الستر في اللغة ما يستر به([1]). والعورة كل مكمن للستر، وعورة الرجل والمرأة سوأتهما([2]). قال تعالى في حق آدم وزوجه: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا} [الأعراف: 02] . وستر العورة في اصطلاح الفقهاء: تغطية الإنسان ما يقبح ظهوره ويستحي منه ذكراً كان أو أنثى أو خنثى([3]).
وستر العورة باللباس مما امتن الله به على عباده في قوله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ} [الأعراف: 62] . ولا يتحلل من هذا اللباس إلا من ابتعد عن الفطرة، أو أزله الشيطان، كما يفعل العراة وأصحاب الشذوذ في سلوكهم. والذين يحاولون في هذا الزمان التقليل من أهمية اللباس وكماله بالنسبة للمرأة، بغية إظهار مفاتنها، أو التقليل من أهميته، كذلك بالنسبة للرجال الذين لا يستر لباسهم بعض عوراتهم في الشواطئ أو الأسواق، هؤلاء الذين يفعلون هذا إنما يبتعدون عن القيم والآداب التي أرادها الله لعباده ستراً لهم وحفظاً لكرامتهم وآدميتهم، وما عرفوا أن الله قد ستر الدواب والطيور بالشعور والريش حماية لها، فما بالك بمن يسـترهم الله باللباس ثم يتحللون من ستره.
وفي ستر العورة ثلاث مسـائل: الستر في الصلاة للرجل والمرأة، وحـد الستر، وصفته.
أما سترها في الصلاة للرجل فهي فرض عند عامة الفقهاء، ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: أنها فرض بدلالة قول الله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 13] . فالستر بهذا الأمر مستلزم بالضرورة للعورة في كل حال فلو صلى دون ستر في مكان مظلم أو في مكان لا يراه أحد لم تصح صلاته،؛ لأن الستر مشتمل على حق الله وحق العباد([4]). وفي ظاهر مذهب الإمام مالك: أنها من سنن الصلاة([5]). وفي مذهب الإمام الشافعي: أنها شرط لصحة الصلاة، فمن تركها مع القدرة بطلت صلاته([6]). وفي مذهب الإمام أحمد: أنها شرط لصحة الصلاة([7]).
أما المرأة فيجب أن تستر جميع بدنها في الصلاة ما عدا وجهها، لما روته أم سلمة أنها سألت رسول الله : أتصلي المرأة في درع وخمار وليس عليها إزار؟ فقال: (نعم، إذا كان الدرع سابغاً يغطي ظهور قدميها)([8]). وما روي عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أنها كانت تقوم إلى الصلاة في الخمار والإزار والدرع، فتسبل الإزار فتجلبب به، وكانت تقول: ثلاثة أثواب لابد للمرأة منها في الصلاة إذا وجدتها: الخمار والجلباب والدرع([9]).
وأما حد الستر للرجل، ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: أنها من تحت سرته إلى تحت ركبته، لما روي أن رسول الله قال: (فإنما أسفل من سرته إلى ركبتيه من عورته)([10]). وفي لفظ آخر: (ما بين سرته وركبته من عورته)([11]). وقيل: إن السرة عورة، وقيل: إن حكم العورة في الركبة أخف منه في الفخذ، حتى إنه لو رأى غيره مكشوف الركبة ينكر عليه برفق ولا ينازعه إن لج أما إن رآه مكشوف الفخذ، فينكر عليه بعنف، ولا يضربه إن لج، وإن رآه مكشوف السوءة أمره بستر عورته، وأدبه على ذلك إن لج([12]).
وفي مذهب الإمام مالك: أن العورة من السرة إلى الركبة([13]). وبمثل ذلك في مذهب الإمام الشافعي([14]). وفي مذهب الإمام أحمد مثل ذلك وليست سرّته وركبتاه من عورته([15])، لحديث أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله قال: (من سرته إلى ركبتيه من عورته)([16]). وحديث جرهد بن خويلد الأسلمي أن رسول الله قال له: (غط فخذك فإن الفخذ من العورة)([17]). وقيل: إن عورة الرجل هي السوءتان فقط([18]).
وأما حد العورة في المرأة فعامة الفقهاء على أن بدن المرأة كله عورة ما عدا الوجه والكفين، وقيل: إن بدنها كله عورة دون استثناء.
وأما صفة الستر، فعامة الفقهاء على أن يكون صفيقاً وكثيفاً، وغير شفاف، ولا واصف للجسم، فإن كان غير ذلك فهو وعدمه سواء([19]).
قلت: إن ستر العورة فرض بإطلاق في الصلاة وفي غيرها وهو في العموم محكوم بقوله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُون*يَابَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا} [الأعراف: 62-72] .
وهو في الصلاة محكوم بقوله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 13] . وهذا أمر يقتضي الوجوب. والزينة اسم جامع لما يتزين به الإنسان، ويتجمل به في التأدب مع الله ومع العباد.
وفي ستر جسم الإنسان باللباس ستر له وزينة، تحقيقاً لأمر الله له بأخذ الزينة عند صلاته، وفي هذا قال رسول الله : (لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقيه شيء)([20]). وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا صلى أحدكم في ثوب واحد فليخالفه بين طرفيه على عاتقيه)([21]).وتحديد العورة بما بين السرة إلى الركبة ليس بالضرورة أمراً يقتضي الوجوب، بقدر ما هو حد لضرورة الستر حسب واقع الحال وظروف الزمان.
أما الفضل وما يقتضيه تفسير الأمر بأخذ الزينة في الآية الكريمة فالأولى: أنه في الستر الكامل؛ لأنه أبلغ وأعم في الستر. وشواهد هذا كثيرة، فقد روى أبو داود عن ابن عمر قال قال رسول الله أو قال عمر رضي الله عنه: إذا كان لأحدكم ثوبان فليصل فيهما، فإن لم يكن إلا ثوب واحد فليتزر به، ولا يشتمل اشتمال اليهود([22]). وروى ابن عبدالبر عن ابن عمر أنه رأى نافعاً يصلي في ثوب واحد، قال: ألم أكسك ثوبين؟ قال: قلت بلى. قال: أرأيت لو أرسلتك إلى فلان، أكنت تذهب في ثوب واحد؟ قلت: لا. قال: فالله أحق أن تزين له أم الناس؟ قلت: بل الله([23]).
وخلاصة المسألة: أن ستر العورة فرض بإطلاق. وحد عورة الرجل من السرة إلى الركبة، وهذا التحديد ليس بالضرورة أمراً يقتضي الوجوب بقدر ما هو حد لضرورة الستر حسب واقع الحال وظروف الزمان. أما الفضل وما يقتضيه تفسير قول الله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ}، فالأولى أو الأصح أن المراد به الستر الكامل،؛ لأنه أبلغ وأعم في الستر وشواهد هذا من السنة كثيرة.أما بالنسبة للمرأة فبدنها كله عورة على خلاف في مسألة الوجه والكفين، أما في الصلاة فيجب عليها ستر جميع بدنها ما عدا وجهها.وفي كل الأحوال يجب أن يكون ساتر العورة بالنسبة للرجل والمرأة صفيقاً كثيفاً غير شفاف.
والله تعالى أعلم.
([1]) المصباح المنير للفيومي ج1 ص266 .
([2]) المصباح المنير ج2 ص437، والمعجم الوسيط ج2 ص636 .
([3]) مغني المحتاج ج1 ص185، وكشاف القناع ج1 ص264 .
([4]) البحر الرائق شرح كنز الدقائق لابن نجيم الحنفي ج1 ص467-466، وبدائع الصنائع للكاساني ج1 ص117-116، والفتاوى الهندية ج1 ص65-64.
([5]) بداية المجتهد لابن رشد ج1 ص114-115، وعقد الجواهر الثمينة لابن شاس ج1ص158، والذخيرة في فروع المالكية للقرافي ج1 ص473 .
([6]) روضة الطالبين للإمام النووي ج1 ص282 .
([7]) المغني مع الشرح الكبير ج1 ص615، وكشاف القناع ج1 ص265-263 .
([8]) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في كم تصلي المرأة، سنن أبي داود ج1 ص173، برقم (640).
([9]) جلباب المرأة المسلمة، لمحمد ناصر الدين الألباني، ص135، وقال الألباني: «صحيح».
([10]) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ج2 ص187، واللفظ الأول له، وأخرجه الدارقطني في كتاب الصلاة، باب الأمر بتعليم الصلوات والضرب عليها وحد العورة التي يجب سترها، سنن الدارقطني ج1 ص230، وأخرجه أبو داود في كتاب اللباس، باب في قوله (غير أولي الإربة)، سنن أبي داود ج2 ص1384 .
([11]) أخرجه الدارقطني في كتاب الصلاة، باب الأمر بتعليم الصلوات والضرب عليها وحد العورة التي يجب سترها، سنن الدارقطني ج1 ص230 .
([13]) عقد الجواهر الثمينة ج1 ص157، وبداية المجتهد ج1 ص114، والذخيرة ج1 ص474 .
([14]) روضة الطالبين ج1 ص283 .
([15]) ينظر: الكافي لابن قدامة ج1 ص241-242، والمغني لابن قدامة ج2 ص286 .
([16]) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ج2 ص187 .
([17]) أخرجه أبو داود في كتاب الحمام، باب النهي عن التعري، سنن أبي داود ج2 ص363، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده ج2 ص40، برقم، (4014)..
([18]) بداية المجتهد ج1 ص114، وروضة الطالبين ج1 ص283 .
([19]) البحر الرائق ج1 ص467، والمهذب ج1 ص64، وروضة الطالبين ج1 ص284، والذخيرة في فروع المالكية ج1 ص479، وعقد الجواهر الثمينة ج1 ص159، والكافي لابن قدامة ج1 ص244.
([20]) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب إذا صلى في الثوب الواحد فليجعل على عاتقيه، فتح الباري ج1 ص561، برقم(359).
([21]) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفاً به، فتح الباري ج1 ص558، برقم(354).
([22]) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب من قال يتزر به إذا كان ضيقاً، سنن أبي داود، ج1 ص172، برقم، (635)، والاشتمال الذي أنكره هو أن يدير الثوب على بدنه كله لا يخرج منه بدن. انظر: فتح الباري ج1 ص563.
([23]) ذكره ابن قدامة في المغني مع الشرح الكبير ج1ص622 – 621 .