الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا ورسولنا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فلعل مراد الأخ السائل الفرق بين تحديد النسل وقطعه.
والجواب: أن الإسلام من جميع الوجوه يندب إلى تكثير النسل؛ لما فيه من القوة والمنعة، والشاهد فيه دعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأمته في تكثير النسل بقوله: (تزوجوا الودود والولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة)([1]).
ودعا -عليه الصلاة والسلام- إلى الزواج بحسبه الوسيلة للنسل، ومن ذلك اختيار الزوجة، والبعد عن الأمراض. واهتمام الإسلام بتكثير النسل لا يمنع من تنظيمه أو تحديده، وذلك باتباع الوسائل والطرق التي تؤدي إلى هذا التحديد، وذلك بمنع الحمل مدة معينة؛ بناء على عدة أسباب منها: مرض الزوجة، وضعف تحملها للحمل، ومنها عدم قدرة الزوج على النفقة، وقد رأى بعض العلماء أن التحديد في هذه الأحوال ونحوها ليس مباحًا فحسب، بل إنه مما يندب إليه، واستدلوا بما ورد في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قوله: (كنا نعزل على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والقرآن ينزل، فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم ينهنا)([2]).
وذهب إلى الإباحة الإمام مالك والشافعي؛ استدلالًا بأن الصحابة رخصوا في هذا التحديد، فلم يروا به بأسًا، ومنهم سعد بن أبي وقاص وزيد بن ثابت وأبو أيوب الأنصاري وابن عباس -رضوان الله عليهم-. وحول ما إذا كان هذا التحديد يعد وأدًا للحمل (النطفة)، قال البيهقي إن… وغيرهم وأنهم لا يرون ذلك وأدًا، وهو كذلك مذهب الإمام مالك والشافعي، وقيل إن النطفة لا تكون موءدة إلا إذا مرت عليها سبع الحالات، وقال أبو يعلى بإسناد عن أبيه: إن نفرًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيهم علي وعمر وعثمان والزبير وطلحة وسعد تذكروا الموءدة فاختلفوا، فقال عمر: إنكم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تختلفون في هذا فكيف بمن بعدكم، فقال علي: إنها لا تكون موءودة حتى يأتي عليها الحالات السبع، فقال له عمر: صدقت -أطال الله بقاءك- قال ابن لهيعة: إنها لا تكون موءودة حتى تكون نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظمًا، ثم لحمًا، ثم تظهر ثم تستهل، فحينئذ إذا دفنت فقد وئدت؛ لأن من الناس من قال: إن المرأة إذا أحست بحمل فتداوت حتى تسقطه فقد وأدته، ومنهم من قال: العزل الموءدوة الصغرى، فأخبر علي -رضي الله عنه- أن ذلك لا يكون موءدة إلا بعدما وصف، وقد قيل في قول الله -عز وجل- (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْۖ ) (البقرة:223)، إن شئت فاعزل وإن شئت فلا تعزلن، قاله جماعة من العلماء([3]).
فالحاصل: أنه يجوز تحديد النسل إذا دعت الحاجة إليه. أما قطع النسل فهذا لا يجوز، فإن كان خشية الفقر فهذا محرم؛ لأنه كان من عمل الجاهلية، فقد حرمه الله بقوله -عز ذكره-: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ۚ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا) (الإسراء:31).
وعلى العبد أن يؤمن بأن الله ما يخلق خلقًا إلا له حكمة، وقد تكفل برزق المخلوق في قوله -تقدس اسمه-: (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ۚ كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) (هود:6). أما إن كان قطع النسل لمجرد القطع فهذا عبث، وينافي حكمة الله في خلقه، ولو أخذ بهذا الفعل لانتهى وجود الإنسان في الأرض، وهذا مصادم لإرادة الله في الخلق والحكمة منه.
فالحاصل جوابًا لسؤال الأخ أن تحديد النسل مباح إذا دعت الحاجة إليه، وهو محرم إذا كان لمجرد القطع.
والله -تعالى- أعلم.
[1] -أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم: (13594)، وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود:” حسن صحيح” رقمه (2050)..
[2] – أخرجه مسلم برقم: (1440).
[3] – التمهيد لابن عبد البر ج3ص149.