سؤال‮ ‬من الأخ م ز‮ … ‬من ولاية تيبازة من الجزائر عن السنة والبدعة،‮ ‬وكيف‮ ‬يكون التمييز بينهما‮؟.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

التمييز بين السنة والبدعة

والـجواب عن هذا من وجهين:

أولهما- السنة:

السنة في اللغة: الطريقة المسلوكة أو الطريقة المحمودة([1])، وسنة الله حكمته وإرادته في خلقه، قال تعالى: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: 34]. وسنة رسول الله r ما ورد عنه من قول أو فعل أو تقرير. وسنة خلفائه الراشدين ما نقلوه عنه، أو ما اجتهدوا فيه، وفي هذا قال عليه الصلاة والسلام: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ) الحديث([2]).

والمسلم مكلف تكليف عين باتباع السنة، والأصل في هذا الكتاب والسنة والإجماع والمعقول. أما الكتاب، فالآيات كثيرة، منها توجيه الله لعباده أن يدعوه لهدايتهم إلى الصراط المستقيم في قوله تعالى: {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيم * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّين} [الفاتحة: ٦-٧] . ومن هذه الآيات قول الله تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ} [النساء: 08]. وقوله جل ثناؤه: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء: 56]. وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْرًا لَّكُمْ} [النساء: 071].

وقوله جل ثناؤه: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 351]. وقوله عز من قائل: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} [النور: 36]. وقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: ٧]. والآيات الآمرة باتباع رسول الله r وطاعته فيما جاء به كثيرة، بينة في كتاب الله عز وجل.

وأما السنة، فما رواه ابن ماجة وغيره من أصحاب السنن عن العرباض بن سارية قال: صلى بنا رسول الله r ذات يوم، ثم أقبل علينا بوجهه، فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقيل: يا رسول الله وعظتنا موعظة مودع فاعهد إلينا بعهد، فقال: (أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)([3]).

وما رواه أيضًا عبدالله بن مسعود أن رسول الله -عليه الصلاة والسلام- خط خطًّا ثم قال: (هذا سبيل الله)، ثم خط خطوطًا عن يمينه وعن شماله، وقال: (هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ قول الله تعالى: وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه)([4]).

وأما الإجماع، فقد أجمعت الأمة في سلفها وخلفها على أن السنة هي المصدر الثاني لشريعة الله؛ لأنها من وحيه وأمره، كما قال عز وجل: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: ٣-٤] ولهذا، فإن المسلم مكلف عينًا باتباعها، فمن أنكرها إنكارًا كليًّا أو جزئيًّا فقد عصى الله، وخرج بذلك من ملة الإسلام.

والسنة -كما يقول الإمام الشافعي- على ثلاثة أقسام: أحدها ما أنزل الله فيه نص كتاب؛ فبين رسول الله r مثل ما نص الكتاب. الآخر مما أنزل الله فيه جملة كتاب؛ فبين عن الله معنى ما أراد، وهذان الوجهان لم يختلفوا فيهما. والوجه الثالث: ما سَنَّ رسول الله فيما ليس فيه نص كتاب، واختلف فيه؛ فمنهم من قال جعل الله له بما افترض من طاعته، وسبق في علمه من توفيقه لرضاه: أن يُسَنَّ فيما ليس فيه نص كتاب. ومنهم من قال: لم يسن سنة قط إلا ولها أصل في الكتاب، كما كانت سنته لتبين عدد الصلاة وعملها، على أصل جملة فرض الصلاة، وكذلك ما سنَّ من البيوع وغيرها من الشرائع؛ لأن الله -تعالى- قال: {لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 92]. وقال تعالى: {وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 572]. فما أحلَّ وحرّم فإنّما بيَّن فيه عن الله، كما بين الصلاة. ومنهم من قال: بل جاءته به رسالة الله، فأثبتت سنته بفرض الله. ومنهم من قال: ألقي في روعه كلما سَنَّ، وسنته الحكمة: الذي ألقي في روعه عن الله، فكان ما ألقى في روعه سنته» انتهى([5]).

وأما المعقول في مسألة التكليف باتباع السنة، فإن الانتساب للإسلام يقتضي عقلًا الإيمان بما جاء به، وهذا الإيمان يقتضي تصديقًا في قبوله كله، وإخلاصًا في فعله كله. ولما كانت سنة رسول الله r هي الأصل الثاني في الإسلام، فقد اقتضى هذا وجوب اتباعها عينًا على كل من انتسب إليه؛ فمن أنكرها فقد أنكر الإسلام؛ ذلك أنه لا يستطيع عاقل أن يقول في وقت واحد آخذ بعض الإسلام، وأترك بعضه؛ فهذا القول عبث، ومنكر في ذاته لأن الإسلام جزء واحد، وكُلٌّ واحد، فمن أخذه كله فقد أقر به وأصبح من أهله، ومن أنكر بعضه فقد أنكره كله وخرج منه.

الوجه الثاني – البدعة:

البدعة في اللغة: من الابتداع، وهو الاختراع، ثم غلب استعمالها فيما هو نقص في الدين أو زيادة فيه، والبدعة سلوك يتعلق بإحداث أمر في الدين، قد يقصد به طاعة الله، مثل أن يتفق جماعة على أن يصلوا صلاة الضحى جماعة بأذان وإقامة، فهذا القصد منه طاعة الله، ولكنه بدعة محدثة وضلال في الدين؛ لأن صلاة الضحى سنة وتصلى فرادى؛ فمن اتخذ طريقة غير هذه، فقد أحدث في الدين ما ليس فيه. ومثل ذلك ما يقع في هذا الزمان من البدع في بعض بلاد الأمة، مما أساسه الفرق والنحل، التي انتشرت بين ظهرانيها، من صوفية، وتيجانية، ورفاعية، ونقشبندية وأحباش وغيرهم من أصحاب الملل والنحل المحدثة. والمبتدع في الدين مخالف لشرع الله، وضال عن طريقه المستقيم من عدة وجوه:

أولها: إنكاره لكمال الدين: والمسلم يعلم علم يقين أن الله عز وجل بين لعباده طريق تعبدهم، وقد تبين لهم هذا الطريق من خلال كتابه الكريم، ومن خلال سنة رسوله الأمين، ومن خلال السلف الصالح. أما الكتاب فقول الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: ٣]. وقوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء: 95]. وقوله جل ثناؤه: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 83]. وقوله تعالى: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} [الأنعام: 351]. وقوله عز من قائل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 42].

وأما السنة، فقول رسول الله r في حديث العرباض المتقدم ذكره: (تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك). وقوله: (وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)([6]).

وأما السلف الصالح فقد سئل ابن مسعود عن الصراط المستقيم، فقال: تركنا محمد r في أدناه وطرفه في الجنة، وعن يمينه جواد وعن يساره جواد، وثَمَّ رجال يدعون من مر بهم، فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إلى النار. ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة، ثم قرأ (وأن هذا صراطي مستقيمًا)([7]).

ولما كتب رجل إلى عمر بن عبدالعزيز يسأله عن القدر كتب إليه: «أما بعد، فإني أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره واتباع سنة نبيه r، وترك ما أحدث المحدثون فيما قد جرت به سنته وكفوا مؤنته، فعليك بلزوم الجماعة، فإنها لك بإذن الله عصمة، ثم اعلم أنه لم يبتدع الناس بدعة إلا قد مضى قبلها ما هو دليل عليها أو عبرة فيها؛ فإن السنة إنما سنها من قد علم ما في خلافها من الخطأ والزلل، والحمق والتعمق؛ فارض لنفسك ما رضي به القوم لأنفسهم؛ فإنهم على علم وقفوا، وببصر نافذ قد كفوا، وإنهم على كشف الأمور كانوا أقوى، وبفضل ما كانوا فيه أولى، فإن كان الهدى ما أنتم عليه فقد سبقتموهم إليه، ولئن قلتم إنما حدث بعدهم، فما أحدثه إلا من اتبع غير سبيلهم، ورغب بنفسه عنهم؛ فإنهم هم السابقون، قد تكلموا فيه بما يكفي، ووصفوا ما يشفي؛ فما دونهم من مقصر، وما فوقهم من محسر، ولقد قصر قوم دونهم فجفوا، وطمع عنهم أقوام فخلوا، وإنهم مع ذلك لعلى هدى مستقيم»([8]).

وقد روى أبو موسى الأشعري أنه جاء إلى عبدالله بن مسعود فقال له: يا أبا عبدالرحمن، إني رأيت في المسجد آنفًا شيئًا أنكرته، ولم أر والحمد لله إلا خيرًا! قال: فما هو؟ فقال: إن عشت فستراه، قال: رأيت في المسجد قومًا حلقًا جلوسًا ينتظرون الصلاة؛ في كل حلقة رجل وفي أيديهم حصى، فيقول: كبروا مئة؛ فيكبرون مئة فيقول: هللوا مئة؛ فيهللون مئة ويقول: سبحوا مئة؛ فيسبحون مئة قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئًا؛ انتظار رأيك أو انتظار أمرك. قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم ألا يضيع من حسناتهم. ثم مضى ومضينا معه، حتى أتى حلقة من تلك الحلق؛ فوقف عليهم فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبدالله حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح.

قال: فعدوا سيئاتكم، وأنا ضامن ألا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم! هؤلاء صحابة نبيكم r متوافرون .. والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد؟ أو مفتتحوا باب ضلالة؟ قالوا: والله يا أبا عبدالرحمن ما أردنا إلا الخير. قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه..([9]).

فاقتضى هذا أن المبتدع في الدين منكر لكماله، وبهذا الإنكار يعد مخالفًا لشرع الله، وما جاء به من الكمال في أوامره، ونواهيه، وكلياته، وجزئياته. ومع أن أصحاب الحلق المشار إليهم لم يفعلوا إلا ما هو خير حسب قصدهم، فإن غاية الإنكار عليهم من ابن مسعود أنهم أتوا بما لم يأت به نص في السنة، بل هي بدعة ابتدعوها من أنفسهم.

الوجه الثاني: أن المبتدع في الدين مشاق لله ومضاهٍ له في شرعه.

إن الله -جل وعلا- عندما أكمل الدين وبين للعباد طريق تعبدهم لم يجعل لهم خيارًا يتعبدون به زيادة، أو نقصًا؛ بل ألزمهم باتباع ما أمرهم به، واجتناب ما نهاهم عنه، وعندما بلَّغ رسول الله r ما أوحي إليه من ربه أمرًا ونهيًا لم يجعل للمُبلَّغ لهم كذلك خيارًا في الزيادة على ما بلِّغوا به، أو النقص منه. وفي هذا قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 63]. والمبتدع في الدين بالزيادة عليه، أو النقص منه يصبح في حكم المشاق لله ورسوله؛ لأنه يكون منكرًا لكمال الدين، ومعاندًا له فيما قضى فيه من الشرائع، وما أنزله من الحق، وما حكم به من الأحكام، وفي هذا قال الله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب} [الأنفال: 31]. والمبتدع في الدين يصبح في حكم المضاهي لمن شرع الدين، وهو الله فيجعل نفسه بمنزلته، وهذا منتهى الإثم والخطيئة؛ فالذي شرع الدين أعلم بأحوال خلقه، وما ينفعهم، وما يضرهم في حالهم، ومآلهم؛ فهو المتفرد في هذا الشرع وحده، ومن ابتدع في الدين صار مضاهيًا له، وأنى له ذلك، وهو المخلوق الذي لا يستطيع لنفسه أو غيره نفعًا ولا ضرًّا.

الوجه الثالث: أن المبتدع في الدين يفتح على العباد باب الاختلاف والتفرق؛ فالعباد لا يختلفون على حكم من أحكام الله، أو شرع من شرعه، ولا يشذ عن هذه القاعدة إلا قلة من الخلق، بعد أن يزين لهم الشيطان هذا الشذوذ. ولكن العباد يختلفون حول ما يأتي به البشر؛ فالمبتدع وإن وجد من يصدقه أو يتبعه فسوف يجد من يكذبه، وهم الكثرة من العباد، وفي كلتا الحالتين يفتح عليهم باب الجدل والكلام، وهو ما أصاب أمة المسلمين حين بدأت فيها الفرق، وانتشرت فيها البدع، مما هو مشاهد ومحسوس فيما مضى من الزمان، وما هو واقع في الحال. ولهذا نهى الله عز وجل عن التفرق والاختلاف، وحذر منه، وعظم جزاءه قال تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم} [آل عمران: 501]. وقال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُون} [الأنعام: 951].

الوجه الرابع: أن المبتدع في الدين يصدر في ابتداعه عن هواه.

والأصل في الدين أن يكون هوى المسلم تبعًا لما جاء عن الله في كتابه، أو على لسان رسوله محمد r ؛ ذلك أنه محكوم بهذين الأصلين الكتاب والسنة، فإن حادت نفسه عن ذلك أصبح محكومًا بهواه؛ فيبتدع في الدين زيادة أو نقصًا بما يؤمن هذا الهوى؛ فالذي يبيح الربا -مثلًا- محكوم بهوى نفسه في حبها للمال دون مراعاة للحكم بتحريم هذا المال إذا كان عن طريق الربا. والذي يزين لجهلة العامة البدع -كما يفعله أصحاب الفرق- إنما يفعل ذلك عن هواه، إما لجلب منفعة له في جمع المال منهم تحت أي ذريعة، أو ابتغاء الجاه والرئاسة باسم الدين.

وقد ذم الله الهوى، وعظم إثمه وجزاءه، فقال تعالى عن بني إسرائيل: {أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُون} [البقرة: 78]. وقال تعالى: {كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُون} [المائدة: 07]. وحذر الله نبيه ورسوله محمدًا r من طاعة من يتبع الهوى فلما طلب أمية بن خلف الجمحي من رسول الله إبعاد الفقراء عنه، وإحلال صناديد قريش محلهم، نهاه الله عن ذلك وحذره منه في قوله تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 82]. كما حذر الله الأمة من اتباع الهوى في حكمهم؛ فبعد أمره للمؤمنين بإقامة القسط ولو على أنفسهم، قال جل ثناؤه: {فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ} [النساء: 531] . وقد وعد -ووعده الحق- بأن تكون الجنة مأوى للذين يخافونه، وينهون أنفسهم عن هواها، وذلك في قوله تقدست أسماؤه: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 04 – 14]. وكما ذم الله الهوى وعظم إثمه وجزاءه، أكد رسول الله rأنه ما من إيمان إلا لمن جعل هواه تبعًا لما جاء به، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به)([10]). وقال عليه الصلاة والسلام: (بئس العبد عبد هوى يضله)([11]). وقال عليه الصلاة والسلام: (حتى إذا رأيت شحًّا مطاعًا، وهوى متبعًا، ودنيًا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك خويصة نفسك ..)([12]).

وخلاصة المسألة: أن سنة رسول الله r طريقته، وأن المسلم مكلف عينًا باتباع هذه السنة، وهي ما ورد عن رسول الله r من قول، أو فعل، أو تقرير. والأصل في وجوب اتباع السنة آيات كثيرة من كتاب الله الكريم، منها قوله عز وجل: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ} [الأنعام: 351]. وقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: ٧] .

وأما من سنة رسول الله، فقوله عليه الصلاة والسلام: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ)([13]). وقد أجمعت الأمة في سلفها وخلفها على أن السنة هي المصدر الثاني لشريعة الله؛ لأنها من وحيه وأمره([14])، كما قال عز وجل:

{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: ٣-٤].

أما البدعة فهي سلوك يتعلق بإحداث أمر في الدين زيادة أو نقصًا. والمبتدع في الدين مخالف لشرع الله، وضال عن طريقه المستقيم من عدة وجوه: أولها: إنكاره لكمال الدين في أوامره، ونواهيه، وكلياته، وجزئياته. وهذا منتهى الإثم والخطيئة. الوجه الثاني: أن المبتدع في الدين مشاق لله ومضاهٍ له في شرعه؛ فهو في ابتداعه بالزيادة في الدين أو النقص منه يعد في حكم المضاهي لمن شرع الدين، وهو الله، فيجعل نفسه بمنزلته، وهذا أيضًا منتهى الإثم والكفر. الوجه الثالث: أن المبتدع في الدين يفتح باب الاختلاف والتفرق بين عباد الله، وهذا مما حذر الله منه وعظم جزاءه. الوجه الرابع: أن المبتدع في الدين يصدر في ابتداعه عن هواه.

والأصل في الدين أن يكون هوى المسلم تبعًا لما جاء عن الله في كتابه، وما ورد في سنة نبيه ورسوله محمد r. وقد ذم الله الهوى، وعظم إثمه وجزاءه في آيات كثيرة من كتابه الكريم، كما

([1]) البحر المحيط في أصول الفقه للزركشي، ج٣ ص٦٣٢.

([2]) أخرجه الترمذي في كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، سنن الترمذي، ج٥ ص٣٤، برقم (٦٧٧٢)، صححه السيوطي في الجامع الصغير (٦٠٧٨).

([3]) أخرجه ابن ماجة في المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، سنن ابن ماجة، ج١ ص٥١-٦١، برقم (٢٤)، والترمذي في كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، سنن الترمذي، ج٥ ص٣٤، برقم (٦٧٦٢)، صححه الألباني في صلاة التراويح (٨٦).

([4]) أخرجه الإمام أحمد في المسند، ج١ ص٥٣٤، ٥٦٤، حسن إسناده الألباني في هداية الرواة (١٦٥).

([5]) انظر: الرسالة للإمام الشافعي، ص٢٩-٣٩.

([6]) أخرجه ابن ماجة في المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين، سنن ابن ماجة، ج١ ص٦١، برقم (٢٤)، صححه الألباني في صلاة التراويح (٨٦).

([7]) جامع البيان عن تأويل القرآن، للطبري، ج٥ ص٨٨-٩٨.

([8]) الاعتصام، للإمام الشاطبي، ج١ ص٨٣، وتفسير الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، ج٧ ص٩٣١.

([9]) أخرجه الدارمي في مقدمة سننه، باب كراهية أخذ الرأي، سنن الدارمي، ج١ ص97، صحح الألباني إسناده في السلسلة الصحيحة (5/11).

([10])     ذكره النووي في الأربعين النووية، الحديث الحادي والأربعون، وقال: «حديث حسن صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح». وذكره ابن رجب في جامع العلوم والحكم، ص286.

([11])     أخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب حديث ذمائم العباد، برقم (٨٤٤٢)، وقال غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وليس إسناده بالقوي.

([12])     أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي، سنن أبي داود، ج٤ ص٣٢١، برقم (١٤٣٤)، وابن ماجة في كتاب الفتن، باب قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ}، سنن ابن ماجة، ج٢ ص٠٣٣١-١٣٣١، برقم (٤١٠٤)، ضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1025).

([13])     أخرجه الترمذي في كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، سنن الترمذي، ج٥ ص٣٤، برقم (٦٧٧٢)، صححه السيوطي في الجامع الصغير (٦٠٧٨)..

([14])     انظر: إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، للشوكاني، ص٣٣، والبحر المحيط في أصول الفقه، للزركشي، ج٣ ص٦٣٢-٩٣٢، والموافقات، للشاطبي، ج٤ ص٣-٠١.