الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فظاهر السؤال أن رجلًا يشتري البضاعة من محل تجاري ويجلس أمامه ويبيع البضاعة بثمن أعلى من ثمن المحل، والجواب عن هذا من وجهين: الأول: أن هذا العمل مما يدخل في النهي عن تلقي الركبان (الجلب)، ومفاده: أن يتلقى الرجل الجلب قبل أن يدخلوا البلد ويشتري منهم بأرخص من سعر البلد، والأصل فيه ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن تلقي الجلب وقال: “لا تَلَقَّوْا الجَلَبَ، فمَن تَلَقَّاهُ فاشْتَرَى منه، فإذا أتَى سَيِّدُهُ السُّوقَ، فَهو بالخِيارِ”. وما يفعله المذكور محل السؤال يعد تلقيًا للجلب، فالمشترون يقدمون إليه ويشترون بضاعتهم منه، ثم إذا دخلوا المحل التجاري اكتشفوا أن البضائع فيه أرخص فهم بهذا يغبنون؛ لأن المشتري يحاول دائمًا أن يجد البضاعة رخيصة الثمن، فعلى هذا يحق للمشتري من المحل نفسه الواقع أمام المحل التجاري الخيار في رد البضاعة أو قبولها؛ بسبب الغبن، ويحكم مقدار الغبن ما تعارف عليه الناس، فقد يكون ربع القيمة أو ثلثها أو أقل أو أكثر، فالعادة محكمة في هذا، وقد ذهب إلى هذا الإمامان مالك وأحمد([1])؛ استدلالًا بقصة الرجل الذي كان يُخدع في البيع، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “إذا بايعت فقل: لا خِلابة”([2])، وذهب الجمهور من العلماء إلى أن الخيار لا يثبت بالغبن؛ لأن البيع لا يفرق فيه بين بيع فيه غبن وبيع لا غبن فيه، وأجابوا بأن هذه الرخصة كانت للرجل بسبب ضعف عقله وعدم قدرته([3]).
الوجه الثاني: أن جلوس الرجل أمام المحل التجاري يسبب ضررين: ضرر لصاحب المحل التجاري، وضرر للمشترين الذين يشترون منه بثمن أعلى من المحل. وإضرار الإنسان بأخيه مما حرمه الله، والأصل فيه قول الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا) [الأحزاب: ٥٨]، فهذا يعد مضارًا لأخيه في رزقه، والأصل فيه أيضًا قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “مَنْ ضَارَّ ضَارَّ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ شَاقَّ شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ”([4])، فدل هذا على أنه لا يجوز للرجل المجاور للمحل التجاري أن يتلقى المشترين ويبيعهم بثمن أغلى من الثمن في المحل المذكور؛ لأن هذا الفعل من الإضرار والأذى للغير في رزقهم، والله -تعالى- أعلم.
[1] الاستذكار لابن عبد البر ج6 ص 541-543، والقوانين الفقهية ص:287، والمغني لابن قدامة ج 4ص 152.
[2]– رواه البخاري (2117)، ومسلم (1533).
[3] حاشية ابن عابدين (7/ 363)، ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام (1/ 369)، والقوانين الفقهية ص287، وروضة الطالبين (7/ 187).