الافتراء: الكذب والاختلاق([1])، والكذب من صفات المنافقين، والافتراء مـحـرم بنص الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب: فقد وصف الله المفترين بعدم الفلاح، فقال -عز وجل-:{قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُون * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُون} [يونس: 69 -70]، وقد أمر الله نبيه أن يبايع النساء إذا كن لا يفترين فقال -عز وجل-: {وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} [الممتحنة:12].
والافتراء يعد أذى للنفس، قال -تعالى-: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب:58]، وقد يتحول الافتراء إلى قذف كما سنرى.
أما السـنة: فقد روى عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -ﷺ- قال: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه»([2])، وروى عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن رسـول الله -ﷺ- قال: «من أحب أن يزحزح عن النار، ويدخل الجنة؛ فلتأته منيته وهو مؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه»([3])، وروى عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله -ﷺ- قال: «ليس المؤمن بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء»([4])، كما روى -رضي الله عنه- أن رسول الله -ﷺ- قال: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر»([5]).
وأما الإجماع: فقد أجمعت الأمة في سلفها وخلفها على أن للمسلم حرمته في دينه، وماله، وعرضه، فلا يجوز التعدي بالأذى أو الافتراء عليه؛ لأن حرمته تبقى مصونة ما لم يشبها شائب من عنده.
والافتراء قد يكون قذفا، فمن قذف رجلا أو امرأة بالزنا، وهما لیسا كذلك، أقيم عليه حد القذف، أمـا ما عدا ذلك من الأوصاف فيعزر، كما لو وصف رجلاً آخر بالسرقة، أو الخبث، أو الفسق، أو الفجور، أو الخيانة، أو نحو ذلك من الأوصاف التي تشينه، وتؤذيه في سمعته([6])؛ ويدخل في هذا الحكم التعريض بالذم، ولو على نحو غير مباشر، وذلك حين يبدو من المدح أنه في صورة الذم([7])، كما يدخل فيه مـا يتعرض له بعض الأشخاص من أذى من بعض وسائل الإعلام؛ مما يؤثر سلباً على سمعتهم الشخصية، أو سمعة أسرهم، سواء كان ذلك بدافع الـهـوى أو الإثارة، فكل هـذا مما يحق فيه مقاضاة فاعله، والمطالبة بمعاقبته.
فاقتضى هذا أن من يتهم شخصاً أو أشخاصاً بأنهم ينتسبون إلى جماعة ضالة أو أهل بدعة أو فرقة أو ملة محظورة أو مخالفة، وهم ليسوا كذلك، يعد مفترياً عليهم، وله الحق في مقاضاته ومعاقبته، ذلكم أن على ولي الأمر وصاحب الولاية القيام بتعزير من يفتري على أناس بما ليس فيهم.
وخلاصة المسألة: أن الافتراء محرم بنص الكتاب والسنة والإجماع، والافتراء قد يكون قذفاً كالاتهام بالزنا، ويقام على صاحبه الحد، أما مـا عـدا ذلك من الأوصاف المشـيـنـة التي تؤذي المرء في سمعته فيعزر صاحبها، فاقتضى هذا أن من يتهم شخصاً بأنه ينتسب إلى جماعة أو ملة أو فرقة محظورة أو مخالفة، وهو ليس كذلك يعد مفترياً عليه، وله الحق في مـقـاضـاته وطلب معاقبته، ذلكم أن على ولي الأمر واجبًا في تعزير من يتعرض بالافتراء على غيره بما ليس فيه.
والله -تعالى- أعلم.
([1]) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج8 ص361، والمصباح المنير للفيومي ج٢ ص471، مادة: فري.
([2]) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»، برقم (10)، فتح الباري ج1 ص69.
([3]) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء، الأول فالأول، برقم (١٨٤٤)، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم للأبي ج6 ص٥٣٩-٥٤٣. وأخرجه ابن ماجة في كتاب الفتن، باب ما يكون من الفتن، برقم (٣٩٥٦)، سنن ابن ماجة ج۲ ص۱۳۰6 – ۱۳۰۷، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده ج۲ ص ١٦١.
([4]) اخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة، باب ما جاء في اللعنة، برقم (۱۹۷۷)، سنن الترمذي ج4 ص۳۰۸، صححه السيوطي في الجامع الصغير، (٧٥٦٦).
([5]) أخرجه البخاري في كتاب الادب، باب ما ينهي عن السباب واللعن، برقم (٦٠٤٤)، فتح الباري ج١٠ ص ٤٧٩.
([6]) انظر: حاشية رد المحتار لابن عابدین ج4 ص ٦٩-٧٠، وشرح فتح القدير للكمال بن الهمام ج5 ص ٣٤٦-٣٤٧، والفتاوى الهندية لجماعة من علماء الهند ج۲ ص۱۸۱ -۱۸۲، وانظر في مذهب الإمام مالك: المدونة الكبرى رواية الإمـام سـحـنون ج4 ص ٤٩٣ – ٤٩٤، وفي مذهب الإمام الشافعي: المجموع شرح المهذب للنووي ج۲۰ ص ١٢٥، وروضة الطالبين للإمام النووي ج1 ص ١٧٤، ومغني المحتاج للخطيب الشربيني ج4 ص ١٩١، وانظر في مذهب الإمام: أحمد: كتاب الفروع لابن مفلح مع تصحيح الفروع للمرداوي ج6 ص۱۱۲ -۱۱۳، ومطالب أولي النهي في شرح غاية المنتهى للرحيباني ج۱ ص۲۲۱.
([7]) ومن ذلك وصف الحطيئة للزبرقان بن بدر بقوله:
دع للمكارم لا ترحل لِبُغْيَتِهَا واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
وقد سأل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حسان بن ثابت ولبيد بن عامر عن قوله، فقالا: إنه قد هجاه، فأمر به عمر، فسجن في بئر، فقال الحطيئة يصف حاله وحال أسرته:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ زغب الحواصل لا ماء ولا شجرُ
ألقيتَ كاسبهم في قعر مظلمة فاغفر عليك سلام الله يا عمرُ
إلى قوله:
فامنن على صبية في الرمل مسكنهم بين الاباطح يغشاهم بها الغدرُ
فحينئذ كلمه عبد الرحمن بن عوف وعمرو بن العاص، واسترضياه حتى أخرجه من السجن. كتاب الفروع لابن مفلح ج6 ص۱۱۱.