الجواب: العبادة في اللغة: التذلل والخضوع([1]). وفي الاصطلاح: فعل المكلف على خلاف هوى في نفسه، تعظيماً لربه([2])، أو هي:اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة([3]).
ولا تجوز العبادة إلا لله وحده، فمن عبد غيره بأي نوع من أنواع العبادة، أو بأي صفة من صفاتها، فقد أشرك مع الله غيره، وحبط بذلك عمله، وأصبح من الخاسرين.والعبادة هي الأصل في الخلق، لقول الله -تعالى-:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون} [الذاريات:65] .فيقتضي هذا أن العبادة حق له وحده لقوله -عز وجل-:{أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِير} [هود:٢] . وقوله -سبحانه-:{إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون}[يوسف:04] .وقوله جل ثناؤه:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء:32]. وقوله عز من قائل:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِين} [يس:06] .وقوله:{وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيم} [يس:16].
ويختلف معنى العبادة عن معنى الطاعة، فالعبادة لا تجوز إلا لله، أما الطاعة فتجوز له كما تجوز لغيره، لقوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [النساء:95]. ولكن هذه الطاعة مشروطة لقول أبي بكر -رضي الله عنه-:«أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم»([4]).
وتنقسم العبادة إلى ثلاثة أقسام:الأول- العبادة بالبدن:مثل الطهارة والصلاة والصوم والغسل .. ، وهذه العبادة لا تصح إلا من صاحبها، أي لا يجوز أن ينوب عنه أحد في فعلها، لأن الأصل أن يقوم بها المكلف بنفسه اعتقاداً وفعلاً، طاعة للأمر الذي أُمِرَ به؛ فاقتضى هذا نفي النيابة فيها لعدم تحقق الأصل، ويستثنى من ذلك قضاء الصوم عن الميت لما رواه ابن عباس أن امرأة جاءت إلى رسول اللهr فقالت:يا رسول الله إن أختي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها؟ فقال عليه الصلاة والسلام:(أرأيت لو كان على أختك دين أكنت تقضيه؟) قالت:نعم. قال:(فحق الله أحق)([5])، وعلة الاستثناء هنا، أن النذر بمثابة الدين الذي لزم الميت في حياته كحال دين المال، مما يقتضي الوفاء به براً بالميت، وإبراء لذمته إضافة إلى أنه فعل لا يتكرر.
القسم الثاني- العبادة بالمال:مثل الزكاة، والصدقة، والنذر، وسائر الكفارات، والأضحية، فهذه تجوز فيها النيابة، فيخرج زكاة المنوب من أنابه وصدقته ونذره وما عليه من الكفارات، وكذلك يخرج الحي عن الميت صدقته ونذره ويضحّي عنه ونحو ذلك.
القسم الثالث- العبادة بالمال والبدن:وهذه تجوز فيها النيابة كالحج عمن لا يستطيع الحج في حياته، لكبر سنه أو عجزه لمرضه، أو الحج عن الميت بالشروط المشروعة، سواء كان ذلك وصية منه، أو تبرعاً ممن ينوب عنه.
ويشترط للعبادة سبعة شروط:أولها:أن تكون مبنية على وحي من الله؛ فهي قبل الإسلام كانت مبنية على ما كان يوحي الله لأنبيائه ورسله، وما جاؤوا به من البينات لدعوة قومهم إلى عبادة الله وحده، مما قصه الله في كتابه الكريم عن أنبيائه:إبراهيم وموسى وعيسى وهود ولوط وشعيب وغيرهم. وهي -العبادة- بعد رسالة رسول الله محمد التي ختمت الرسالات ، مبنية على كتاب الله وسنة رسول الله ، أما الكتاب فقول الله عز وجل:{ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِين} [البقرة:٢] وقوله:{تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِين} [السجدة:٢]. {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُون}[السجدة:٣].وأما السنة فما نقله رسول الله عن ربه، وهذا النقل معصوم من الخطأ، ومبرأ من الريب والشك، لقول الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين}[المائدة:76] .وقوله:{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِين} [الحجر:49]. وقوله جل ثناؤه:{إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى* عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:٤–٥].
وثاني الشروط:أن تكون العبادة بنية؛ والأصل في هذا حديث رسول الله r:(إنما الأعمال بالنيات، وإنّما لكل امرئ ما نوى:فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه)([6]). والتلفظ بالنية ليس بشرط، فيكفي فيها ما يقر في القلب من العزم على أداء العبادة.
وقد أشار الفقهاء إلى أهمية النية في تمييز العبادة، عما يجري مجرى العادة([7])، وهذا يقتضي تمييز الفعل ذاته، وتمييزه عن غيره. فأما تمييزه ذاته فتنصب النية على القصد منه، كما أُمرَ به حكماً، فالغسل من الجنابة -مثلاً- يقصد منه الطهارة منها، لقول الله تعالى:{وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ} [المائدة:٦]. وأما تمييزه عن غيره، فإن النية فيه تميزه عن الغسل بقصد نظافة الجسم، أو تبريده من الحرارة، أو أنه لمجرد السباحة. والنية في الصيام ينبغي أن تميز الفعل ذاته وهل يقصد به شهر رمضان أو قضاؤه أو شيء منه، أو أنَّه بقصد التنفل كصيامه عشر ذي الحجة، أو أيام البيض أو عاشوراء، وهي -أي النية- تميز هذا الصيام عن غيره، كما لو كان يقصد منه التداوي أو الإقلال من الطعام.
والنية في بذل المال ينبغي أن تميز الفعل ذاته، وما إذا كان يقصد بهذا البذل إخراج الزكاة المفروضة، أو يقصد به الصدقة، وهذه النية تميز هذا الفعل عن غيره، كما لو كان بذل المال ابتغاء أمر آخر.
والنية في الحج تميز الفعل ذاته، وتميزه عن غيره، فأما تمييزه ذاته فتنصب النية فيه على ما إذا كان فرضاً أو نفلاً، وأما تمييزه عن غيره، فكما لو كان القصد منه رؤية المشاعر فحسب، وهكذا تكون النية في كل أمر مشابه.
الشرط الثالث:أن تكون العبادة خالصة لله وحده. وهذا شرط أساسي في كل عبادة بوصفها أعلى درجات الخضوع والتذلل الذي لا يجوز إلا لله وحده، وهذا يقتضي أن صرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله، سواء كان صغيراً أو كبيراً يعد شركاً، استدلالاً بقوله تعالى:{فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:011]. وبقوله:{وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَة} [البينة:٥].
الشرط الرابع:أن تكون العبادة في أوقاتها المخصوصة:العبادة توقيفية، سواء في أوقاتها أو عموم أحكامها؛ فالصلاة لها أوقات محددة بينَّها الله إجمالاً في قوله تعالى:{إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} [النساء:301]. أي مفروضاً في الأوقات وبقوله جل ثناؤه:{أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:87] . وكما بينها رسول الله في قوله -عليه الصلاة والسلام- (أمَّني جبريلُ -عليه السلام- عند البيت مَرَّتَين، فصلى بي الظهر حين زالت الشمس وكانت قدر الشراك، وصلى بي العصر حين كان ظله مثله، وصلى بي -يعني المغرب- حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلى بي الفجر حين حرم الطعامُ والشرابُ على الصائم، فلما كان الغد صلى بي الظهر حين كان ظله مثله، وصلى بي العصر حين كان ظله مثليه، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء إلى ثلث الليل، وصلى بي الفجر فأسفر، ثم التفت إليَّ، فقال:يا محمد، هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت ما بين هذين الوقتين) ([8]).
والصيام له وقت يبتدئ فيه، ووقت ينتهي عنده، والزكاة كذلك محددة بمرور الحول، والحج كذلك محدد بأشهر معلومات، وهذا يقتضي حكماً أنه ليس للمكلف خيار في تحديد وقت العبادة، خلاف ما هو منصوص عليه، ومعلوم من الشرع بالضرورة؛ فمن أخر الصلاة عن أوقاتها صار في حكم الساهي المتوعد من الله بالويل في قوله تعالى:{فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّين*الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُون}[الماعون:٤– ٥]. ومن أخر أو قدم الصيام عن وقته فلا صيام له، وهكذا في كل عبادة مفروضة.
الشرط الخامس:أن تكون العبادة متصلة الأداء: وهذا يقتضي أن تكون متتابعة، فليس بمتعبد لله من يؤدي فرائضه في وقت، ويتركها في وقت آخر دون عذر شرعي معلوم.
الشرط السادس:أن تكون العبادة متلازمة، أي متكاملة في أدائها: فليس بمتعبد لله من يقوم بأداء فرض، ويترك فرضاً آخر، أو يقوم بأداء هذا الفرض في وقته، ويتهاون في وقت فريضة أخرى.
الشرط السابع:أن تكون العبادة من المكلف نفسه: الأصل أن يباشر المكلف عِبادته لنفسه عملاً بقول الله تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيد} [فصلت:64]. وبقوله تعالى:{وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} [النجم:93]. وبقوله:{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة} [المدثر:83]. ولهذا الأصل استثناءان:الأول- جواز صرف ثواب العبادة لغيره كوالديه، أو إخوانه إذا كانت هذه العبادة بدنية فيدعو لهم، ويستغفر لهم، ويتصدق عنهم، ويوقف الوقوف كالمساجد ابتغاء الأجر لهم، وهذا ما ذهب إليه عامة الفقهاء، خلافاً للمعتزلة([9])، والدليل على هذا، قول الله تعالى:{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيم}[غافر:٧]. وقوله:{وَالْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأَرْضِ}[الشورى:٥] وقوله لنبيه محمد:{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُم}[محمد:91]. وقوله على لسان نبيه نوح:{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:82].
هذا في كتاب الله، أما في سنةرسول الله r فما ورد عن أنس أن رجلاً سأل رسول الله r فقال: يا رسول الله إنا نتصدق عن موتانا، ونحج عنهم فهل يصل ذلك إليهم؟ قال:(نعم إنه يصل إليهم وإنهم ليفرحون به كما يفرح أحدكم بالطبق إذا أهدي إليه)([10]). كما سأله رجل آخر عما إذا كانت الصدقة تنفع أمه وهي ميتة فقال عليه الصلاة والسلام (نعم)([11]) وقد دعا رسول اللهr لأهل بدر، وكان يدعو لكل ميت عندما يصلي عليه.
الاستثناء الثاني- صرف ثواب العبادات البدنية للميت كالصلاة والصوم، وقد تباينت آراء الأئمة في ذلك؛ ففي المذهب الحنفي يجوز للإنسان أن يجعل ثواب عمله لغيره من صلاة وصيام أو صدقة، استدلالاً بما ذكر من الآيات الكريمة، وبأن رسول الله r ضحى بكبشين أملحين أحدهما عن نفسه والآخر عن أمته([12]).
وفي المذهب المالكي والشافعي خلاف ذلك، فالعبادات البدنية المحضة كالصلاة وتلاوة القرآن لا يصل ثوابها إلى الميت، استدلالاً بقول الله تعالى:{وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} [النجم:93]، واستدلالاً بحديث:(إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)([13]). واستدلالاً أيضاً بأن رسول اللهr لم يندب إلى ذلك، كما لم يرد عن أحد من صحابته أنه عمله([14]).
وقد رد الأحناف على الاستدلال بهذه الآية بأن ما ذكره الله سبحانه وتعالى عن دعاء الملائكة في قوله:{فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيم} [غافر:٧] قطعي في حصول الانتفاع بعمل الغير، فيخالف ظاهر الآية التي استدلوا بها، إذ ظاهرها أنه لا ينفع استغفار أحد لأحد بوجه من الوجوه، لأنه ليس من سعيه فلا يكون له منه شيء، فقطع بانتفاء إرادة ظاهرها .. كما أشاروا إلى أنها من قبل الإخبارات ولا يجري النسخ في الخبر، وما يتوهم جواباً من أنه تعالى أخبر في شريعة إبراهيم وموسى عليهما السلام ألا يجعل الثواب لغير العامل، ثم جعله لمن بعدهم من أهل شريعتنا حقيقة مرجعه إلى تغيير الإخبار لا إلى النسخ، إذ حقيقته أن يراد المعنى ثم ترفع إرادته، وهذا تخصيص بالإرادة بالنسبة إلى أهل تلك الشرائع، ولم يقع نسخ لهم ولم يرد الأخبار أيضاً في حقنا ثم نسخ([15]). ويتفق المذهب الحنبلي مع المذهب الحنفي في العبادات البدنية المنذورة كالصوم والحج والإعتكاف([16]).
ولعل الصواب -والله أعلم- هو ما ذهب إليه جماعات من العلماء إلى أنه يصل إلى الميت ثواب جميع العبادات من الصلاة والصوم وغير ذلك([17]). أماالتكسب بتلاوة القرآن على الأموات في المآتم، فهذا لم يرد عن رسول الله r، ولا عن أحد من صحابته، فهو إذاً من الأمور المحدثة.
وخلاصة المسألة:أن العبادة لا تجوز إلا لله وحده؛ فمن عبد غيره بأي نوع من أنواع العبادة أو بأي صفة من صفاتها، فقد أشرك مع الله غيره، وحبط عمله، وأصبح بذلك من الخاسرين، والعبادة هي الأصل في الخلق، وتنقسم إلى أقسام ثلاثة:الأول عبادة بالبدن:مثل الطهارة والصلاة، ولا يجوز لأحد أن ينوب عن أحد في فعلها، لأن الأصل أن يقوم بها المكلف نفسه. القسم الثاني:عبادة بالمال:مثل الصدقة والزكاة والنذور، فهذه يجوز فيها النيابة. القسم الثالث:عبادة بالمال والبدن:وهذه يجوز فيها النيابة كالحج.
ويشترط للعبادة سبعة شروط:هي:أن تكون مبنية على وحي من الله، فهي في الإسلام مبنية على كتاب الله وسنة رسولهr، وأن تكون بنية، وأن تكون خالصة لله وحده، وأن تكون في أوقاتها المخصوصة، وأن تكون متلازمة أي متكاملة في أدائها، وأن تكون من المكلف نفسه.
ولهذا الشرط الأخير استثناءان:الأول جواز صرف ثواب العبادة من الحي للميت، إذا كانت هذه العبادة غير بدنية، مثل الدعاء والاستغفار والصدقة. والاستثناء الثاني صرف ثواب العبادات البدنية للميت كالصلاة والصيام. وقد تباينت آراء الأئمة في جواز ذلك من عدمه ففي المذهب الحنفي والحنبلي جواز ذلك، وفي المذهب المالكي والشافعي عدم جوازه لأنه ليس للإنسان إلا ما سعى، ولكل حجة فيما يراه من الجواز وعدمه.
ولعل الصواب -والله أعلم- أن الميت ينتفع في قبره بثواب أي عمل صالح، لا فرق في ذلك أكان هذا العمل دعاء أم استغفاراً أم صدقة أم صلاة أم حجاً، أما التكسب بتلاوة القرآن على الأموات وفي المآتم فهذا لم يرد عن رسول الله ولا عن صحابته، فهو من البدع.
([1]) لسان العرب لابن منظور مادة «عبد»، والمصباح المنير للفيومي ج ٢ ص٩٨٣، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ج ١ ص٥٤١.
([2]) التعريفات للجرجاني، ص١٥١.
([3]) فتح المجيد للشيخ/ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ ص ٧١.
([4]) البداية والنهاية لابن كثير ج ٦ ص ٦٠٣.
([5]) أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب من مات وعليه صوم، فتح الباري ج ٤ص ٧٢٢، رقم لحديث ٣٥٩١، وأخرجه الترمذي في كتاب الصوم واللفظ له، باب ما جاء في الصوم عن الميت، سنن الترمذي ج ٣ ص ٥٩ – ٦٩، رقم الحديث ٦١٧.
([6]) أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله فتح الباري ج ١ ص ٥١، رقم الحديث ١.
([7]) انظر حاشية ابن عابدين ج١ ص ٤١٤ – ٥٤٢، وشرح فتح القدير ج٣ ص ٢٤١، وفتح الباري ج١ ص٩١-١٢، ومغني المحتاج، للشربيني الخطيب ج١ ص٧٤، ونهاية المحتاج، للرملي ج١ ص ٨٥١، والأشباه والنظائر، للسيوطي ص ٦-٠٢، وكشاف القناع، للبهوتي ج٢ ص٠٦٢.
([8]) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في المواقيت، سنن أبي داود ج ١ ص ٧٠١، رقم الحديث ٣٩٣.
([9]) انظر حاشية ابن عابدين ج٢ ص٥٩٥، والمغني والشرح الكبير لابني قدامة ج٣ ص٤٨١، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي ج ٣ ص ٦٣٣، وشرح الزركشي على مختصر الخرقي ج ٣ ص ٠٤ – ١٤، ونهاية المحتاج للرملي ج ٦ص ٢٩ – ٣٩ وقليوبي وعميرة ج ٣ ص ٥٧١ – ٧٧١.
([10]) ذكره كمال ابن الهمام في شرح فتح القدير ج٣ ص٣٤١ وقال: «رواه أبو حفص الكبير العكبري».
([11]) أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه، باب وصول ثواب الصدقة إلى الميت، صحيح مسلم بشرح النووي ج ١ ص ٩٨، الترمذي في كتاب الزكاة، باب ما جاء في الصدقة عن الميت، سنن الترمذي ج ٣ ص ٦٥ – ٧٥، رقم الحديث ٩٦٦، وأخرجه أبو داود في كتاب الوصايا، باب ما جاء فيمن مات عن غير وصية يتصدق عنه رقم الحديث ٢٨٨٢.
([12]) شرح فتح القدير للكمال ابن الهمام ج ٣ص ٢٤١ – ٣٤١، والحديث أخرجه ابن ماجة في كتاب الأضاحي، باب أضاحي رسول الله ، سنن ابن ماجة ج ٢ ص ٣٤٠١ – ٤٤٠١، رقم الحديث ٢٢١٣.
([13]) شرح النووي على صحيح مسلم ج ١ ص ٠٩.
([14]) انظر شرح النووي على صحيح مسلم ج ١ ص ٩٨ – ٠٩.
([15]) شرح فتح القدير ج ٣ ص ٢٤١ – ٤٤١.
([16]) انظر: الإنصاف، للمرداوي ج٣ ص ٦٣٣- ٩٣٣ ، وشرح الزركشي على مختصر الخرقي ج٣ ص٠٤-١٤.