سؤال ‬من الأخ ليحيو هشام من الجزائر عما إذا كان رضا الوالدين أو ‬أحدهما شرطًا ‬للخروج للجهاد أم لا؟ ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

حكم ما إذا كان رضا الوالدين شرطًا ‬للخروج للجهاد

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبعد:

فالجهاد بذل الطاقة للقتال في سبيل الله، وقد يكون بالنفس أو المال أو اللسان أو بهما جميعًا، وفضل الجهاد معلوم من الدين بالضرورة، ولكن طلبه والخروج له محكوم بقواعد عدة:

جهاد الطلب: فإن كان جهاد طلب، فيشترط في الخروج له رضا الوالدين، لأنه يعد حينئذٍ فرض كفاية، والأصل في ذلك ما رواه عبدالله بن عمرو بن العاص أن رجلًا جاء إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله أجاهد؟ قال: (ألك أبوان؟) قال: نعم قال: (ففيهما فجاهد)([1])، وفي رواية أبي سعيد: أن رجلًا جاء إلى رسول الله ﷺ مهاجرًا من اليمن يبتغي الجهاد، فقال له رسول الله ﷺ هل لك أحد باليمن؟ قال: أبواي قال: (أذنا لك؟) قال: لا قال: (ارجع فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد، وإلا فبرهما)([2])، وفي رواية أخرى: أن رجلًا جاء إلى رسول الله ﷺ، فقال: جئت أبايعك على الهجرة، وتركت أبوين. يبكيان. قال: (ارجع إليهما، فأضحكهما كما أبكيتهما)([3])، وفي رواية أخرى أنه عليه الصلاة والسلام قال لجابر السلمي لما أراد الخروج للجهاد: (حية أمك؟) قال: نعم: قال: (الزم رجلها، فثم الجنة)([4]).

وقد استدل الفقهاء بهذا على عدم جواز خروج الولد للجهاد دون إذن والديه أو أحدهما؛ لأن جهاد الطلب -كما ذكر- فرض كفاية وبر الوالدين فرض عين.

وفي مذهب الإمام أبي حنيفة: أن كل سفر لا يؤمن فيه الهلاك، ويشتد فيه الخطر لا يحل للولد أن يخرج إليه بغير إذنهما؛ لأنهما يشفقان عليه فيتضرران بذلك، أما إذا كان السفر لا يشتد فيه الخطر، فيحل له الخروج إليه بغير إذنهما على ألا يكون في ذلك ضياع لهما.

أما إذا كان النفير عامًا أو ما يسمى (جهاد الدفع)، فالجهاد يعد حينئذٍ فرض عين على كل من في البلاد، لدفع العدوان عملًا بقول الله تعالى: {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ}  [التوبة: 120]([5]).

وفي مذهب الإمام مالك: أن من شرط فريضة الجهاد إذن الوالدين فيها، إلا أن تكون عليه فرض عين، مثل ألا يكون هناك من يقوم بالفرض إلا بقيام الجميع به، واستثني من ذلك الأب غير المسلم، كالمسلم فله منع الأسفار والأخطار إلا في الجهاد، لأن منعه ربما كان لشرعه لا لطبعه([6]).

وفي مذهب الإمام الشافعي: يحرم على من أحد أبويه حي أن يخرج للجهاد إلا بإذنه أو بإذنهما إن كانا حيين مسلمين، ويعد الأجداد والجدات كالوالدين، وقيل لا يشترط إذنهما مع وجود الأبوين([7]).

وفي مذهب الإمام أحمد: إذا كان أبواه مسلمين فلا يجاهد تطوعًا إلا بإذنهما([8]).

وعند الإمام ابن حزم: لا يجوز الجهاد إلا بإذن الوالدين، إلا أن ينزل العدو بقوم من المسلمين، ففرض على كل من يمكنه إعانتهم أن يقصدهم مغيثًا لهم، أذن الأبوان أم لم يأذنا إلا أن يضيعا أو أحدهما بعده، فلا يحل له ترك من يضيع منهما([9]). ومن هنا يتبين أن هناك إجماعًا على وجوب رضا الوالدين عن ولدهما، إذا أراد الخروج لجهاد الطلب؛ لأن أحدًا لن ينوب عنه في بره لهما، بينما سيجد من ينوب عنه في الجهاد، ولهذا قال رجل لابن عباس -رضي الله عنهما-: إني أردت أن أغزو الروم، وإن أبوي يمنعاني. قال: أطع أبويك واجلس، فإن الروم ستجد من يغزوها غيرك([10]).

 جهاد الدفع: أما إذا كان الجهاد جهاد دفع في حال الاعتداء على البلاد، فيجوز له الخروج دون إذن والديه، على ألا يكون في ذلك ضياع لهما أو لأحدهما، كما ذكر الإمام ابن حزم.

قلت: ولعل بعض الفتية في غمرة حماسهم لدينهم يخرجون للجهاد، وهم عاصون لوالديهم، متجاهلين مناشدتهم لهم بعدم الخروج، ومتناسين معاناتهم وشفقتهم وخوفهم عليهم من الهلاك، فيرتكبون بذلك إثمًا عظيمًا، هو عقوق والديهم، وقد عظم الله أمر هذا العقوق في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّار}  [الرعد: 52]، وقوله عز ذكره: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُم * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُم} [محمد22-32].

كما عظم رسول الله ﷺ أمر العقوق عندما سئل عن الكبائر فقال: (الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين..)([11])، وقوله: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثًا) قلنا بلى يا رسول الله قال: (الإشراك بالله وعقوق الوالدين..) الحديث([12])، وقوله: (لا يدخل الجنة قاطع رحم)([13]).

وخلاصة المسألة: أن من شروط الخروج للجهاد رضا الوالدين، إذا كان خروج الولد تطوعًا؛ لأن الجهاد في هذه الحال فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، فإن خرج دون إذنهما أثم إثمًا عظيمًا؛ لأنه يعد عاقًا لهما، وقد عظم الله أمر العقوق، وتوعد مرتكبه كما عظمه رسول الله ﷺ وعده من الكبائر.

أما إن كان الجهاد فرض عين، كما في حال الاعتداء على البلاد، فعليه الخروج له، ولو لم يأذن له أبواه، ما لم يكن في خروجه ضياع لهما أو أحدهما، فإن كان كذلك فلا يجوز له الخروج.

والله تعالى أعلم.

 

([1])  أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، باب الجهاد بإذن الأبوين، فتح الباري ج6 ص162، برقم (٤٠٠٣)، وأخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب بر الوالدين وأنهما أحق به، صحيح مسلم بشرح النووي، ج10 ص ٦٥٤٢.

([2])  أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد، باب في الرجل يغزو وأبواه كارهان، سنن أبي داود، ج2 ص356، برقم (٠٣٥٢)، صححه الألباني في صحيح أبي داود، (٢٥٣٠).

([3])  أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد، باب في الرجل يغزو وأبواه كارهان، سنن أبي داود، ج2 ص ٣٥٥-٣٥٦، برقم (٨٢٥٢)، صححه الألباني في صحيح أبي داود، (٨٢٥٢).

([4])  أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب الجهاد، باب الرجل يغزو ووالداه حيان أله ذلك؟ المصنف ج12 ص472، برقم (٧٠٣٥١)، صححه الألباني في صحيح ابن ماجه، (٢٢٥٩).

([5])  وينظر في هذا: كتاب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني ج7 ص97-98، وحاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين ج4 ص124 – ٥٢١.

([6])  بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد ج1 ص381، الذخيرة في فروع المالكية للقرافي ج3 ص226، عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة لابن شاس ج1 ص465، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج2 ص175-176.

([7])  المهذب في فقه الإمام الشافعي للشيرازي ج2 ص229، وروضة الطالبين للنووي ج10 ص211.

([8])  المغني لابن قدامة ج13 ص25-27، وكشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي ج3 ص44-45

([9])  المحلى بالآثار لابن حزم ج5 ص341.

([10])     الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار لابن أبي شيبة، ج12 ص474.

([11])     أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب عقوق الوالدين من الكبائر، فتح الباري ج10 ص419، برقم (٧٧٩٥).

([12])     أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب عقوق الوالدين من الكبائر، فتح الباري ج10 ص419، برقم (٦٧٩٥).

([13])     أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب صلة الرحم، وتحريم قطيعتها، صحيح مسلم بشرح النووي، ج10 ص5449، برقم (٦٥٥٢).