والجواب: أن دين الإسلام مبني على أصل عظيم؛ هو عبادة الله وحده لا يشركه في هذه العبادة لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا مخلوق. وقد جاءت كل الديانات السماوية، وكل الأنبياء، والرسل بهذا الأصل، وآخرهم رسالة محمد r بما أنزل الله عليه في كتابه من وجوب توحيده، وإفراده وحده بالعبادة في قوله عز وجل في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيم} [آل عمران: 15]، وقوله عز من قائل: {ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 201]. وقوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيم} [مريم: 63]. وقوله جل ثناؤه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُون} [الأنبياء: 52]. وقوله جل من قائل: {هُوَ الْحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} [غافر: 56].
والآيات في وجوب توحيد الله، وتفرده بالعبادة كثيرة.
وإفراد الله بالعبادة يقتضي ثلاثة أصول عظيمة:
أولها: الإخلاص المطلق في هذه العبادة، وتجريدها له وحده، عملًا بقوله -عز وجل-: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 011] . وثانيها: البراءة من كل عبادة لغيره، سواء كانت في صيغة دعاء، أو رجاء، أو استعاذة، أو استغاثة لجلب نفع، أو دفع ضر. وثالث الأصلين: اتباع ما جاء به رسول الله محمد r من قول أو فعل أو تقرير.
وفي سؤال الأخ السائل ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: بناء المساجد على القبور:
لقد درج قلة من المسلمين في العصور المتأخرة على بناء المساجد على القبور؛ خاصة قبور من يسمونهم بالأولياء والصالحين. وقد استتبع هذا تعظيم هذه القبور، والدعاء عندها بل ودعاء أصحابها. ثم تطور هذا إلى وجود سدنة لها يقبضون الأموال من الجهلة من العامة، حتى إن هؤلاء يتقربون إلى السدنة لقبول أموالهم، وتمكينهم من زيارة هذه القبور وتعظيمها.
ومع أن العلماء في البلاد التي توجد فيها هذه المساجد يعرفون تحريم هذه الأبنية لما تفضي إليه من المفاسد، إلا أنهم لم يستطيعوا منعها: إما لعدم قدرتهم على إقناع جهلة العامة بتحريمها، وإما لأنهم يظنون أن هذا الأمر قد استحكم، وتعقد مما يصعب علاجه. ولا شك أن في بناء هذه المساجد على القبور خطر عظيم، لما يؤدي إليه التساهل فيها من الاستمرار في بنائها، وهذا هو ما حذر منه رسول الله r لما روته عائشة -رضي الله عنها- أن أم سلمة ذكرت لرسول الله r كنيسة رأتها بأرض الحبشة، وما فيها من الصور، فقال عليه الصلاة والسلام: (أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله)([1]). وما روته أيضًا أنه لما نُزِلَ به عليه الصلاة والسلام، طفق يطرح خُمِيصَةً له على وجهه. فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك: (لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)([2]). وقد ورد في صحيح مسلم قوله عليه الصلاة والسلام: (ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك)([3]). ومقتضى هذا التحريم من وجهين: أولهما: أنه نهي عن فعل مجرد، وهذا يقتضي التوقف عنده بالانتهاء عنه، وليس للمسلم خيار فيه لقول الله -عز وجل-: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 63]. وقوله -عز وجل-: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: ٤]. وقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: ٧] . الوجه الثاني: أنه نهي عن فعل لعلة ([4]) هي: درء حدوث مفسدة تنزع بالمسلم إلى الشرك، بدليل ما ذكره رسول الله r عن تدرج قوم نوح في تعظيمهم للقبور إلى أن عبدوا ما فيها. وهناك سؤال ما زال يرد عن مسألة قبر رسول الله r، وأنه في مسجده وفيه أسوة حسنة، ويرد على هذه الشبهة بأنه -عليه الصلاة والسلام- دفن في حجرة عائشة، وكانت هذه الحجرة خارجة عن المسجد، وفي عهد الوليد بن عبدالملك كتب إلى عمر بن عبدالعزيز عامله آنذاك على المدينة أن يزيد في المسجد بعد أن ضاق بالمصلين؛ فاشترى عمر حجر أزواج رسول الله r، وكانت هذه الحجرة في شرق المسجد وقبلته فأدخلها في المسجد، فدخلت الحجرة في المسجد من ضمن الحجر، وقد بنيت مسنمة عن سمت القبلة خشية أن يصلي أحد إليها([5])، فدل هذا على أن رسول الله r لم يقبر في المسجد. وعامة العلماء على أنه لا يتوجه إلى قبره عليه الصلاة والسلام بالدعاء في مسجده، بل يكون الداعي في دعائه مستقبل القبلة. وفي هذا قال الإمام ابن تيمية: «وقد استجاب الله دعوة رسوله محمد r بألا يجعل الله قبره وثنًا يُعبد، فلم يتخذ -ولله الحمد- وثنًا، كما اتخذ قبر غيره، بل لا يتمكن أحد من الدخول إلى حجرته بعد أن بنيت الحجرة، وقبل ذلك ما كانوا يمكِّنون أحدًا من أن يدخل إليه ليدعو عنده، ولا يصلي عنده، ولا غير ذلك، مما يفعل عند قبر غيره. لكن من الجهال من يصلي إلى حجرته، أو يرفع صوته، أو يتكلم بكلام منهي عنه، وهذا إنّما يفعل خارجًا عن حجرته لا عند قبره، وإلا فهو -ولله الحمد- استجاب الله دعوته، فلم يمكن أحدًا قط من أن يدخل إلى قبره فيصلي عنده، أو يدعو أو يشرك به، كما فعل بغيره اتخذ قبره وثنًا، فإنه في حياة عائشة -رضي الله عنها- ما كان أحد يدخل إلا لأجلها، ولم تكن تمكن أحدًا من أن يفعل عند قبره شيئًا مما نهى عنه، وبعدها كانت مغلقة إلى أن أدخلت في المسجد فسد بابها، وبني عليها حائط آخر. كل ذلك صيانة له r أن يتخذ بيته عيدًا وقبره وثنًا ..»([6]).
المسألة الثانية: دعاء الأموات لطلب العون منهم:
طلب العون -من حيث العموم- له وجهان: الأول: طلب العون فيما يقدر عليه المخلوق الحي، وطلب العون فيما لا يقدر عليه إلا الله. أما طلب العون من المخلوق الحي فيكون في أمور دنيوية يقدر عليها مما تعارف عليه الناس، كطلب قرض، أو طلب شفاعة، أو مساعدة في أمر دنيوي، ونحو ذلك مما هو معروف، فهذا لا بأس به؛ لأن نبي الله يوسف قال لأحد سجانيه: {اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ} [يوسف: 24]، ولأن أحد أتباع نبي الله موسى استغاث به على عدوه {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 51].
الوجه الثاني: طلب العون من المخلوق في شيء لا يقدر عليه إلا الله، فهو أمر محرم، بل هو من الشرك الذي حرمه الله، كالاستعانة بالمخلوق، والاستغاثة به على جلب نفع أو دفع ضر، من المرض، أو كفالة الرزق، أو دفع المصيبة، أو إيلاد الولد ونحو ذلك، فالعبادة لا تكون إلا لله، والاستعانة لا تكون إلا به، كما قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِين} [الفاتحة: ٥]. والاستغاثة لا تكون إلا به، قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال: ٩]. والدعاء لا يرفع إلا إليه، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي} [البقرة: 186]، وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 06]. وسائر أنواع العبادة لا تكون إلا لله عز وجل، قال تعالى لنبيه: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِين} [الأنعام: 162 – 163].
وقد تعودت ألسنة بعض الجهال من بعض عامة المسلمين استعمال عبارات بدعية، بل هي من قبيل الشرك، كقولهم عند وقوع حادثة لأحدهم: يا علي، يا محمد، أو: يا الحسن، أو يسمي اسم من يعتقده وليًّا أو صالحًا، أو يقول: يا جاه محمد، يا جاه النبي، يا جاه فلان وفلانة؛ فهذه من المحرمات التي تبطل العمل، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ ليَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين} [الزمر: 56].
المسألة الثالثة: الصلاة في المساجد التي فيها قبور.
لما كان بناء المساجد على القبور من المحرمات -كما ذكر آنفًا- فإن الصلاة في هذه المساجد لا تجوز، ويستثنى من ذلك الصلاة في مسجد رسول الله r؛ لأن قبره عليه الصلاة والسلام لم يكن في المسجد -كما سبق ذكره- بل كان في حجرة عائشة -رضي الله عنها- وهذه كانت خارج المسجد، ولم تدخل فيه إلا في زمن الوليد بن عبدالملك، وبعد انقراض عصر الصحابة -كما أشير إليه-. ويمنع من الصلاة في هذه المساجد لأسباب عدة، منها: أن ما كان منهيًّا عنه في أصله يعد منهيًّا عنه في فرعه؛ فعندما نقول بعدم جواز بناء المساجد على القبور، للأدلة من السنة النبوية التي سبق ذكرها، فإن ذلك يستتبع عدم جواز الصلاة فيها، ومثل هذا كما نقول: إن الربا محرم؛ فالحرمة تشمل ما كان منه نقدًا، أو عينًا، أو مطعومًا، أو مشروبًا. وثاني الأسباب: أن المساجد المبنية على القبور غالبًا ما يكون فيها بدع. كالدعاء عند القبر أو تعظيمه، أو الصلاة عنده، فمن الواجب عندئذٍ أن تكون الصلاة في مكان لا توجد فيه هذه البدع. وثالث الأسباب: أن في منع الصلاة فيها سدًّا للذريعة، حتى لا يلبس على المصلي فيها، ويتعرض لما قد يؤثر في عقيدته. ورابع الأسباب: أن في المساجد المبنية على القبور مظنة تعظيمها، وشد الرحال إليها، كما هو مشاهد في زماننا من تعظيم بعض هذه المساجد والمشاهد، وشد الرحال إليها، مما يتنافى مع ما ورد في الصحيحين عن رسول الله r بأن الرحال لا تشد إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد رسول الله r، والمسجد الأقصى.
وينبني على هذا أنه إن كان المصلي لا يعرف وجود قبر في المسجد الذي يصلي فيه -كما ورد في السؤال- فلا حرج عليه إن شاء الله؛ لأن النهي يترتب إذا كان عالمًا بوجود القبر في المسجد، لقول الله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: ٥]. وقول رسوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه)([7]).
وخلاصة المسألة: أن دين الإسلام بني على أصل عظيم، هو عبادة الله وحده لا يشركه في هذه العبادة لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا مخلوق. وتفرده عز وجل بهذه العبادة يقتضي ثلاثة أصول عظيمة: أولها: الإخلاص المطلق في هذه العبادة، وتجريدها له وحده. وثاني الأصول: البراءة من كل عبادة لغيره، سواء كانت في صيغة دعاء، أو رجاء أو خلاف ذلك لجلب نفع أو دفع ضر. وثالث الأصول: اتباع ما جاء به رسول الله r .
وفي السؤال ثلاث مسائل: أولها: بناء المساجد على القبور: وقد حذر من ذلك رسول الله r ، ومقتضى هذا التحريم أنه نهي عن فعل مجرد يقتضي التوقف عنده بالانتهاء عنه. كما أنه نهي عن فعل لعلة هي درء لحدوث مفسدة تنزع بالمسلم إلى الشرك. وثاني المسألتين: دعاء الأموات لطلب العون منهم: وطلب العون من حيث العموم له وجهان: الأول: طلب العون من المخلوق الحي في أمور دنيوية يقدر عليها، وهذا جائز. وطلب العون فيما لا يقدر عليه إلا الله فهذا محرم، بل هو من الشرك الذي حرمه الله، ومن ذلك الاستعانة بالمخلوق للشفاء من المرض، أو دفع المصيبة، ونحو ذلك.
المسألة الثالثة: الصلاة في المساجد التي فيها قبور: وهذا لا يجوز باستثناء مسجد رسول الله r ، فقد كان قبره عليه الصلاة والسلام في حجرة عائشة -رضي الله عنها- وهذه الحجرة أدخلت في المسجد في عهد الوليد بن عبدالملك.
والنهي عن الصلاة في المساجد التي فيها قبور له أسباب عدة، منها: أن ما كان منهيًّا عنه في أصله يعد منهيًّا عنه في فرعه. ومنها: أن المساجد المبنية على القبور غالبًا ما يكون فيها بدع، وما كان كذلك لا تجوز فيه الصلاة. ومن هذه الأسباب: أن في النهي عن الصلاة في هذه المساجد سدًّا للذريعة، حتى لا يلبس على المصلي فيها، ويتعرض لما يؤثر في عقيدته.
([1]) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور، واتخاذ الصور فيها والنهي عن اتخاذ القبور مساجد، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم ج٢ ص٣٢٤، برقم (٦١).
([2]) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور، واتخاذ الصور فيها والنهي عن اتخاذ القبور مساجد، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم ج٢ ص٤٢٤، بأرقام (٧١، ٨١، ٩١، ٠٢، ١٢، ٢٢).
([3]) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور، واتخاذ الصور فيها والنهي عن اتخاذ القبور مساجد، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم ج٢ ص٥٢٤-٦٢٤، برقم (٣٢).
([4]) التعليل ليس بشرط لقبول النهي، بل يقع النهي حكماً بصرف النظر عن تعليله.
([5]) انظر: الجواب الباهر في زوار المقابر، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص٩-٠١.
([6]) الجواب الباهر في زوار المقابر، ص٣١.
([7]) أخرجه ابن ماجة في كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي، سنن ابن ماجة، ج١ ص٩٥٦، برقم (٣٤٠٢، ٥٤٠٢).