سؤال من الأخ ف… العنزي يسأل فيه عن حكم الخروج على ولي الأمر باسم شعارات وحجج وأعذار تتعارض مع القواعد الشرعية، بالإضافة إلى ما في هذه الشعارات والحجج من الأخطار، وإشعال الفتن، وشيوع الفوضى، وتفرق الأمة واختلافها.

حكم الخروج على ولاية الأمة وما يترتب عليه

والجواب: أن الله -عز وجل- قد بين للأمة ما يجب عليها في دينها ودنياها، سواء في علاقتها مع بعضها، أو في علاقتها مع غيرها من الأمم، ومن هذا البيان: وجوب وحدتها، وتحريم شقاقها واختلافها؛ لما في هذه الوحدة من القوة في الدين، وإعمار الأرض وصلاحها، ولما في التفرق والاختلاف من الفساد الذي يبعد الأمة عن دينها، وينأى بها عن إعمار الأرض، فقال -عز وجل-: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]، ثم نهاها وحذرها عن التفرق والاختلاف بعد أن ضرب لها مثلا عن حال الأمم التي اختلفت على أنبيائها ورسلها، ثم ما لبثت أن بادت، وأصبحت في عداد الهالكين، فقال

 

-تعالى-: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم} [آل عمران:105]، وقال -جل ثناؤه-: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153].

والوحدة التي أمر الله بها تقتضي حكما انتظام الأمة تحت ولاية تسيرها، وترعى مصالحها، وتحفظ أمنها، وتصون حرماتها وفق ما وضعه الله من السنن والقواعد والأحكام، ولهذا قال رسول الله -ﷺ-: «لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمرُوا عليهم أحدهم»([1])، وهذه الولاية لا تستطيع القيام بذلك إلا إذا كانت الأمة تأتمر بأمرها، وتنتهي عن نهيها، فإن خرجت عليها لم ينتظم لها قول، ولم يستقم لها أمر، ولم يقم لها شأن، ولم تستطع القيام بأمر الدين وإعمار الأرض؛ ذلك أن من سنن الله في خلقه أن جعل لكل شيء نظاما وقواعد، ألم تر -ولله المثل الأعلى- كيف يطير النحل؟، وكيف يجتمع؟، وكيف يتفرق بحكم توجيه قيادته؟، ألم تر كيف تطير الطيور، وتتناغم مع قياداتها في وضع يدل على ما وضعه الله لخلقه من السنن والأحكام التي تحكم حياتهم، ومختلف سلوكهم، وتصرفاتهم؟، وهو القائل في محكم التنزيل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر} [القمر:49].

نعم! وكما تكون الأمة تحت ولاية يجب على الأمة طاعة هذه الولاية ما دامت هذه الولاية تطيع الله، وتحكم شرعه، والأصل في هذا الكتاب والسنة والإجماع والمعقول.

ففي الكتاب: قول الله -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [النساء:59]، وقد تكلم في ذلك أهل التفسير والعلم، وأفاضوا فيه، فقال الإمام القرطبي: ‏«‏أمر الله -عز وجل- بطاعته أولا، وهي امتثال أوامره، واجتناب نواهيه، ثم بطاعة رسوله ثانيا فيما أمر به، ونهى عنه، ثم بطاعة الأمراء ثالثا على قول الجمهور وابن عباس وغيرهم. قال التستري: أطيعوا السلطان في سبعة: ضرب الدراهم والدنانير، والمكاييل والأوزان، والأحكام، والحج، والجمعة، والعيدين، والجهاد. وقال سهل: وإذا نهى السلطان العالم أن يفتي فليس له أن يفتي، فإن أفتى فهو عاصٍ وإن كان أميرا جائرا‏»‏‏([2]).

وقال الإمام الماوردي في هذه الآية: ‏«‏فرض علينا طاعة أولي الأمر فينا، وهم الأئمة المتأمرون علينا‏»‏‏([3]).

وقال شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية: ‏«‏.. وقد أمر الله في كتابه بطاعته، وطاعة رسوله، وطاعة أولي الأمر من المؤمنين.

وأولو الأمر: أصحاب الأمر، وهم الذين يأمرون الناس، وذلك يشترك فيه أهل اليد والقدرة، وأهل العلم والكلام، فلهذا كان أولو الأمر صنفين: العلماء، والأمراء، فإذا صلحوا صلح الناس، وإذا فسدوا فسد الناس، كما قال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- للأحمسية لما سألته: ما بقاؤنا على هذا الأمر؟. فقال: ما استقامت لكم أئمتكم. ثم قال: ويدخل فيهم الملوك، والمشايخ، وأهل الديوان، وكل من كان متبوعا، فإنه من أولي الأمر. وعلى كل واحد من هؤلاء أن يأمر بما أمر الله، وينهى عما نهى عنه، وعلى كل واحد ممن عليه طاعته أن يطيعه في طاعة الله، ولا يطيعه في معصية الله‏»‏‏([4]). هذا في الكتاب عن طاعة أولي الأمر.

أما في السنة: فقول رسول الله -ﷺ-: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن يعصني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني»([5])، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة»([6])، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: «عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك»([7]).

وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: كُنا مع رسول الله -ﷺ- في سفر، فنزلنا منزلا، فمنا من يُصلح خِباءه، ومنا من ينتضل، ومنا من هو في جشره، إذ نادى منادي رسول الله -ﷺ-: الصلاة جامعة. فاجتمعنا إلى رسول الله -ﷺ- فقال: «إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، إن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء فتن يُرققُ بعضها بعضا، وتجيء الفتنة، فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه، فمن أحب أن يُزحزح عن النار، ويُدخل الجنة، فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يُحِب أن يؤتى إليه. ومن بايع إماما، فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه، فاضربوا عنق الآخر)([8]).

وفي حديث وائل بن حجر -رضي الله عنه- قال: سأل سلمة بن يزيد الجُعفي رسول الله -ﷺ-، فقال: يا نبي الله! أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألوننا حقهم، ويمنعوننا حقنا، فما تأمرنا؟، فأعرض عنه، ثم سأله، فقال رسول الله -ﷺ-: «اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حُملوا، وعليكم ما حُملتم»([9]). وفي حديث ابن عباس-رضي الله عنهما- أن رسول الله -ﷺ- قال: «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبرا، فمات، مات ميتة جاهلية»([10]).

نعم: لقد كان رسول الله -ﷺ- أحرص ما يكون على الوحدة، والتحذير من الفرقة والاختلاف، ووجوب اتباع القيادة؛ لعلمه -عليه الصلاة والسلام- أن كيان الأمة وتسييرها، وإعمار الأرض، يتطلب هذا الاتباع؛ فقد بعث -عليه الصلاة والسلام- سرية بقيادة خالد بن الوليد، وفيها عمار بن ياسر-رضي الله عنهما-، فلما بلغوا قريبا من القوم نزلوا حتى يبين الصباح، فهرب القوم إلا رجلا منهم أتى عسكر خالد، فسأل عن عمار بن ياسر، فأتاه، فقال: يا أبا اليقظان! إني قد أسلمتُ، وشهدت أنْ لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وإن قومي لما سمعوا بكم هربوا، وإني بقيت هنا، فهل ينفعني إسلامي غدا، وإلا هربت؟، فقال عمار: بل هو نافعك، فأقم، فأقام، فلما أغار خالد على القوم لم يجد أحدا إلا ذلك الرجل، فأخذه، وأخذ ماله، فلما بلغ عمارا الخبر أتى خالدا، وسأله أن يخلي سبيله؛ لكونه قد أسلم، وهو في أمان منه، فقال خالد: وفيم أنت تجير؟، فلما ارتفعا إلى النبي -ﷺ- أجاز أمان عمار، ونهاه أن يجير الثانية على أمير([11]).

ورغم أن عمارا لم يجر الرجل إلا لأنه قد أسلم، وأن إسلامه يعصمه في دمه وماله، ورغم منزلة عمار من رسول الله -ﷺ-، وقوله عنه: «من سب عمارا سبه الله، ومن أبغض عمارا أبغضه الله، ومن لعن عمارا لعنه الله»([12])، رغم كل هذا نهاه رسول الله -ﷺ- أن يجير مرة ثانية على أميره؛ حرصا منه على طاعة ولي الأمر -وهو هنا خالد بن الوليد-، وعدم الخروج عليه؛ لما في ذلك من الفتنة التي تنعكس على الجهاد وعلى الأمة في مختلف أمورها.

وأما الإجماع: فقد أجمعت الأمة في سلفها وخلفها على أن الولاية على الأمة من أهم أمور الدين وواجباته، وأن فقد هذه الولاية مدعاة للفوضى، وسبيل إلى التقاتل، وغلبة القوي على الضعيف، وضياع الحقوق، وفقدان العدل، وانتشار الفتن؛ مما يتعارض مع سنن الله في خلقه في الأمر بالإجتماع، وعدم التفرق.

وقد كان السلف يشددون على طاعة أولي الأمر، والسمع والطاعة لهم، وعدم الخروج عليهم، فقال بعضهم: إن السلطان ظل الله في الأرض([13]). وقال بعضهم: ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة بلا سلطان([14]). وقد كان الإمام أحمد والفضيل بن عياض وغيرهما يقولون: لو كان لنا دعوة مستجابة لدعونا بها للسلطان. وكان الإمام أحمد يردد هذا القول حتى في زمن المحنة التي امتحنه بها المأمون والمعتصم والمعتزلة بالقول بخلق القرآن([15]).

وأما المعقول: فإن الإنسان لا يستطيع حكم نفسه، أو التحكم في سلوكه إلا عن طريق نظام وقواعد آمرة وناهية، ينفذها ولي قوي توجب ولايته طاعته، وهذا من حقائق الإنسان الأزلية والعقلية، حتى القبائل التي تعيش في الأدغال والمفاوز تحكمها عادات وتقاليد، يقوم على إنفاذها ولي متنفذ، تتوافر فيه عدة خصائص، إما بالمال، أو بالقوة، أو بالتوارث، أو بهذه الصفات جميعها، ذلك الإنسان إذا استبد برأيه دون آمر أو ولي يقوم عليه فسوف يتبع هواه، فيهلك نفسه، ويهلك غيره؛ مصداقا لقول الباري -عز وجل-: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43]، ولم تكن سمة القيادة من سمات الإنسان وحده؛ بل إنها من سمات وحقائق المخلوقات الأخرى من الحيوان والطيور، فالغابات تحكمها وتقودها الكواسر من الحيوانات، والطيور تهاجر من مواقع بعيدة تحت قيادة منظمة أودعها الخالق فيها.

وفي إطار القرآن الكريم، والسنة النبوية، وإجماع الأمة على وجود ولي للأمر يقوم على شؤون الأمة، وتترتب طاعته عليها، تعرض الفقهاء -رحمهم الله- لحكم من يخرج عليها:

ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: أن طاعة ولي الأمر واجبة، ومن طاعته: تصديقه، وامتثال أمره، حتى قيل: لو أنه أمر أهل بلدة بصيام أيام بسبب الغلاء أو الوباء وجب امتثال أمره، وقتال من يخرج عليه([16]).

وفي مذهب الإمام مالك: أن للإمام العادل مقاتلة من يخرج عليه، ولو كان متأولا بشبهة، كما لو خرج البغاة عليه جاز له مقاتلتهم([17]).

وفي مذهب الإمام الشافعي: تجب طاعة الإمام في أمره ونهيه، ما لم يخالف حكم الشرع، سواء كان عادلا أو جائرا، ويجب قتال من بغى([18])؛ فقد أجمع الصحابة -رضي الله عنهم- على قتال البغاة؛ لما في التشديد من طاعة ولي الأمر كحديث: «من حمل علينا السلاح فليس منا»([19])، وحديث: «من فارق الجماعة فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه»([20])، وحديث: «من خرج على الطاعة، وفارق الجماعة، فمات، مات ميتة جاهلية»([21])، ولو استعان هؤلاء بأهل الحرب، وعقدوا لهم ذمة وأمانا ليقاتلوا معهم لم ينفذ أمانهم، بل يجب مقاتلتهم بقوة([22]).

وفي مذهب الإمام أحمد: من ثبتت إمامته وجبت طاعته، وحرم الخروج عليه وقتاله؛ استدلالا بقول الله -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء: 59]([23]).

واستدلالا بحديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: ‏«‏بايعنا رسول الله -ﷺ- على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وألا ننازع الأمر أهله‏»‏‏([24])، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “وما أمر الله به ورسوله من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم واجب على الإنسان وإن لم يعاهدهم عليه، وإن لم يحلف لهم الأيمان المؤكدة، كما يجب عليه الصلوات الخمس، والزكاة، والصيام، وحج البيت، وغير ذلك مما أمر الله به ورسوله من الطاعة، فإذا حلف على ذلك كان توكيدا وتثبيتا لما أمر الله به ورسوله من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم، فالحالف على هذه الأمور لا يحل له أن يفعل خلاف المحلوف عليه، سواء حلف بالله أو غير ذلك من الأيمان التي يحلف بها المسلمون، فإن ما أوجبه الله من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم واجب وإن لم يحلف عليه، فكيف إذا حلف عليه؟، وما نهى الله ورسوله عن معصيتهم وغشهم محرم، وإن لم يحلف على ذلك”.

ثم قال -رحمه الله-: “ولهذا من كان حالفا على ما أمر الله به ورسوله من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم، أو الصلاة، أو الزكاة، أو صوم رمضان، أو أداء الأمانة، والعدل، ونحو ذلك، لا يجوز لأحد أن يفتيه بمخالفة ما حلف عليه، والحنث في يمينه؛ ولا يجوز له أن يستفتي في ذلك، ومن أفتى مثل هؤلاء بمخالفة ما حلفوا عليه، والحنث في أيمانهم، فهو مفتر على الله الكذب، مفت بغير دين الإسلام‏».‏‏ انتهى([25]).

قلت: هذه الولاية، وما يجب لها من طاعة الأمة، وما يجب عليها هي من طاعة الله، وما تقتضيه هذه الطاعة من القيام بأوامر الله، وإعمار الأرض، وحفظ الضرورات الشرعية، وحفظ الأمن، وإقامة العدل، وإحقاق الحقوق لأصحابها، وما كانت أمة تقوم بهذا إلا مكن الله لها في الأرض، فبدل ذلها عزة، وضعفها قوة، وفقرها غنى، وهزيمتها نصرا، وما كانت أي أمة تحيد عن الطريق القويم، فتحل فيها الفرقة بعد الوحدة، ويسود فيها الخصام بعد الوئام، وتخرج على ولاتها، إلا ابتليت بالسنين، فتصبح هدفا للمعتدين، ومكانا للطامعين والمحتلين، وقد دلت شواهد التاريخ وسوابقه في غابر الزمان وحاضره على ذلك، وفي ذلك عبرة لمن يخشى.

وما كان بعض أجزاء أمة المسلمين يُصاب بمثل ما أصيبت به إلا بعد أن حلت فيها الفرقة، وساد فيها الاختلاف، وضعفت فيها أسس العقيدة، والحقيقة التي لا ريب فيها أن آخر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أولها، كما قاله الإمام مالك -رحمه الله-.

وخلاصة المسألة: أن الله -عز وجل- قد أمر الأمة بالوحدة، وحذرها من الفرقة، وضرب لها مثلا عن حال الأمم التي هلكت حين تفرقت واختلفت على أنبيائها ورسلها، والوحدة التي أمر الله بها تقتضي حكما انتظام الأمة تحت ولاية تسيرها، وترعى مصالحها، وتحفظ أمنها، وتصون حرماتها وفق ما وضعه الله من السنن والأحكام، وهذه الولاية لا تستطيع القيام بذلك إلا إذا كانت الأمة تأتمر بأمرها، وتنتهي عن نهيها، فإن خرجت عليها لم ينتظم لها قول، ولم يستقم لها أمر، ولم يقم لها شأن، ولم تستطع القيام بأمر الدين، وإعمار الأرض.

والأصل في طاعة الولاية الكتاب، والسنة، والإجماع، والمعقول.

أما الكتاب: فقول الله -عز وجل-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء:59].

وأما السنة: فقول رسول الله -ﷺ-: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن يعصني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني»([26]).

وأما الإجماع: فقد أجمعت الأمة في سلفها وخلفها على أن الولاية على الأمة من أهم أمور الدين وواجباته، وكان سلف الأمة يشددون على طاعة أولي الأمر، والسمع والطاعة لهم، وعدم الخروج عليهم.

وأما المعقول: فإن الإنسان لا يستطيع حكم نفسه، أو التحكم في سلوكه إلا عن طريق نظام وقواعد آمرة وناهية، ينفذها ولي قوي توجب ولايته طاعته وامتثال أمره.

وكما كان السلف يشددون على أهمية الولاية، وعدم الخروج عليها، فعل ذلك الأئمة الأربعة، فشددوا على حق ولي الأمر في دفع من يخرج عليه؛ حفظا لكيان الأمة من الشقاق والخلاف.

وما كانت أمة تقوم بما أمرها الله به من الوحدة، ونبذ الخصام، وطاعة ولاة أمرها إلا مكن الله لها في الأرض، فبدل ذلها عزة، وضعفها قوة، وفقرها غنى، وهزيمتها نصرا، فإذا حادت عن الطريق القويم، وحلت فيها الفرقة، وساد فيها الخصام، أصحبت هدفا للمعتدين، ومكانا للطامعين والمحتلين. والله -تعالى- أعلم.

 

([1])  أخرجه الإمام أحمد في المسند، ج2 ص177، قال الشوكاني في نيل الأوطار، (٩/١٥٧): له شواهد.

([2])   الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ج5 ص259.

([3]) الأحكام السلطانية والولايات الدينية، ص5.

([4])   الحسبة في الإسلام لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص58.

([5])   وقد روي هذا الحديث من عدة طرق، منها: «ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني»، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم للأبي، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية، ج 6 ص523-525، برقم (32، 33).

([6])  متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب الأحكام، باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية، فتح الباري، ج13 ص93، برقم (7143)، وأخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم، ج6 ص526، برقم (38).

([7])   أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم، ج6 ص524-525، برقم (35).

([8])   أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب بيعة الخلفاء، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم، ج6 ص539-543، برقم (46).

([9]) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء وإن منعوا الحقوق، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم للأبي، ج6 ص546-547، برقم (49).

([10])  أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، وفي كل حال، وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم، ج6 ص566، برقم (55).

([11])  جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ج5 ص148، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير، ج1 ص490-491.

([12])  جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ج5 ص148، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير، ج1 ص491، قال الهيثمي في مجمع الزوائد، (٩/٢٩٧): في إسناده غير واحد مختلف فيه‏‏.

([13])  السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص177.

([14]) السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، ص177.

([15])  السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، ص177.

([16]) حاشية قرة عيون الأخبار تكملة رد المحتار على الدر المختار لعلاء الدين المنذري، ج7 ص53-54، وانظر: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني، ج7 ص140-142.

([17]) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدسوقي، ج4 ص298-299، وشرح الخرشي على مختصر خليل، ج8 ص60-61، وبداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد، ج2 ص458.

([18]) روضة الطالبين وعمدة المفتين للنووي، ج10 ص47، 50-60، وانظر: مغني المحتاج للشربيني الخطيب، ج4 ص123-125.

([19])  أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب قول النبي-ﷺ-: «من حمل علينا السلاح فليس منا»، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم للأبي، ج1 ص347-348، برقم (161، 163).

([20]) جزء من حديث طويل أخرجه الترمذي في كتاب الأمثال، باب ما جاء في مثلِ الصلاة والصيام والصدقة، سنن الترمذي، ج5 ص136-137، برقم (2863)، وأخرجه أبو داود في كتاب السنة، باب في قتل الخوارج، سنن أبي داود، ج4 ص241، برقم (4758)، صححه الألباني في صحيح الجامع، (٦٤١٠).

([21])  أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم للأبي، ج6 ص553-554، برقم (53).

([22])  روضة الطالبين وعمدة المفتين للنووي، ج10 ص60-61.

([23]) انظر: المغني والشرح الكبير، ج10 ص48-49، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي، ج10 ص310-312، 320.

([24]) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في معصية، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم، ج6 ص527-528، برقم (41، 42).

([25]) مجموع الفتاوى، ج35 ص9-10.

([26])  صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم للأبي، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية، ج 6 ص523، برقم (32).