التجارة ثم حذر عزوجل الذين خرجوا من المسجد لما سمعوا الإعلان عن التجارة التي قدمت من الشام وبين لهم أن ما عنده عزوجل خير من اللهو ومن التجارة وأنه خير الرازقين.
هذه هي فرضية الجمعة وعظم هذه الفريضة ووجوب القيام بها والتحذير من التهاون فيه.
هذا في كتاب الله أما في سنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ما رواه أبو الجعد الضمري رضي الله عنه أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: ” مَن ترَكَ الجمعةَ ثلاثَ مرَّاتٍ تهاونًا بها، طبَعَ اللهُ على قلْبِه”([1]) وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:” لَيَنتهِينَّ أقوامٌ عن وَدْعِهم الجُمُعاتِ، أو لَيختمنَّ اللهُ على قلوبِهم، ثم لَيكونُنَّ مِنَ الغافلِينَ “([2]).
أما الإجماع فقد أجمعت الأمة في سلفها وخلفها على أن صلاة الجمعة لا تسقط عن المكلف ما لم يكن له عذر شرعي([3]).
هذا في عموم المسألة: أما عن السؤال بأن المسجد الذي يصلي فيه المقيمون هناك مسجد صغير لا يستوعبهم وما إذا كان يجوز أن تقام فيه الجمعة مرتين في مكان واحد، ففي هذا خلاف بين بعض أهل العلم ففي مذهب الإمام أبي حنيفة ومالك عدم الجواز([4]) وفي مذهب الإمام الشافعي القول بالجواز([5]) وقال به أبو محمد المقدسي من الحنابلة([6]).
قلت: ولعل القول بالجواز هو الصواب لأسباب عدة: منها :أن هؤلاء الإخوة المقيمين في الغربة ممن فرض الله عليهم صلاة الجمعة فإذا لم يصلوها فقد جاوزوا هذا الفرض فكانوا ممن ترك ثلاث جمعات واعتبروا متهاونين بها وهذا لا يجوز ، ومن الأسباب: أن الصلاة على دفعتين أمر حاجة وقد أعذر الله أصحاب الحاجات، والعذر هنا عدم استطاعة الصلاة دفعة واحدة وبسب صغر المسجد، ومن هذه الأسباب: وجود سابقتين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاهما :صلاة الخوف والأصل فيها قول الله عزوجل: ” وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ”(النساء:102)، وثاني السابقتين: أن معاذ بن جبل رضي الله عنه كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده ثم يذهب إلى قومه فيصلي بهم في مسجدهم وذلك فيما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنَّ مُعاذًا كان يُصلِّي معَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عِشاءَ الآخِرةِ ثمَّ يَرجِعُ إلى قومِه فيصلِّي بهم هِيَ له تَطَوُّعٌ ولهم مكتوبةٌ([7]).
لهذا أرى أنه لا حرج إن شاء الله على الإخوة في أن يصلي بعضهم حتى يمتلئ المسجد وينتظر البعض الآخر فيصلي بعدهم كالعادة في الأذان والخطبة ثم الصلاة.
والله تعالى أعلم
[1] أخرجه أبو داود (1052)، والترمذي (500)، والنسائي (1369)، وابن ماجه (1125)، وأحمد (15498) باختلاف يسير، وابن خزيمة (1858) واللفظ له.
[2] أخرجه مسلم(865).
[3] قال الكاسانيُّ: (الجمعةُ فرضٌ لا يسعُ تركُها، ويكفر جاحدُها، والدليلُ على فرضيَّة الجمعة: الكتابُ، والسُّنَّة، وإجماعُ الأمَّة) ((بدائع الصنائع)) (1/256) وقال ابنُ قُدامَة: (الأصلُ في فرْض الجمعة: الكتاب، والسُّنة، والإجماع… وأجمَع المسلمون على وجوبِ الجمعة) ((المغني)) (2/218).
[4] بدائع الصنائع للكاساني ج1 ص 262،والشرح الكبير للدردير ج1 ص 375.
[5] ينظر: المجموع شرح المهذب للنوويج4 ص 454.
[6] نور الشمعة في بيان ظهر الجمعة لابن غانم المقدسي ص 98 و((المغني)) لابن قدامة (2/248)، ((شرح الزركشي على مختصر الخرقي)) (2/196).
[7] أخرجه البخاري (701)، ومسلم (465)، وأبو داود (790)، والنسائي (835)، وابن ماجه (986)، وأحمد (14307) مطولاً، والشافعي في ((الأم)) (2/347) واللفظ له.