والجواب: أن هذا القول عبث وباطل من أصله، فلو قيل به لفسدت حياة الناس، وانقلبت رأسًا على عقب؛ لأن كل واحد سوف يرتكب المحرمات، ويفعل المنكرات، ويخالف قواعد الحياة بحجة أن هذا مقدر، وهذا باطل من عدة أوجه:
الأول: أن الله -جل وعلا- حين خلق الكون أحكمه بقواعد وسنن لا تتغير ولا تتبدل، فقد أرسى الأرض بالجبال، كما قال عز وجل: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} [النازعات: 32]. وجعل كل شيء فيها موزونًا، كما قال -عز ذكره-: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُون} [الحجر: 19]. وقد أحكم جريان الماء والهواء ونزول المطر فقال -جل ثناؤه-: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُوم* وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِين} [الحجر: 21-22]. والآيات التي تدل على حكمته وقدرته في تسيير الكون وأفلاكه معلومة ومبثوثة في كتابه العزيز.
وكما أحكم الكون أحكم حياة عباده بما وضعه لهم من القواعد التي جاءت في الرسالات السماوية، وآخرها وخاتمها وأفضلها رسالة رسوله محمد r، وقد بيَّنت هذه الرسالة الحلال وأمرت العباد بالتزامه، وبيَّنت لهم الحرام، وأمرتهم باجتنابه. وعلى أساس هذه القواعد يعمل الإنسان، وكل ميسّر لما خلق له، وفي هذا قال رسول الله r لما قيل له: يا رسول الله، بيّن لنا ديننا كأنا خلقنا الآن فما العمل اليوم؟ أفيم جفت به الأقلام وجرت به المقادير، أم فيما نستقبل؟ قال: (لا، بل فيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير) قيل: ففيم العمل؟ فقال: (اعملوا فكل ميسّر لما خلق له)([1]).
الوجه الثاني: أن الإنسان مكلف بما أُمِرَ به، فإذا لم يفعل كان عاصيًا، ومن عصى الله فقد اتَّبع هواه، ومن اتَّبع هواه كان من الخاسرين، وهذا ما حدث للأمم والأقوام الذين عصوا رسلهم لما جاؤوهم بالبينات، وأول من عصى الله إبليس في امتناعه عن السجود لآدم، وقد حقَّت عليه اللعنة بسبب عصيانه، ولم يحتج في هذا العصيان بالقدر، وإنما لادعائه أن خلقه أفضل من خلق آدم؛ لأنه خلق من نار وآدم خلق من طين، وقد حكى الله عنه ذلك بقوله: {قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِين * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِين} [ص: 75-76].
وقد اقتضت حكمة الله أن يجازي الناس على قدر أعمالهم، كما قال -عز وجل-: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه: 124-126].
الوجه الثالث: أن الله حين كلَّف عباده بطاعته ونهاهم عن معصيته جعل لهم من العقل والإرادة ما يدركون به هذا التكليف، وفي هذا قوله -عز وجل-: {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَة * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَه} [القيامة: 14-15]. وقوله -عز ذكره-: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 2-3]. وقوله -جل ثناؤه: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْن} [البلد: 10]. فبهذه المدركات الحسية والعقلية يستطيع أن يكون طائعًا أو عاصيًا، ولهذا وذاك جزاؤه، فإن كان من المهتدين زاده الله هدى، كما قال -عز وجل-: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم: 76]. وإن كان ممن يتَّبع هواه أضله الله كما قال -عز وجل-: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية: 23].
وينبني على هذا أن المسلم يجب أن يؤمن بالقدر؛ لأنه ركن من أركان الإيمان، ولكن ليس له أن يحتج به، وعليه أن يعمل، وسيجزى على هذا العمل، إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر، وفي هذا قال -عز وجل-: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون} [الزخرف: 72].
الوجه الرابع: أن الاحتجاج بالقدر يستلزم حتمًا نفي ما ورد في الكتاب والسـنة من الأوامـر والنواهـي، وهذا يعد كفرًا بواحًا، وفي هذا قال الله -عز وجل-: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا} [الكهف: 103-106].
الوجه الخامس: أن هؤلاء الذين يحتجون بالقدر قد انغلقت عقولهم، وضلت أفهامهم، وفسدت مداركهم بسبب ما لبَّسه الشيطان عليهم، لكي ينزع منهم الإيمان ويضلهم، ليكونوا من حزبه، فقد تعهد بإغواء من يستطيع إغواءه، وإضلال من يقدر على إضلاله، فيما حكاه الله عنه بقوله -عز وجل-: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِين} [ص: 82]. ولكنه استثنى من تعهده العباد الذين يؤمنون بالله ويعبدونه، ويخلصون في إيمانهم وعبادتهم، وذلك فيما حكاه الله عنه: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِين} [ص: 83].
وخلاصة المسألة: أن الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي عبث وباطل، وقد اقتضت حكمة الله أن يجازي الناس على قدر أعمالهم، وحين كلفهم بطاعته ونهاهم عن معصيته جعل لهم من المدركات الحسية والعقلية ما يدركون به هذا التكليف، وعليهم أن يأتمروا بما أمروا به، وينتهوا عما نهوا عنه، وكل ميسر لما خلق له.
والذين يحتجون على عصيانهم بالقدر قد ضلوا الطريق السوي بسبب ما لبَّسه الشيطان عليهم، وعلى المسلم أن يؤمن بالقدر؛ لأنه ركن من أركان الإيمان، ولكن ليس له أن يحتج به، وعليه أن يعمل حسب ما كلف به، وسيجزى على عمله إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.
([1]) أخرجه مسلم بلفظ قريب منه في كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي، في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته، برقم (2648)، صحيح مسلم بشرح النووي ج10 ص6696.