العسل منتج من النحل أحله الله لعباده، وأثنى عليه في قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُون * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون}[النحل:68-69]. والوحي هنا بمعنى الإلهام، وفيه أمر للنحل أن يتخذ بيوته في الجبال، وفي الشجر، وفي كل مكان فيه تعريش له. وقد ذكر -عز وجل- أن ما يخرج من بطون النحل فيه شفاء للناس، أي من كثير من الأمراض التي تصيبهم، وقد دلت الأبحاث الطبية المعاصرة على أن للعسل فوائد حتى إنهم في الصين جعلوا مستشفى لا يداوى فيه إلا بالعسل، وما يفرزه النحل من منتجات أخرى.
هذا في عموم فوائد العسل، أما زكاته فقد تباينت فيها آراء الفقهاء بين موجب، وغير موجب لها.
ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: أن في العسل زكاة، واختلف في نصابه، فعند الإمام يجب العشر في قليله وكثيره إذا كان في أرض العشر أي ألا يكون النحل في أرض الخراج؛ لأنه يدفع عنها الخراج، فلا يتكرر الحق في مال واحد. وقال أبو يوسف: ليس فيما دون خمسة أوسق من العسل العشر، أي يجب أن تبلغ قيمة العسل قيمة خمسة أوسق([1]).
واستدل القائلون بوجوب الزكاة في العسل بعدة آثار، منها: حديث سعد بن أبي ذياب قال: قدمت على رسول الله ﷺ فأسلمت، ثم قلت يا رسول الله اجعل لقومي ما أسلموا عليه من أموالهم ففعل رسول الله ﷺ واستعملني عليهم، ثم استعملني أبو بكر -رضي الله عنه- قال: وكان سعد من أهل السراة قال: فكلمت قومي في العسل، فقلت لهم: زكوه فإنه لا خير في ثمرة لا تزكى، فقالوا: كم؟ قال: فقلت العشر، فأخذت منهم العشر، فأتيت عمر بن الخطاب، فأخبرته بما كان، فقبضه عمر فباعه، ثم جعل ثمنه في صدقات المسلمين([2]).
ومنها: أن هلال أحد بني متعان جاء إلى رسول الله ﷺ بعشور نحل له، وكان سأله أن يحمي له واديًا يقال له (سلبة) فَحَمَى له رسول الله ﷺ ذلك الوادي فلما وُلِّيَ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كتب إليه سفيان بن وهب يسأله عن ذلك، فكتب إليه عمر: إن أدى إليك ما كان يؤدي إلى رسول الله ﷺ من عشور نحله فَاحْمِ له سلبَهُ، وإلا فإنما هو ذباب غيث يأكله من يشاء([3]). ومن هذه الآثار: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كتب رسول الله ﷺ إلى أهل اليمن أن يؤخذ من العسل العشر([4]).
وفي مذهب الإمام مالك: ليس في العسول زكاة؛ لأنها لا تدخر مثلها مثل الفواكه والتوابل([5]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: اختلف في زكاة العسل، ففي (القديم) قيل بوجوب الزكاة، استدلالًا بما روي أن بني شبابة من )فهم( كانوا يؤدون إلى رسول الله ﷺ العشر من نحل كان عندهم من كل عشر قرب قربة. أما في قول الإمام (الجديد) فلا تجب في العسل زكاة؛ لأنه ليس بقوت مثله مثل البيض([6]). وقال بمثل ذلك ابن أبي ليلى والحسن بن صالح، وابن المنذر، واستدل من قال بعدم الوجوب بأنه لم يثبت فيه خبر أو إجماع، إضافة إلى أنه مائع خارج من الحيوان فهو شبيه باللبن، وهذا لا زكاة فيه([7]).
وفي مذهب الإمام أحمد: تجب الزكاة في العسل بمقدار العشر وفي المغني قال الأثرم: سئل أبو عبدالله – المراد به الإمام أحمد – أنت تذهب إلى أن في العسل زكاة؟ قال: نعم. أذهب إلى أن في العسل: زكاة العشر، قد أخذ عمر منهم الزكاة، قلت: ذلك على أنهم تطوعوا به؟ قال: لا بل أخذه منهم، ويروى ذلك عن عمر بن عبدالعزيز، ومكحول، والزهري، وسليمان بن موسى، والأوزاعي، وإسحاق([8]).
قلت: ولعل الراجح وجوب الزكاة فيه فإذا كانت الآثار المشار إليها – وبعضها يقوي بعضًا – تدل على هذا الوجوب؛ لكون العسل تقتضي ماليته إخراج زكاته، فإن هذه المالية أكثر وضوحًا في هذا الزمان، فلم يعد إنتاج العسل محدودًا، بل أصبح له شركات كبرى تقوم على تربية النحل، واستخراج آلاف الأطنان من العسل، وهذه تقدر بملايين الدراهم، وإخراج الزكاة من المال مما أوجبته الشريعة؛ عملًا بقول الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ} [البقرة:267]. وقوله – عز ذكره -: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} [التوبة:103].
أما مقدار زكاته: فهو العشر؛ لما رواه عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله ﷺ كان يؤخذ في زمانه من قرب العسل من كل عشر قرب قربة من أوسطها([9]). وما رواه أيضًا عبدالله بن عمر أن رسول الله قال (في العسل في كل عشر قِرب قِربة)([10]). والقربة: مائة رطل.
قلت: والصواب أن يكون فيه العشر بعد حسم تكاليف استخراجه.
وخلاصة المسألة: وجوب الزكاة في العسل بمقدار العشر؛ للآثار الدالة على هذا الوجوب؛ ولكونه مال يدخل في حكم الأموال التي تجب فيها الزكاة.
([1]) كتاب المبسوط؛ لشمس الدين السرخسي ج3 ص15، وكتاب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع؛ للكاساني ج2 ص61، والروضة الندية شرح الدرر البهية؛ لصديق القنوجي البخاري ج1 ص296، وفقه الزكاة للشيخ يوسف القرضاوي ج1 ص421.
([2]) أخرجه الشافعي في الأم ج1 ص38-39، وحسنه العيني في عمدة القاري ج9 ص71.
([3]) قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري «إسناده صحيح»، فتح الباري ج3 ص223.
([4]) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب زكاة العسل، برقم (1600)، ج2 ص25، قال شعيب الأرنؤوط في تخريج المسند لشعيب، (٢٩/٦١١): لا يخلو إسناده من مقال. والسلب: جماعة النحل التي تأوي إلى منحلة واحدة، كما تطلق على المنحلة نفسها، لأنها تصنع من السلب، وهو نوع من الخوص، وهو خوص التمام أي نوع من القصب.
([5]) الذخيرة في فروع المالكية للقرافي ج2 ص441.
([6]) المجموع شرح المهذب؛ للإمام النووي ج5 ص452، وروضة الطالبين للإمام النووي ج2 ص232.
([9]) رواه أبو عبيد في الأموال، ص497، وأبو داود في كتاب الزكاة، باب زكاة العسل، سنن أبي داود ج1 ص371، صححه الألباني في إرواء الغليل، (٨١٠).
([10]) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب زكاة العسل، سنن أبي داود ج1 ص371، وأخرجه ابن ماجة في كتاب الزكاة، باب زكاة العسل، سنن ابن ماجة ج1 ص584، وأخرجه أبو عبيد في كتاب الأموال ص497، صححه الألباني في إرواء الغليل، (٨١٠).