سؤال‮ ‬من الأخ ع‮. ‬ح‮. ‬م‮ ‬يقول فيه‮: ‬كثرت الفتاوى والأقوال في‮ ‬مسألة الردة وحكم المرتد‮. ‬ثم‮ ‬يقول‮: ‬وقد قرأنا أخيرًا ‬فتوى لأحد المفتين في‮ ‬إحدى البلاد العربية‮ ‬يفهم منها أن للمسلم تغيير دينه؛ لأن هذا‮ -‬كما‮ ‬يقول هذا المفتي‮- ‬مسألة ضمير‮.‬‬ ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

مسألة الردة، وما‮ ‬يقال فيها

هناك أقوال وتقارير عن خروج عدد من المسلمين من دينهم؛ فهذا باحث يقول: إن عشرة آلاف قد تنصروا في بلد عربي من شمال أفريقيا، وإن جهات التنصير تتحرك في هذا البلد لإغراء الشباب فيه لترك دينهم. وهذا باحث آخر يقول: إن أكبر بلد إسلامي في آسيا يتعرض لهجمة كبرى من حركات التنصير، وإن ثلاثين ألفًا من أهل هذا البلد يخرجون يوميًا من دينهم. وعلى الجانب الآخر من قارة أفريقيا يحذر زعيم مسلمي الكونغو من ظاهرة الردة بين المسلمين هناك، ويعزو هذه الظاهرة إلى الفقر وعدم الرعاية.

ويفزع باحث آخر مما يحدث للمسلمين من تنصير، ويرى أن الخطر لا يظهر بين أقلية مسلمة في الكونغو، ولا بين المسلمين في جهة نائية من بلد في شمال أفريقيا أو آسيا، بل إن الردة صارت تظهر في وسط بعض بلاد المسلمين، بعد أن تكاثرت فيها حركات التنصير والنوادي المرادفة لها. ويحمّل أصحاب هذه الأقوال والتقارير جهات بلادهم في تغاضيها أو غفلتها عما يجري فيها، كما يحملون منظمات الإغاثة الإسلامية، وأصحاب الأموال المسئولية في غفلتهم عن إخوانهم، وما يلاقونه من ضيق العيش والفاقة.

وبين هذه الأقوال يقول قائل آخر: إن ما يقال عن الردة بين المسلمين مبالغ فيه؛ فهي ليست ظاهرة بقدر ما هي وقائع فردية محدودة، وإن حركات التنصير هي التي تروج لهذه الأخبار وتبالغ فيها، وإن خطر الردة لا يستحق الذكر، وإن الجهات المسئولة في البلاد المشار إليها تراقب هذه الأمور بكل قوة.

قلت: لا شك أن المسلمين هم أكثر شعوب العالم قاطبة في التمسك بدينهم والثبات عليه؛ لأنه دين الفطرة الذي أراده الله لعباده، رحمة ورأفة بهم، وما يحدث من ردة من أفراد من المسلمين، يعد محدودًا مقارنة بمن يتحولون من الديانات الأخرى إلى الدين الإسلامي، ولم يحصل في تاريخ المسلمين ردة جماعية سوى ثلاث حالات لها ظروفها:

أولاها: ردة بعض العرب بعد وفاة رسول الله r حين امتنعوا عن أداء الزكاة ظنًّا منهم أنها لا تدفع إلا لرسول الله r  فحسب، وقد عاد هؤلاء إلى الإسلام بعد أن تمت مقاتلتهم.

الردة الثانية: ما حصل في الأندلس، فبعد أن خسر المسلمون أنفسهم وديارهم أجبر النصارى الأسبان، المسلمين الأسبان على ترك دينهم.

الردة الثالثة: حدثت للمسلمين الأفارقة الذين أُخِذُوا عبيدًا وأرسلوا إلى أمريكا، فقد اضطرهم واقعهم وعبوديتهم إلى ترك دينهم. أما الحالات الأخرى فهي فردية.

ومع ذلك فإن ما يحدث للمسلمين اليوم من مصاعب وفرقة وانكسار واحتلال لأراضيهم ومضايقتهم بشتى التهم يجعل من الواجب الخشية والحذر، خاصة وأن حركات التنصير تستغل هذا الواقع، وتجد بين ظهراني المسلمين من يتغاضى عن نشاطها؛ فقد كتبت لنا إحدى الأخوات تقول: إنها تعيش في ولاية أو مقاطعة كل سكانها من المسلمين، ومع ذلك يتكاثر فيها نشاط هذه الحركات، ويقيمون فيها أماكن لعبادة لا يوجد لها عابدون.

وفي ظل وقائع وأخطار تشهدها بعض البلاد الإسلامية نرى عجبًا، فهذا شاعر يجاهر بإلحاده، وهذا كاتب ينكر حكم الردة أصلاً، وآخر يدافع عن المرتدين. ومن هنا كثر الحديث في هذه المسألة -كما قال الأخ السائل- وهذا الحديث يتردد بين طرفين متعارضين:

طرف يحتكم إلى النصوص الشرعية في الكتاب والسنة دون مداراة لأحد.

وآخر إما يحاول تخطي هذه الأحكام لجهله بها أو سوء فهمه لها أو يحاول وضعها في صورة مغايرة لها، يدعي فيها أنه يعرض هذه الأحكام بصورة مرنة، يرضى عنها من يتعرض للإسلام بالنقد في هذه المسألة.

وهذا البحث لا يتطرق إلى مجمل أحكام الردة، فهذه كثيرة معروفة في مظانها، وإنما يتطرق إلى بيان الخلاف بين الطرفين المشار إليهما، خاصة في هذا الزمن الذي أصبح فيه طرف أو أطراف يحاولون تطويع النصوص وتفسيرها، بما يظنون خطأ أنه يتلاءم مع واقع الزمن المعاصر الذي نعيشه.

ويمكن وضع مسألة الردة في ثلاث مسائل:

الأحكام الشرعية، والآثار التي تترتب عليها، وبيان شبه النافين لحكمها.

أولاً: الأحكام الشرعية: من الكتاب والسنة والإجماع:

أما الكتاب: ففي الكتاب قول الله -تعالى-: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون} [البقرة:712]. وقوله عز ذكره: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ} [المائدة:45]. وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُم} [محمد:52].

وجه الدلالة من الآيات:

ففي الآية الأولى: بيان بأن من يرتد عن دينه ويموت على ردته يعد كافرًا، ويحبط عمله في الدنيا والآخرة، ويعد من أصحاب الخلود في النار.

وفي الآية الثانية: إن الله -عز وجل- غني عن عبادة عباده، فمن يرتد منهم عن دينه يبغضه ويتولى عنه، ويخلق غيره خلقًا آخر يحبهم ويحبونه لصفات فيهم منها مناصرتهم لإخوانهم المؤمنين، وقوتهم على عدوهم، وجهادهم في سبيل الله لا يردهم عن ذلك راد، أو يصرفهم عنه صارف.

وفي الآية الثالثة: ذم وبغض للذين يتركون الإيمان ويرجعون إلى الكفر، اتباعًا للشيطان وطاعة له، بعد أن خدعهم وغرهم وزيَّن لهم الباطل، وكرَّه لهم الحق.

فالمرتد كافر من هذه الوجوه، وذلك بالنص صراحة على كفره، ولا نظن أن من له قليل من العلم يجادل في هذا. والمرتد كافر أيضًا من وجوه أُخَر، فهو بمفارقته للإسلام لا يحكم بما أنزل الله، وفي هذا قال -تعالى-: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُون} [المائدة:44]. وهو بحكم ردته منكر لكتاب الله متبع لهواه، وفي ذلك قال -تعالى-: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُون} [الأعراف:3]. وهو بحكم ردته منكر لشريعة الله، عاصٍ لأمره في قوله -عز وجل-: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُون} [الجاثية:81]. وهو بحكم ردته مبتغٍ دينًا لم يرضه الله له في قوله: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين} [آل عمران:58]. وهو بحكم ردته خارج عن إرادة الله وفطرته التي فطر الناس عليها وهي الإسلام، كما قال -عز وجل-: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران:38]. هذا في الكتاب.

أما في السنة: فقول رسول الله r: (من بدل دينه فاقتلوه)([1]). وقوله -عليه الصلاة والسلام-: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد ألا إلَه إلا الله وأني رسول الله r، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة)([2]). وقد درج سلف الأمة على إسقاط عصمة المرتد، فلما قدم معاذ على أبي موسى باليمن ووجد عنده رجلًا موثقًا كان قد أسلم ثم ارتد، فقال: والله لا قعدت حتى تضرب عنقه قضاء الله ورسوله: إن من رجع عن دينه فاقتلوه ([3]).

كما انعقد الإجماع على ذلك:

ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: أن الردة تسقط العصمة، استدلالًا بالحديث المشار إليه، وبإجماع الصحابة على مقاتلة المرتدين.

وفي المذهب تستثنى المرأة من إسقاط عصمتها إذا ارتدت استدلالًا بقول رسول الله r: «لا تقتلوا امرأة ولا وليداً»؛ لأن القتل إنما شرع وسيلة إلى الإسلام بالدعوة إليه، بأعلى الطريقين عند وقوع اليأس عن إجابتها بأدناهما، وهو دعوة اللسان بالاستتابة بإظهار محاسن الإسلام، والنساء أتباع الرجال في إجابة الدعوة في العادة، فإنهن في العادة الجارية، يسلمن بإسلام أزواجهن، وإذا كان كذلك فلا يقع شرع القتل في حقها وسيلة إلى الإسلام، بخلاف الرجل فإنه لا يتبع غيره خصوصًا في أمر الدين، بل يتبع رأي نفسه، فكان رجاء الإسلام منه ثابتًا، فكان شرع القتل مفيدًا، فهو الفرق.

كما أن الحديث محمول على الذكور، عملًا بالدلائل، صيانة لهن من التناقض، ويقتصر في عقابها حال ردتها على الحبس، إذا لم تعد إلى الإسلام بعد استتابتها([4]).

وقد خالف في ذلك الجمهور، ويرون أن لا فرق بين المرتد والمرتدة في الحكم([5]). استدلالًا بعموم قول رسول الله r: (من بدل دينه فاقتلوه). واستدلالًا أيضًا بفعله عليه الصلاة والسلام حين أمر بقتل امرأة تدعى أم قرفة ارتدت([6]).

@ . بقتل امرأة ارتدت، يقال لها أم رومان بعد أن تستتاب([7]). طارئ([8]).

أما نهي الرسول عن قتل المرأة، فالمراد منه الكافرة بالأصل، ولا يجوز قياس الكفر الطارئ على الكفر الأصلي؛ لأن الرجال والنساء يقرون على الكفر الأصلي، وليس على الكفر الطارئ([9]).

وفي مذهب الإمام مالك: أن المكلف الذي يرجع عن دين الإسلام طوعًا، إما بالتصريح بالكفر، أو بلفظ يقتضيه، أو بفعل يتضمنه، يجب إسقاط عصمته بعد استتابته، وإمهاله ثلاثة أيام([10]).

وفي مذهب الإمام الشافعي: أن الردة قطع الإسلام بنية أو قول كفر أو فعل، سواء، قاله صاحبه مستهزئًا أو معاندًا أو معتقدًا. ومن ذلك نفي خلق الخالق -عز وجل-، أو تكذيب الرسل، أو تحليل ما حرمه الله… إلخ([11]).

وفي مذهب الإمام أحمد: أن من أشرك بالله، أو جحد ربوبيته، أو وحدانيته، أو صفة من صفاته، أو اتخذ له صاحبة أو ولداً، أو جحد نبيًّا أو كتابًا من كتب الله أو شيئًا منه، أو سب الله أو رسوله كفر بلا نزاع في الجملة([12]).

استتابة المرتد:

وإذا كان ليس ثمة خلاف في إسقاط عصمة المرتد فقد ثار الخلاف حول ما إذا كان يستتاب أم لا؟ في ذلك قولان:

الأول: استحباب استتابته:

ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: يعرض عليه الإسلام لاحتمال أن يسلم، لكن لا يجب؛ لأن الدعوة قد بلغته، فإن أسلم فبها ونعمت، وإن أبى نظر في ذلك، فإن طمع ولي الأمر في توبته، أو سأل هو التأجيل، أجله ثلاثة أيام، وإن لم يطمع في توبته، ولم يسأل هو التأجيل عاقبه من ساعته. والأصل في استحباب توبته ما روي أنه قدم على عمر -رضي الله عنه- رجل من جيش المسلمين في فتح (تستر)، فسأل هل كان من مغربة خبر؟ قال نعم: رجل كفر بالله تعالى بعد إسلامه ولحق بالمشركين، فقال عمر -رضي الله عنه- ماذا فعلتم به؟ قال قربناه فضربنا عنقه، فقال عمر -رضي الله عنه- فهلا ادخلتموه بيتاً، وأغلقتم عليه بابًا، وأطعمتموه كل يوم رغيفًا، واستتبتموه ثلاثًا، فإن تاب وإلا قتلتموه، اللهم إني لم أشهد، ولم آمر، ولم أرض إذ بلغني([13]).

وفي مذهب الإمام الشافعي: وجهان أحدهما: أنها مستحبة، استدلالًا بأن عمر -رضي الله عنه- لم يوجب الضمان على الذين قتلوا المرتد، فلو كانت الاستتابة واجبة لأوجب ضمانه([14]). وقال بذلك الإمام أحمد في رواية عنه([15]).

القول الثاني: وجوب استتابته:

وذهب إلى ذلك الإمام مالك([16]). وهو المذهب عند الحنابلة([17]). وعند الإمام الشافعي: تكون الاستتابة في الحال دون إمهال([18]). واستدل من قال بالوجوب بقول الله -تعالى-: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:83]. كما استدل بأن امرأة يقال لها أم رومان ارتدت، فأمر رسول الله r أن تستتاب -كما ذكر آنفًا-.

قلت: والأصح استتابة المرتد وإمهاله مدة معلومة؛ لأنه قد لا يعرف حقيقة فعله ولا عاقبته؛ فبعض الذين يرتدون إما أن يكون لهم أغراض خاصة:

فمنهم من يقول: إنه ارتد؛ لأن الديانة النصرانية لا تحرم الخمر.

ومنهم من يقول: إنه ارتد لكي يندمج في المجتمع الذي يعيش فيه، خاصة من الذين يقيمون في البلاد الغربية لطلب رزقهم.

ومنهم من يقول: إنه ارتد؛ لأنه يريد الحصول على الجنسية في البلد الذي يقيم فيه.

وإما أن يكون المرتد غُفْلٌ لا يعرف حقيقة فعله بعد أن لُبِّسَ عليه، والشاهد في ذلك قصة الشباب الإندونيسيين الذين اعتنقوا النصرانية بعد إغرائهم، وعندما سئلوا عن أمنياتهم أجمعوا على أن أغلى أمنية لهم أن يذهبوا إلى مكة للحج.

ثانيًا: الآثار التي تترتب على الردة: ليست الردة مجرد فعل مناطه ضمير صاحبه كما زعم – خطأ – من أفتى بهذا، وإنما هي مجموعة من المفاسد، يترتب عليها آثار وأخطار، تمس كيان الأمة في دينها وسياستها واقتصادها واجتماعها..

أما ما مناطه دينها: فهذا الدين لا يكره أحدًا على الدخول فيه، ولكنه لا يبيح لمن دخله أن يتحول عنه؛ لأنه إمَّا أن يكون معتقدًا له بحكم فطرته التي فطره الله عليها، كما قال رسول الله r: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة)([19])، -وهي هنا الإسلام- أو يكون معتقدًا له بحكم دخوله فيه بإرادته وطوعه، وفي كلتا الحالتين يكون ملزمًا بأحكامه، ومنها حكم الردة عنه، ناهيك بأن التحول عنه بالمجاهرة يعد من باب العمل على إفساده، والإفساد جريمة، وقد مقت الله -عز وجل- الفساد والمفسدين، وأبعدهم عن رحمته في قوله -عز وجل-: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ۙ أُولَٰئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} ]الرعد: 25].

والإفساد محاربة لله ولرسوله، وفي هذا قال الله -عز وجل-: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ} الآية [المائدة:33]. والإفساد طغيان وعدوان، وقد وصف الله الطغاة بأنهم يكثرون الفساد في الأرض، فقال في حقهم: {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلاَد * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَاد * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَاب} [الفجر:11- 31].

وأما ما مناطه سياسة الأمة واقتصادها واجتماعها: فإن إفساد الدين يؤدي بالضرورة إلى إفساد هذه المناهج كلها؛ فمن يتحول عنه ينكر منهجه في السياسة القائم على وحدة الأمة، وتحكيم شرع الله في كل أمر من أمورها. كما يعمل على إنكار منهجه في الاقتصاد القائم على احترام حق الله في المال، وحق عباده فيه، وعدم إفساده أو الطغيان به. كما يعمل كذلك على إنكار منهجه  في الحفاظ على كيان الأسرة من الفواحش والمنكرات.

وليس الإفساد جريمة في الإسلام فحسب، بل في كل النظم الوضعية، ففي النظم الرأسمالية لا يسمح لأحد فيها بإفساد فكرها ومعتقدها، ومن فعل ذلك تعرض للعقاب، وفي النظم الاجتماعية كافة لا يسمح كذلك لأحد فيها أن يفسد فكرها ومعتقدها، ومن فعل ذلك يعد خائنًا، ويجزى بأشد العقاب.

فإن قال قائل: إن هذه النظم لا تعاقب الفرد فيها إذا تحول عن دينه، فيرد عليه أن لكل شريعة منهجها وأحكامها، وشريعة الإسلام شريعة سماوية، وليس لأحد أن يبدل أو يغير في أحكامها، وفي هذا قال -عز وجل-:{اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء}[الأعراف:3]. وقال -عز ذكره-:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:63]. فإذا كان أصحاب العقائد والنظم ينكرون على غيرهم التدخل فيما يعتقدونه هم في حل أمر، أو حرمته، فليس من حقهم أن ينكروا على غيرهم ما تحله أو تحرمه عقائدهم.

 

ثالثًا: شبه النافين لحكم الردة: ليس لدى النافين لحد الردة من دليل قاطع سوى شبهات أذكتها روح التبعية والانفعال، بما كتبه بعض المستشرقين، أو ما كتبه قلة من المسلمين، الذي ذهبوا إلى الغرب، أو عاشوا فيه في أواخر القرن الماضي، وقد ازداد هذا الانفعال في هذا العصر الذي يواجه فيه المسلمون كثيرًا من المشكلات، بسبب أوضاعهم السياسية والاقتصادية والعلمية، فأغلب الذين ينفون اليوم حد الردة قد ابتلوا بالتبعية في فكرهم، وظنوا أنهم يعيشون نهاية التاريخ بسبب الحضارة الحديثة، هذا إذا أحسن الظن ببعضهم، وأن هدفه البحث عن الحق.

 

 

 

القرآن ليس فيه نص قاطع بحكم الردة:

ومن الشبه التي يرددونها أنه لم يرد في القرآن نص قاطع يقضي بحد الردة، وإنما جعل الله له عقوبة في الآخرة. ويُردّ على هذا أن عدم النص على الحكم في القرآن لا ينفي أبدًا وجوده، ولو قيل بهذا لم يعد هناك أحكام، ولا يقول بهذا عاقل، فأحكام القرآن في غالبها مجملة، وتفصيلها معلوم بالضرورة من السنة، ومن ذلك على سبيل المثال الخمر؛ فقد حرمها الله وجعلها رجسًا، ولم يحدد في القرآن عقوبة لها، بل تحددت هذه العقوبة في السنة، وفي هذا قال الإمام مالك: والسنة عندنا أن كل من شرب شرابًا مسكرًا فسكر أو لم يسكر فقد وجب عليه الحد([20]).

ومن ذلك أيضًا محرمات أخرى، ذكر الله عقوباتها في الآخرة، ولم يذكر لها عقوبات في الدنيا، فعلى سبيل المثال حرم الاعتداء في قوله -تعالى-: {وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِين} [البقرة:091]. وحرم الأذى في قوله -عز وجل-: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 85]. ولم يبين الله في القرآن عقوبات محددة للاعتداء والأذى، فهل يقال: إن الاعتداء والأذى في مختلف صورهما يبقيان دون عقوبة في الدنيا؟ إن هؤلاء لو قالوا بذلك لأبطلوا الحدود والعقوبات، ولنقضوا أحكام الدين، ولا نعتقد أن حسني النية منهم يقصدون ذلك.

العقوبة تقوم على حديث آحاد:

ومن الشبه أيضًا قولهم: إن حديث (من بدل دينه فاقتلوه) -المشار إليه آنفًا – حديث آحاد، والحدود لا تقام بأحاديث الآحاد، وهذه الشبهة أيضًا لا حجة لها ولا سند، وقد التبس على هؤلاء ما قاله بعض أهل العلم في ذلك، فهؤلاء قالوا: إنها لا تثبت فيما مناطه العقائد([21]) -خلافًا للإمام الشافعي الذي يرى أنها تفيد الحكم القطعي-([22]). أما الأحكام الأخرى في الشريعة فلا يشك أحد في الأخذ بها؛ لأن ما ورد عن رسول الله r من أخبار، كان أخبار آحاد، وفي هذا يقول محمد بن حبان البُستي: «فأما الأخبار فإنها كلها أخبار آحاد؛ لأنه ليس يوجد عن النبي r  خبر من رواية عدلين، روى أحدهما عن عدلين، وكل واحد منهما عن عدلين حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله r فلما استحال هذا وبطل، ثبت أن الأخبار كلها أخبار آحاد، وأن من تَنَكَّبَ عن قبول خبر الآحاد فقد عمد إلى ترك السنن كلها لعدم وجود السنن إلا من رواية الآحاد»([23]).

لقد أشكل على حسني النية ما أشكل على امرأة من بني أسد، يقال لها أم يعقوب، فقد أتت عبدالله بن مسعود فقالت: ما حديث بلغني عنك أنك لعنت الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله؟ قال عبدالله: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله r وهو في كتاب الله؟ فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته، فقال: لئن كنت قرأتِه لقد وجدتِه، قال الله -عز وجل-: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7]. الحديث([24]).

حرية الفكر والاعتقاد:

ومن الشبه ما يقال عن حرية الفكر، وهذا القول تغطية للقول بـ«حرية الاعتقاد»، فيدعي القائلون بهذه الحرية أنه لا يستثنى من حرية الفكر إلا التفكير في ذات الله تعالى، لعدم جدوى الحديث فيه، أما ما عداه فالحديث أو الخوض فيه حق، وهذا يقتضي -كما يقول هؤلاء- عدم فرض الإيمان، بل يترك للإنسان الحرية فيما يختار من العقائد، ويستدلون بما ورد في القرآن من قول الله -تعالى-: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 652]. وقوله: {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 92]. كما يستدلون بحادثة الأعرابي الذي قال لرسول الله r: أقلني من الإسلام بعد أن دخل فيه. فلم يقله رسول الله r ولم يعاقبه([25]). كما يستدلون بقصة النصراني الذي أسلم ثم ارتد، وأن النبي r  لم يعاقبه([26]).

وفي الاستدلال بما ذكر جهل فاضح بأحكام الدين، فأما قول الله -تعالى-: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 652]، فالمراد ألا يكره أحد على دخول الإسلام، ذلك أن عددًا من الأنصار أرادوا إكراه أولادهم الذين بقوا على اليهودية أو النصرانية على الدخول في الإسلام، فنهاهم الله عن ذلك، وقد أقر الإسلام من بقي من أهل الكتاب على دينه، فلم يُلزِمه إلا بدفع الجزية، مقابل حمايته وكونه في ذمة المسلمين وعهدهم، ويستدل أصحاب الفتوى الخاطئة في هذه المسألة بقول الله -تعالى-: {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 92]، وهذا أيضًا جهل فاضح، فليس في هذا أمر للعبد أن يختار الإيمان أو الكفر؛ لأن الأصل الأمر له بالإيمان، منذ أن أخذ الله عليه الميثاق، وهو في ظهر أبيه آدم، كما قال -عز وجل- {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِين}  [الأعراف:271]. والمراد من الآية التهديد لمن يكفر، فقد أمر الله نبيه ورسوله محمدًا r أن يبلغ الناس بأن الذي جاءهم به هو الحق الذي لا مراء فيه، فمن آمن به فقد نجا، ومن كفر به فقد هلك، وهذا هو معنى قوله –تعالى- في الشطر الآخر من الآية: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:92]. ونظير هذه الآية في تهديد من يكفر آية أخرى بتهديد من يلحد في آيات الله في قوله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} [فصلت:04]. فهل قوله -تعالى-: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} أمر لهم باختيار الإلحاد أو عدمه ؟ هذا لا يقول به عاقل.

ويستدل هؤلاء أيضًا بأن رسول الله r لم يقتل أحدًا من المرتدين، ومرادهم في هذا ما روي أن أعرابيًّا جاء إلى رسول الله r فبايعه على الإسلام، فجاء إليه من الغد محمومًا، فقال: أقلني، فأبى، فكررها الأعرابي ثلاث مرات، ورسول الله r يأبى عليه([27]). ولم يُقِلْهُ ولم يعاقبه. ولا يتبين أبدًا من القصة أن الرجل أراد الإقالة من الإسلام، بل أراد الإقالة من الهجرة؛ لأنها كانت آنذاك واجبة، ويدل على ذلك أن الأعرابي كان يعاني من الحمى التي كانت منتشرة في المدينة، فلم يقدر على الإقامة فيها، فطلب السماح له بالخروج منها. وعدم إقالة رسول الله r له أمر صحيح؛ لأنه لو سمح له بالخروج لجاء آخرون وطلبوا مثله، وهنا ينفض الناس من المدينة، ولهذا رغب رسول الله r في الإقامة فيها بقوله: (المدينة كالكير تنفي خبثها وتنصع طيبها)([28]).

كما يستدل هؤلاء بقصة النصراني من بني النجار الذي أسلم، وكان يكتب الوحي لرسول الله r ثم ارتد، ويقولون: إن الرسول r لم يعاقبه، وهذا استدلال خاطئ؛ لأن الرجل فر إلى قومه وقد عاقبه الله فلفظته الأرض، فمع أن أصحابه اتهموا أصحاب رسول الله r بأنهم ينبشونه إلا أنهم عمقوا له القبر ثلاث مرات، وفي كل مرة تلفظه الأرض، فألقوه على ظهرها بعد أن يئسوا منه، وفي هذا أكبر عقوبة له .

قلت: إن دين الإسلام دين حق وعدل ورحمة ودين قوة، فهو دين حق؛ لأن الله اختاره لعباده منهجًا كاملًا لحياتهم وسلوكهم في الدنيا، وعقباهم في الآخرة. وهو دين عدل لا يتفاضل فيه أحد على أحد، إلا بقدر تقواه وقربه من ربه، بتحقيق أوامره واجتناب نواهيه. وهو دين رحمة أراد الله به إنقاذ عباده من الوثنية والصنمية القائمة على الزيف والباطل، وهو في الوقت نفسه دين قوة ودولة، فمن دخله ضمن له حقوقه وكرامته الإنسانية، ومن خرج عليه مجاهرًا بردته فقد حاربه وعاداه، فاستحق بذلك جزاء فعله، وفقًا للمنطق والعقل في الفهم البشري بأن كل عامل يجزى بما عمل، ناهيك به في كل الشرائع والنظم.

المجاهرة بالردة والاستتار بها:

والذين يشككون في حكم الردة من خلال الشُّبه التي يثيرونها خطأ أو عمدًا، إنما يخالفون المسلمات والحقائق العقلية، ولم يعلموا أن حكم الردة إنما يطال المجاهرين بالخروج على الدين وعلى الأمة كلها. أما من ارتد، وكتم أمر ردته فأمره إلى الله، ومن هنا كان المنافقون في المدينة وغيرها، يفعلون في سرهم من الأفعال ما يعد كفرًا وردة، ورسول الله r  يعلم عن أحوالهم ومع ذلك لم ينلهم بسوء، بل ترك أمرهم إلى الله؛ لأن دين الإسلام قائم على التسامح وعلى الحكمة في الدعوة، وعلى احترام ظاهر الإنسان في عقيدته وعدم اتهامه بالكفر، ما لم يكن معلنًا له، وفي هذا قال رسول الله r: (من شهد ألا إلَه إلا الله، واستقبل قبلتنا، وصلى صلاتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم، له ما للمسلم، وعليه ما على المسلم)([29]). وقال -عليه الصلاة والسلام-: (إني لم أومر أن أنقب قلوب الناس ولا أشق بطونهم)([30]). وفي قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن أناسًا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله r، وأن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم([31]). وقال -عليه الصلاة والسلام-: (إذا كفر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما)([32]).

قلت: إن الذين يريدون تغيير أحكام الله بحجة «المتغيرات الزمنية»، وما يسمى «حقوق الإنسان»، يرتكبون خطيئة كبرى وإثمًا عظيمًا، وعليهم أن يعلموا أن أحكام الله لا تتغير ولا تتبدل ولا تتحول، وأن الإسلام هو خاتمة العقائد، فلا حكم إلا حكمه، ولا سعادة إلا لمن شرح الله به صدره، فأصبح به على نور من ربه.

وخلاصة المسألة: أن هناك أقوالًا عن خروج عدد من المسلمين من دينهم، ومع أن المسلمين أكثر شعوب الأرض قاطبة في التمسك بدينهم والثبات عليه، وأن عدد الخارجين عنه قليل جدًّا، إلا أن ما يحدث للمسلمين اليوم من مصاعب وفرقة واحتلال لأراضيهم، يوجب الخشية والحذر، خاصة وأن حركات التنصير تستغل هذا الواقع.

إن الحديث عن الردة يتنازعه طرفان متعارضان:

طرف يحتكم إلى النصوص الشرعية في الكتاب والسنة.

وطرف يحاول تخطي هذه الأحكام إما جهلًا أو عمداً.

والأصل أن من ارتد عن دين الإسلام مجاهرًا بردته يعد ساقط العصمة، ومن ذلك إنكار وحدانية الله، وخلقه للخلق، أو إنكار نبوة الرسل ورسالتهم، وآخرهم محمد r، أو تحليل ما أجمع المسلمون على تحريمه، أو تحريم ما أجمعوا على حله، أو سب الدين، أو إنكار القرآن أو الطعن فيه، ونحو ذلك مما هو معلوم من الدين بالضرورة، وهذا هو ما انعقد عليه الإجماع منذ الصدر الأول من الإسلام، واتبعه جمهور العلماء في مختلف الأزمنة لا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة، خلافًا لمذهب الإمام أبي حنيفة الذي يرى أن العصمة تسقط في حال الرجل فحسب، أما المرأة فيكتفى بحبسها، كما أن جمهور العلماء على أن المرتد يستتاب ثلاثة أيام قبل إسقاط عصمته.

إن الردة ليست مجرد فعل مناطه ضمير صاحبها، كما زعم خطأ من أفتى بهذا، وإنما هي مجموعة من المفاسد تترتب عليها آثار وأخطار، تمس كيان الأمة في دينها وسياستها واقتصادها واجتماعها، وإن الذين يثيرون الشُّبه حول حد الردة ليس لديهم دليل أو حجة، وإنما يتبعون ما أثاره المستشرقون، ومن تأثر من المسلمين بهم، واستدلالهم ببعض الآيات، مثل قول الله -تعالى-: {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 92]، واستدلالهم كذلك ببعض الوقائع التي حدثت في عهد رسول الله r  يدل على جهل فاضح بتفسير الآية، وبما حدث في عهد رسول الله r، وقد تم تفنيد هذا الاستدلال في صلب البحث.

إن دين الإسلام دين حق ودين عدل ودين رحمة، وهو في الوقت نفسه دين قوة ودولة، فمن دخله ضمن له حقوقه وكرامته الإنسانية، ومن خرج عليه مجاهرًا بردته فقد حاربه وعاداه، فاستحق بذلك جزاء فعله، وهو إسقاط عصمته. كما أن دين الإسلام قائم على التسامح، وعلى الحكمة في الدعوة، وعلى احترام ظاهر الإنسان في عقيدته، وعدم اتهامه بالكفر، ما لم يكن قد جاهر به منشرحًا به صدره، وأن الذين يريدون تغيير أحكام الله بحجة (المتغيرات الزمنية)، وما يسمى (حقوق الإنسان)، يرتكبون خطيئة كبرى وإثمًا عظيمًا، وعليهم أن يعلموا أن أحكام الله لا تتبدل ولا تتغير ولا تتحول، وأن الإسلام هو خاتمة الأديان، فلا حكم إلا حكمه، ولا سعادة إلا لمن شرح الله به صدره.

 

([1]) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، باب لا يعذّب بعذاب الله، برقم )3017(، صحيح البخاري مع فتح الباري ج6  ص 173.

([2]) أخرجه البخاري في كتاب الديات، باب قول الله تعالى: (إن النفس بالنفس والعين بالعين..)، برقم (6878)، صحيح البخاري مع فتح الباري، ج12 ص 209.

([3]) أخرجه البخاري في كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم، برقم(6923 )، صحيح البخاري مع فتح الباري ج12 ص 280.

([4]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، للكاساني ج7 ص134-135، واللباب في شرح الكتاب، للغنيمي ج3 ص148-150، وحديث: «لا تقتلوا امرأة ولا وليدًا»: أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط ٤‏/٢٦٨، وقال العيني في نخب الأفكار ١٢‏/٢١٩: طريقه صحيح.

([5]) انظر: أسهل المدارك شرح إرشاد السالك، ج3 ص160، والمجموع شرح المهذب، ج19ص 225.

([6])الحديث عن عائشة أم المؤمنين: أنّ النبيَّ ﷺ بلغه أنّ امرأةً من بني فَزارةَ يُقالُ لها: أمُّ قِرفةَ جهَّزت ثلاثين راكبًا من ولدِها وولدِ ولدِها، فقالت: اقدُموا المدينةَ فاقتلوا محمدًا ﷺ، فقال: اللهمَّ أثكِلْها ولدَها، وبعث إليهم زيدَ بنَ حارثةَ، فقتل بني فزارةَ، وقتل ولدَ أمِّ قِرفةَ، وبعث بدرعِها إلى رسولِ اللهِ ﷺ فنصَبه بينَ رُمحَينِ، وأقبل زيدٌ، قالت عائشةُ: ورسولُ اللهِ ﷺ تلك الليلةَ في بيتي فقرع البابَ فخرج إليه يجرُّ ثوبًا عريانًا، والذي بعثه بالحقِّ ما رأيتُ عُريتَه قبلَ ذلك ولا بعدَها حتى اعتنقَه وقبَّله. قال الذهبي في  ميزان الاعتدال ٤‏/٤٠٦: منكر، وقال شعيب الأرنؤوط في تخريج سير أعلام النبلاء ١‏/٢٢٦: إسناده ضعيف..

([7]) أخرجه الدارقطني في الحدود والديات، ج3 ص118، والبيهقي في السنن الكبرى، ج8 ص203، في كتاب المرتد، باب قتل من ارتد عن الإسلام.

([8]) المغني ج10 ص574،  578.

([9]) المغني ج10 ص574، . 578، وحديث “من بدل دينه… ” سبق تخريجه.

([10])     أسهل المدارك شرح إرشاد السالك، للكشناوي ج3 ص160-161، وبداية المجتهد ونهاية المقتصد، لابن رشد الحفيد ج1 ص 243 – 244.

([11])     مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، للشربيني الخطيب ج4 ص 133 – 134، والمجموع شرح المهذب، للنووي ج 19 ص 122 – 332.

([12])     الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، للمرداوي ج10 ص 326 – 349، والكافي، لابن قدامة ج5 ص 713 – 923.

([13])     أخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الأقضية، باب القضاء في من ارتد عن الإسلام، الموطأ ص 523، وقال الألباني في التعليقات الرضية 3/ ٣٤٢:  إسناده حسن.

([14])     المجموع شرح المهذب ج19 ص 226.

([15])     الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف ج10 ص 329.

([16])     بداية المجتهد ونهاية المقتصد ج2 ص 343.

([17])     الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف ج10 ص 328.

([18])     المجموع شرح المهذب ج19 ص 226.

([19])     أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب قوله تعالى: (لا تبديل لخلق الله)، برقم(4775)، صحيح البخاري مع فتح الباري ج8 ص 273.

([20]) الموطأ ص 736.

([21])     فتاوى الأزهر ودار الإفتاء، الموضوع رقم (195)، شبهات حول الردة.

([22])     الرسالة للإمام الشافعي ص401  وما بعدها.

([23]) الإحسان في ترتيب صحيح ابن حبان ج1 ص 87.

([24])     ينظر: الحديث في: صحيح مسلم في كتاب اللباس والزينة باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنصمة، والمتفلجات والمغيرات خلق الله برقم (2125).

([25]) عن جابر بن عبد الله: جاءَ أعْرابِيٌّ النبيَّ ﷺ، فَبايَعَهُ على الإسْلامِ، فَجاءَ مِنَ الغَدِ مَحْمُومًا فَقالَ: أقِلْنِي، فأبى ثَلاثَ مِرارٍ، فَقالَ: المَدِينَةُ كالكِيرِ تَنْفِي خَبَثَها ويَنْصَعُ طَيِّبُها.. أخرجه البخاري في صحيحه برقم (١٨٨٣)، واللفظ له، ومسلم في صحيحه برقم (١٣٨٣).

([26]) عن أنس بن مالك: كانَ رَجُلٌ نَصْرانِيًّا فأسْلَمَ، وقَرَأَ البَقَرَةَ وآلَ عِمْرانَ، فَكانَ يَكْتُبُ للنبيِّ ﷺ، فَعادَ نَصْرانِيًّا، فَكانَ يقولُ: ما يَدْرِي مُحَمَّدٌ إلّا ما كَتَبْتُ له فأماتَهُ اللهُ فَدَفَنُوهُ، فأصْبَحَ وقدْ لَفَظَتْهُ الأرْضُ، فَقالوا: هذا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وأَصْحابِهِ لَمّا هَرَبَ منهمْ، نَبَشُوا عن صاحِبِنا فألْقَوْهُ، فَحَفَرُوا له فأعْمَقُوا، فأصْبَحَ وقدْ لَفَظَتْهُ الأرْضُ، فَقالوا: هذا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وأَصْحابِهِ، نَبَشُوا عن صاحِبِنا لَمّا هَرَبَ منهمْ فألْقَوْهُ، فَحَفَرُوا له وأَعْمَقُوا له في الأرْضِ ما اسْتَطاعُوا، فأصْبَحَ وقدْ لَفَظَتْهُ الأرْضُ، فَعَلِمُوا: أنّه ليسَ مِنَ النّاسِ، فألْقَوْهُ.. أخرجه البخاري في صحيحه برقم (3617)..

([27])أخرجه البخاري في كتاب الأحكام، باب بيعة الأعراب، برقم (7209)، صحيح البخاري مع فتح الباري ج13 ص212.

([28])أخرجه البخاري في كتاب الأحكام، باب بيعة الأعراب، برقم (7209)، صحيح البخاري مع فتح الباري ج13  ص212 .

([29])     أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب فضل استقبال القبلة، برقم)393 (، صحيح البخاري مع فتح الباري ج1 ص593 .

([30]) أخرجه البخاري من حديث طويل في كتاب المغازي، باب بعث علي بن أبي طالب عليه السلام وخالد بن الوليد إلى اليمن قبل حجة الوداع، فتح الباري بشرح صحيح البخاري ج7 ص666-665.

([31]) أخرجه البخاري في صحيحه برقم (2641)، فتح الباري ج7 ص298.

([32]) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان حال إيمان من قال لأخيه المسلم: يا كافر، برقم (60)، صحيح مسلم بشرح النووي ج1 ص668 .