السباب لغةً: الشتم([1])، فمن سب غيره فقد شتمه، ونال من عرضه، ومن المعلوم حرمة أعراض المسلمين، فكل ما يشين الإنسان، ويحط من كرامته وقدره، ويصغره في نفسه أو عند غيره، فهو سباب، وقد يكون سب الرجل للآخر في حضرته، وقد يكون سبابه له في غيبته، فكل منهما محرم بإجماع الأمة([2]).
ولا يفعل السباب إلا من ساء خلقه، وقل فهمه، وانحط طبعه، والأصل في تحريم السباب أدلة كثيرة، منها: قول الله-تعالى-: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108]، والعلة في هذا أن السباب في ذاته محرم؛ لأنه ينافي الخلق القويم، كما أنه وسيلة تفضي إلى فعل آخر محرم، فمن يسب من يدعو من دون الله يدفعه إلى أن يسب الله، أو يسب دينه الحق، ومن يسب آخر قد يدفعه إلى ارتكاب ما هو أكبر من السباب كالضرب أو القتل. ومن الأدلة أيضًا قوله -تعالى-: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا}[الأحزاب:58]، ومن هذه الأدلة قول رسول الله -ﷺ- : «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر»([3])، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: «لا يرمي رجل رجلًا بالفسوق، ولا يرميه بالكفر، إلا ارتدت عليه، إن لم يكن صاحبه كذلك»([4])، وقوله -ﷺ- : «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده.. الحديث»([5]). وقوله -ﷺ- : «من أحب أن يزحزح عن النار، ويدخل الجنة، فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه»([6])، وقوله -ﷺ- : «كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه»([7]). ولما قيل له -ﷺ- : إن فلانة تقوم الليل، وتصوم النهار، وتفعل وتصدق، وتؤذي جيرانها بلسانها. قال: «لا خير فيها، هي من أهل النار»([8]).
والأحاديث في تحريم السباب كثيرة، ولا خلاف في تحريم السباب، وما يجب فيه من الجزاء، ومن الفقهاء من فرق في الجزاء تبعًا لمحل السباب وآثاره، فقد تكون هذه الآثار، أعظم لبعض الناس دون غيرهم، مما يقتضي اختلاف الجزاء.
ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: إن كان المسبوب من الأشراف كالفقهاء والعلوية فيعزر الفاعل؛ لأن الوحشة تلحقهم بذلك، أما إن كان من العامة فلا يعزر([9]).
وفي مذهب الإمام مالك: من آذى مسلمًا بلسانه يضر به، ويقصد به أذاه، فعليه الأدب البالغ الرادع له ولمثله، وذلك على قدر القائل وسفاهته، وعلى قدر المقول فيه([10]).
وفي مذهب الإمام أحمد: يجب تعزير من شتم غيره، وذلك بالجلد عشر جلدات؛ لحديث أبي بردة أن رسول الله -ﷺ- قال: «لا يجلد فوق عشرة جلدات إلا في حد من حدود الله»([11])، أما القذف وما في حكمه، فيحد صاحبه([12]).
قلت: لا مراء في أن آثار السباب تختلف حسب المسبوب، فمن يسب صحابة رسول الله -ﷺ- يختلف حكمه في الجزاء عمن يسب أحد العامة؛ ذلك أن الصحابة -رضوان الله عليهم- خلفاء رسول الله -ﷺ- ، استنوا بسنته، واتبعوا هديه، ونقلوا أحاديثه، ودافعوا عنه، وحافظوا على ما أوحى الله به إليه، ولهذا أمرنا -عليه الصلاة والسلام- باتباع سنتهم، بقوله: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ»([13]).
ومن يسب علماء الأمة وفقهاءها ومؤمنيها وصالحيها يختلف حكمه في الجزاء عمن يسب أحد العامة، فالعلماء ورثة الأنبياء، وفي ذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «يجب على المسلمين بعد موالاة الله -تعالى- ورسوله -ﷺ- موالاة المؤمنين، كما نطق به القرآن، خصوصًا العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم، يهتدى بهم في ظلمات البر والبحر. وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم؛ إذ كل أمة قبل مبعث نبينا محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- علماؤها شرارها إلا المسلمين، فإن علماءهم خيارهم، فإنهم خلفاء رسول الله -ﷺ- في أمته، والمحيون لما مات من سنته، بهم قام الكتاب، وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب، وبه نطقوا»([14]).
قلت: ولا يعني اختلاف جزاء السباب حسب محله اقتصار هذا الجزاء على من يتعرض لطائفة من الأمة كالعلماء، ونفيه عمن يتعرض لغيرهم من العامة، كما ورد في مذهب الإمام أبي حنيفة، وإنما الخلاف حول مقدار هذا الجزاء.
أما السباب فمحرم في عمومه، سواء كان المراد به العلماء أو أحد العامة؛ لأن رسول الله -ﷺ- أراد المسلم في عمومه بقوله في الحديث السابق: «سباب المسلم فسوق»، فاقتضى هذا أن كل من يتعرض للمسلم بالسب يعد فاسقًا ويعزر، وينبغي التنبيه إلى أن المراد بهذا من يعتدي على غيره بالسباب وفواحش القول ابتداءً دون حق، أما من يتعرض لظلم من غيره فله الحق في دفع هذا الظلم عنه بحسبه، وبما لا يتجاوز حقه في دفعه عنه، والأصل في ذلك قول الله -تعالى-: {لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ} [النساء:148].
وخلاصة المسألة: أن السباب كل ما يشين الإنسان، ويحط من كرامته وقدره، ويصغره في نفسه أو عند غيره، وقد دل الكتاب والسنة على تحريمه، ويعاقب صاحبه حسب طبيعة فعله ومن أراد سبابه.
والمراد بتحريم السباب من يعتدي على غيره دون حق، أما من يتعرض لظلم من غيره، فله الحق في دفع هذا الظلم عنه بحسبه، وبما لا يتجاوز حقه في دفعه.
والله -تعالى- أعلم.
([2]) شرح النووي على صحيح مسلم ج2 ص ٥٤.
([3]) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب ما يُنهى عن السباب واللعان، فتح الباري ج10 ص479، برقم (٤٤٠٦).
([4]) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب ما ينهى عن السباب واللعان، فتح الباري ج10 ص479، برقم (٦٠٤٥).
([5]) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»، فتح الباري ج1 ص69، برقم (٠١).
([6]) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأل، صحيح مسلم بشرح النووي ج8 ص5137، برقم (١٨٤٤).
([7]) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله، صحيح مسلم بشرح النووي ج10 ص6573، برقم (٤٦٥٢).
([8]) أخرجه أحمد (٩٦٧٥)، سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني ج1 ص369، برقم (١٩٠) .
([9]) البناية شرح الهداية لبدرالدين العيني ج6 ص392، وتنظر: الفتاوى الهندية للشيخ نظام ج2 ص186، وحاشية الطحطاوي على الدر المختار ج2 ص414 .
([10]) أسهل المدارك للكشناوي ج3 ص192، وينظر: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج4 309..
([11]) أخرجه البخاري في كتاب الحدود، باب كم التعزير والأدب؟، فتح الباري ج12 ص 182، برقم (٦٨٤٨) .
([12]) المغني لابن قدامة ج2 ص523، وشرح منتهى الإرادات للبهوتي ج3 ص٣٦١ .
([13]) أخرجه ابن ماجة في المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، سنن ابن ماجة، ج1 ص ١٥-16، برقم (٢٤)، صححه الألباني في صحيح ابن ماجه (٤٠).
([14]) رفع الملام عن الأئمة الأعلام لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص9-10 ..