والجواب: أن من الجاري في سائر البلدان وجود علاقة بين الموظف، أو العامل، أو من في حكمهما، وبين الجهة التي يعمل فيها (حكومة أو شركة أو مؤسسة)، وهذه العلاقة تقوم إما على أساس قرار تصدره الحكومة بناءً على نظـام مكتوب، أو بناء على عقد تصدره المؤسسة أو الشركة بالاتفاق مع الموظف أو العامل، وأيًّا كانت تسمية أداة العلاقة بين الطرفين إلا أنها في مفهومها الحقيقي عقد يحدد الالتزام بينهما، من حيث ساعات العمل، ومقدار الراتب أو الأجر، ومختلف الالتزامات والواجبات، ويفترض قطعًا أن الطرفين إذا وافقا على هذه العلاقة أصبح كل منهما ملتزمًا بأداء ما ورد في أداتها (من قرار أو عقد)، ولا ينتهي هذا الالتزام إلا حسب ما ورد نصًّا في هذه الأداة، كاستقالة الموظف أو العامل، أو انتهاء الوظيفة إذا كان لها أجل مسمى، أو نحو ذلك مما تبينه الأنظمة أو العقود التي تعرف سلفا، وتحدد واجبات كل منهما والتزاماته.
ويحكم هذا التعاقدَ في الشرع الإسلامي أمران: الديانة، والقضاء.
أما الديانة فللعقد في هذا الشرع ثلاثة أصول أو أحكام، هي:
- وجوب الوفاء به.
- قيامه إلى أجله.
- أنه يعد أمانة.
- أن عدم الوفاء به يعد أكلًا للمال بالباطل.
أما وجـوب الوفاء به فقول الله -تعالى- في كتابه الكريم: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40]، وقوله -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، وقوله -جل ثناؤه-: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولا} [الإسراء: 34].
والمراد بالعقود ما يعم جميع ما ألزمه الله -تعالى-عباده، وعقد عليهم من التكاليف والأحكام الدينية، وما يعقدونه فيما بينهم من عقود الأمانات والمعاملات، ونحوهما مما يجب الوفاء به([1])، وأما وجوب الوفاء بالعقد في السنة فقول رسول الله -ﷺ-: (المسلمون على شروطهم، إلا شرطًا حرم حلالًا، أو أحل حرامًا)([2])، وقول عمر بن الخطاب-رضى الله عنه-: (مقاطع الحقوق عند الشروط)([3]).
وأما قيام العقد إلى أجل فمقتضاه أن طرفيه قد التزما بما اتفقا عليه، وهذا الالتزام يصبح جزءًا من العقد، وهذا يقتضي الوفاء به كله، بما فيه أجله، وقد حرم الله نقض العهود والمواثيق، فقال -تعالي-: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُون} [البقرة: 27].
وقال -تعالى-: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّار} [الرعد: 25]، وأما أن العقد يعد أمانة فكل ما وجب على المسلم من أمر الدين أو الدنيا يعد أمانة، فأداء الصلاة أمانة، وأداء الزكاة أمانة، وأداء العمل أمانة، والتعامل مع الناس أمانة، وهكذا في كل التكاليف، وحين وصف الله المؤمنين بالفلاح ذكر أنهم يراعون أماناتهم وعهودهم، فقال -عز وجل-: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون} [المؤمنون: 1] إلى قوله -تعالى-: {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُون} [المؤمنون: 8]، وقد نهى الله نهي تحريم عن خيانة الأمانة، فقال -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال: 27].
وقد وصف رسول الله خائن أمانته بالمنافق، فقال-عليه الصلاة والسلام-: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان)([4]).
وأما أن عدم الوفاء بالعقـد يعد أكلًا للمال بالباطل فإن من يعقد على نفسه عقدًا يلزم فيه نفسه بشيء كالدين، أو الإجارة، أو القيام بعمل، ثم لا يؤدي ما التزم به يعد أكلا للمال بالباطل، إذا كان يتقاضى هذا المال مقابل ما التزم به في العقد، وقد حرم الله ذلك في قوله-عز وجل-: {وَلَا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]، كما حرم ذلك رسول-ﷺ-في قوله: (إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة)([5])، وقوله -عليه الصلاة والسلام- في الرجل (يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب!، ومطعمه حرام، ومـشـربـه حـرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟)([6])، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: (إن هذا المال حلوة خـضـرة، فـمـن أصـابـه بـحـقـه بـورك له فيه، ورب متخوض فيما شاءت به نفسه من مال الله ورسوله ليس له يوم القيامة إلا النار)([7]).
قلت: هذا حال العقد من حيث الدين، وما يقتضه من وجوب الوفاء به؛ بسبب أن هذا الوفاء أمانة عظم الله أمرها، وحملها الإنسان، ووعد بمحاسبته عليها، أما حال العقد من حيث القضاء فإن لأي من طرفيه مقاضاةَ صاحبه إذا أخل بأحكامه، فالموظف مثلا يستطيع مقاضاة الحكومة حسب طبيعة نظامه أمام دیوان المظالم في البلاد التي تتبع المنهج الإسلامي، أو أمام مجالس الدولة أو نحوها في البلدان الأخرى، والعامل يستطيع كذلك مقاضاة المؤسسة أو الشركة التي يعمل فيها وفق النظام والإجراءات القضائية المتبعة في بلاده، وفي المقابل تستطيع الحكومة أو الشركة أو المؤسسة مقاضاة الموظف أو العامل حسب ما لديها من أنظمة وإجراءات إذا أخل بالتزامه، وهكذا.
وينبني على ما سبق أن الموظف أو العامل ومن في حكمهما إذا لم يحضر للعمل الذي عُهد به إليه، أو تهاون فيه بأي صفة، فقد أخل بأمانته، ويعد الراتب أو الأجر الذي يتقاضاه من الجهة التي يعمل فيها حرامًا عليه؛ لأن الله عـظم أمر الحقوق، وشدد على وجوب الوفاء بها؛ لكي يأخذ كل إنسان حقه دون أن يبخس منه شيئًا؛ عملًا بقول الله -عز وجل-: {وَلَا تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِين} [هود: 85].
وأما قول الأخ السائل: إن الجهة التي يعمل فيها الموظف محل السؤال لا تعطيه حقوقه، فإن كان هذا يعني أنها لا تعطيه راتبه أو أجره، أو أيًّا من حقوقه المقررة له، فإن له الحق في مقاضاتها حسب الأنظمة والإجراءات المتبعة في بلاده كما أشير إليه آنفًا.
وإن كان القصد أنه يعتقد أو يظن ضَعْفَ مرتبه، وأنه لن يحضر للعمل، أو أنه سيتهاون فيه، كقول بعضهم: العمل على قدر الأجر، فهذا خطأ وإثم كبير، فمن يلتزمْ بعمل في أي جهة، ويَرْضَ بما قدر له فيها من راتب أو أجر، إما بحكم قرار من حكومة، أو بعقد مع شركة أو مؤسسة، وجب عليه أن يؤدي هذا العمل دون نقصان، ولا يحل له تبرير عدم حضوره للعمل، أو تهاونه فيه بأعذار وحجج غير مشروعة؛ لأن الله -عز وجل-يقول في محكم التنزيل: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى . وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى . ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الأَوْفَى} [النجم: 39-41]، كما يقول -وقوله الحق-: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة} [المدثر: 38].
وخلاصة المسألة: أن من المعتاد وجودَ علاقة بين الموظف أو العامل في الجهة التي يعملان فيها، وهذه العلاقة منظمة بعقد أو قرار، وهذا العقد من حيث الديانة له ثلاثة أحكام، هي: وجوب الوفاء به، وقيامه إلى أجله، وأنه يعد أمانة، وأن عدم الوفاء به يعد أكلًا للمال الباطل، أما من حيث القضاء فإن لأي من طرفيه مقاضاةَ صاحبه إذا أخل بأحكامه.
وينبني على ذلك أن الموظف أو العامل ومن في حكمهما إذا لم يحضر للعمل الذي عهد به إليه، أو تهاون فيه بأي صفة يعد مخلًّا بأمانته، ويعد الراتب أو الأجر الذي يتقاضاه من الجهة التي يعمل فيها حرامًا عليه.
وأما القول بأن هذه الجهة لا تعطيه حقوقه، فإن كان هذا يعني أنها لا تعطيه راتبه، أو أجره، أو أيًّا من حقوقه المقررة له، فإن له الحق في مقاضاتها حسب الأنظمة والإجراءات المتبعة في بلاده، وإن كـان يـعـتـقـد أو يـظـن ضـعـف مـرتـبه، وأنه لن يـحـضـر للعمل، أو أنه سيتهاون فيه، كقول بعضهم: العمل على قدر الأجر، فهذا خطأ وإثم كبير؛ لأن من يلتزمْ بعمل في أي جهة، ويَرْضَ بما قـدر لـه فـيـهـا من راتب أو أجر، يجب عليه أن يؤديه دون نقصان، ولا يحل له تبرير فعله بأعذار وحجج غير مشروعة.
والله -تعالى- أعلم .
([1]) روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، للآلوسي، ج 5 ص ۷۳.
([2]) أخرجه الترمذي في كتاب الأحكام، باب ما ذكر عن رسول الله -ﷺ-في الصلح بين الناس، سنن الترمذي، ج4 ص٦٣٤-٦٣٥، برقم (١٣٥٢)، صححه الألباني في صحيح الترمذي، (١٣٥٢).
([3]) أخرجه البخاري فى كتاب النكاح، باب الشروط فى النكاح، فتح الباري ج 9 ص 124.
([4]) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم للأبي، ج۱ ص۲۷۷، برقم (۱۰۷).
([5]) أخرجه البخاري في كتاب فرض الخمس، باب قول الله -تعالى-: {فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ}، فـتـح الـبـاري، ج6 ص ٢٥١، برقم (۳۱۱۸)، قال الحافظ ابن حجر: “يتخوضون أي: يتصرفون في مال المسلمين بالباطل”.
([6]) أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب، وتربيتها، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم، ج۳ ص ٤٧٧-٤٧٨، برقم (65).
([7]) أخرجه الترمذي في كتاب الزهد، باب ما جاء في أخذ المال، سنن الترمذي، ج4 ص5۰۷، برقم (٢٣٧٤)، صححه الألباني في صحيح الجامع، (٢٢٥١).