سؤال من الأخ مروان زهير من الجزائر حول الإجماع السكوتي، ومدى حجيته.

الإجماع ومدى حجية الإجماع السكوتي

الإجماع في اللغة: يأتي بمعنى العزم على فعل الشيء من أجل تحقيق المراد منه، كقول الله -عز وجل-: {فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ} [يونس:71]، أي: اعزموا على هذا الأمر، ويأتي بمعنى الاتفاق على الشيء كإجماع قوم أو جماعة على السفر إلى بلد معين، أو إجماعهم على أداء الحج، أو نحو ذلك([1]).

أما في الاصطلاح فمنهم من عرفه بأنه: اتفاق مجتهدي أمة محمد -ﷺ- بعد وفاته في حادثة على أمر من الأمور في عصر من الأعصار([2])، ومنهم من عرفه بأنه: اتفاقهم في عصر على حكم شرعي، ومنهم من عرفه بأنه: اتفاقهم على حكم([3]).

وهذه التعاريف تتشابه في دلالتها وتعريفها للإجماع بأنه: اتفاق عدد من مجتهدي الأمة على حكم نازلة، أو حادثة حدثت بعد وفاة رسول الله -ﷺ- في عصر من العصور التالية لهذه الوفاة، سواء كان مناط هذه الحادثة شرعيًّا أم عقليًّا، ومن ذلك: الإجماع على جواز عقد الاستصناع، رغم أنه بيع المعدوم، ولكن الحاجة دعت إليه، ومن ذلك: توريث الجد مع ابن المتوفى كحال الأب.

وقد كان الإجماع في الفترة الأولى من وفاة رسول الله -عليه الصلاة والسلام- سهلًا؛ لأن الصحابة كانوا في المدينة، وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يجمعهم إذا حدث أمر، أو نزلت نازلة، ولكنهم في أواخر خلافة عثمان -رضي الله عنه- تفرقوا في مختلف الأمصار، فتعذر حينذاك تحقق الإجماع؛ لهذا يمكن القول: إن مسائل الإجماع كانت في الصدر الأول من عصر الخلفاء الراشدين.

ومن المهم في مسألة الإجماع اتفاق كل مجتهدي عصر من العصور على حكم واحد لحادثة أو نازلة وقعت في عصرهم، ومن ذلك مثلًا: أن تتفق “كل” المجامع الفقهية وما في حكمها في البلاد الإسلامية في هذا العصر على حكم النازلة، فلو اتفقت كلها، وخالفها مجمع واحد فلا يعد اتفاقها هذا إجماعًا؛ لأن الإجماع لا ينعقد إلا باتفاق المجتهدين دون وجود مخالف لهم، ومع ذلك يسمى اجتهاد مجمع واحد أو اثنين في بلد من بلاد المسلمين على حكم لنازلة نزلت أو حادثة حدثت إجماعًا إذا اتفق أعضاؤه كلهم على هذا الحكم، وهذا الإجماع يكون خاصًّا بهذا البلد دون غيره من البلاد الأخرى.

ومثال ذلك: لو اجتهد أعضاء هذا المجمع أو ذاك على إباحة نقل الأعضاء من الميت إلى الحي، وخالف في ذلك أحدهم بحجة احترام آدمية الميت؛ لأنه في كرامته مثل الحي، فلا يعد هذا الاتفاق إجماعًا، ولو كانوا مئة، وكان المخالف لهم واحدًا.

وسند الإجماع مستمد من قول الله -تعالى-: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [آل عمران:103] ففي هذه الآية نهي عن التفرق، ومن خالف الإجماع فقد افترق عن الجماعة، ودخل في حكم النهي المحرم، وقوله -عز وجل-: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} [النساء:115]، وهذا دليل على أن من يتبع غير سبيل المؤمنين فقد ارتكب حرامًا وإثمًا عظيمًا، كما أن سنده في قول رسول الله -ﷺ-: «فما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن»([4])، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: «لا تجتمع أمتي على ضلالة»([5]).

والإجماع قسمان: قولي وسكوتي، فالقولي أو الصريح هو: أن يتفق المجتهدون على حكم واقعة أو نازلة، فيبدي كل منهم رأيه صراحة في هذا الحكم، وهذا الإجماع قطعي الدلالة، يجب الحكم به، ولا يعتد بما يخالفه.

أما الإجماع السكوتي -وهو هنا محل السؤال- فهو: أن يبدي مجتهد أو أكثر رأيه في مسألة ما، ويعرفَ المعاصرون هذا الرأي، ولا ينكروا عليه، وفي حجيته عدة أقوال([6]):

منها: أنه ليس بإجماع ولا حجة، وحكي هذا عن داود الظاهري، ونص عليه الإمام الشافعي؛ لأنه لا ينسب إلى ساكت قول.

ومنها: أنه إجماع وحجة، وهو قول كثير من أصحاب الإمام مالك والشافعي، ورواية عن الإمام أحمد، وذهب إليه كثير من أهل العلم، وفي هذا قال الإمام النووي([7]): “لا تغترن بإطلاق المتساهل القائل: إن الإجماع السكوتي ليس بحجة عند الشافعي، بل الصواب من مذهبه أنه حجة وإجماع”.

ومنها: أنه حجة، وليس بإجماع، وهذا أحد الوجهين في مذهب الإمام أحمد، فلا يجوز أن يقال: إنه إجماع مطلق؛ لأن الإجماع ما عُلم فيه موافقة الجماعة قرنًا بعد قرن.

ومن هذه الأقوال: أنه إجماع بشرط انقراض العصر؛ لأنه لا يبعد مع ذلك أن يكون السكوت لا عن رضا، وبه قال أبوعلي الجُبائي والإمام أحمد في رواية عنه.

ومن هذه الأقوال: أنه إجماع إن كان فُتْيَا لا حكمًا، وقال بهذا جماعة من أهل العلم، ومنهم ابن أبي هريرة، ووجه هذا القول إنه لا يلزم من صدوره عن الحاكم أن يكون قاله على وجه الحكم، وقيل: وجهه أن الحاكم لا يعترض عليه في حكمه، فلا يكون السكوت دليل الرضا، واحتج ابن أبي هريرة لقوله: “إنه إجماع إن كان فتيا” بقوله: “إنا نحضر مجلس بعض الحكام، ونراهم يقضون بخلاف مذهبنا، ولا ننكر ذلك عليهم، فلا يكون سكوتنا رضا منا بذلك”([8]).

ومن هذه الأقوال: أنه إجماع إن كان صادرًا عن فتيا، وإن وقع في شيء يفوت استدراكه من إراقة دم كان إجماعًا، وإلا فهو حجة، وإن كان الساكتون أقل كان إجماعًا، وإلا فلا.

ومن هذه الأقوال: أنه إن كان في عصر الصحابة كان إجماعًا، وإلا فلا، وقال الماوردي: إن كان في عصر الصحابة، فإذا قال الواحد منهم قولًا، أو حكم به، فأمسك الباقون فهذا ضربان: أحدهما: مما يفوت استدراكه، كإراقة دم، واستباحة فرج، فيكون إجماعًا؛ لأنهم لو اعتقدوا خلافه لأنكروه؛ إذ لا يصح منهم أن يتفقوا على ترك إنكار منكر. وإن كان مما لا يفوت استدراكه كان حجة؛ لأن الحق لا يخرج عن غيرهم.

ومن الأقوال في حجية الإجماع السكوتي: أنه إن كان مما يدوم ويتكرر وقوعه والخوض فيه فإنه يكون إجماعًا، وقيل: إنه لا يكون حجة إلا في صورتين:

إحداهما: سكوتهم، وقد قطع بين أيديهم قاطع لا في مظنة القطع، والدواعي تتوفر على الرد عليه.

الثاني: ما يسكتون عليه على استمرار العصر، وتكون الواقعة بحيث لا يبدي أحد خلافًا، فأما إذا حضروا مجلسًا، فأفتى واحد، وسكت آخرون، فذلك اعتراض؛ لكون المسألة مظنونة، والأدب يقتضي ألا يعترض على القضاة والمفتين.

ومن الأقوال في حجية الإجماع السكوتي: أنه إجماع بشرط إفادة القرائن العلم بالرضا، وذلك بأن يوجد من قرائن الأحوال ما يدل على رضا الساكتين بذلك القول([9]).

وخلاصة ما ذكر: أن الفقهاء انقسموا في حجيته إلى فريقين: الفريق الأول يرى حجيته؛ لأن النطق من كل المجتهدين مما يتعذر، والعادة أن الذين يتولون الفتوى هم كبار المجتهدين، ويسكت الباقون، والذين قالوا بهذا اختلفوا في حجيته، فقال بعضهم: إنه حجة قطعية؛ لأن الأدلة التي قالت بحجية الإجماع لم تفرق بين الإجماع القولي والإجماع السكوتي، وذهب بعضهم الآخر إلى أنه حجة ظنية.

الفريق الثاني: يرى عدم حجيته؛ لأن السكوت إذا كان يدل على موافقة المجتهدين الآخرين فهو يدل -أيضًا- على عدم موافقتهم، وقد يكون سبب سكوتهم مهابة القائل، أو خشية الضرر، أو عدم اجتهادهم في النازلة، ولهذا لا يدل على موافقتهم أو رضاهم.

وكما هو الحال في الإجماع القولي فلو اجتهد أعضاء مجمع على حكم نازلة، وسكت عن هذا الاجتهاد آخرون ممن هم في منزلة هؤلاء الأعضاء علمًا، فلا يدل سكوتهم على الموافقة، وبالتالي لا يعد اجتهاد أعضاء المجمع إجماعًا سكوتيًّا.

ولعل الصواب -والله أعلم- أن الإجماع السكوتي إجماع وحجة كما ذهب إلى هذا كثير من أهل العلم؛ ذلك أن على المجتهدين ألا يسكتوا عن حكم سمعوه، فإن سكتوا دل ذلك على رضاهم عنه. والله -تعالى- أعلم.

 

([1]) البحر المحيط في أصول الفقه للزركشي، ج3 ص487.

([2]) شرح التلويح على التوضيح ج2 ص41.

([3]) التمهيد في تخريج الفروع على الأصول للأسنوي ص451.

([4]) أخرجه الإمام أحمد في المسند ج1 ص379، حسنه ابن حجر العسقلاني في الأمالي المطلقة، (٦٥).

([5]) أخرجه ابن ماجة في كتاب الفتن، باب السواد الأعظم، سنن ابن ماجة ج2 ص1303، برقم (3950)، صححه الزرقاني في مختصر المقاصد، (١١٧٩).

([6]) إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول للشوكاني ص84-85، وانظر: البحر المحيط في أصول الفقه للزركشي ج3 ص486-551، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي ج1 ص214-216، وروضة الناظر لابن قدامة ج1 ص381-383، وأصول الفقه للشيخ محمد أبي زهرة ص197-207، والوجيز في أصول الفقه للدكتور عبد الكريم زيدان ص184-189.

([7]) البحر المحيط ج3 ص539.

([8]) البحر المحيط للزركشي ج3 ص 543، والتمهيد في تخريج الفروع على الأصول ص452، والغيث الهاجع شرح جمع الجوامع للعراقي ج2 ص596-597.

([9]) انظر الأقوال الواردة في حجية الإجماع السكوتي في: البحر المحيط ج3 ص538-550، والتمهيد ص451-453، والغيث الهامع ج2 ص596-600.