والجواب: تحريم الربا، وتعظيم هذا التحريم معلوم من الدين بالضرورة، والأحكام في هذا التحريم كثيرة:
والأصل فيها الكتاب، والسنة، والإجماع، والمعقول:
أما الكتاب: فقول الله -تعالى-: {وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، وقوله -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 278-279].
وفي هذه الآية قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: “إنها آخر آية نزلت على رسول الله -ﷺ-“([1]).
وأما السنة: ففي حديث سمرة بن جندب في منام رأه النبي -ﷺ-أن آكل الربا يعذب من حين يموت إلى يوم القيامة بالسباحة في النهر الأحمر الذي هو مثل الدم، ويلقم الحجارة، وهو المال
الحرام الذي جمعه في الدنيا، يكلف المشقة فيه، ويلقم حجارة من نار، كما ابتلع الحرام الذي جمعه في الدنيا، هذا العذاب له في البرزخ قبل يوم القيامة مع لعنة الله([2])، وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-أن النبي -ﷺ-قال: (اجتنبوا السبع الموبقات)، ومنها: أكل الربا([3])، وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-أن رسول الله -ﷺ-قال: (أربعة حق على الله ألا يدخلهم الجنة، ولا يذيقهم نعيمها)، وذكر منهم: آكل الربا([4]).
ولا فرق في التحريم بين آكل الربا وموكله ومن يساعد فيه؛ لقول رسول الله -ﷺ-: (لعن الله آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه)، وقال: (هم سواء)([5]).
وأما الإجماع: فإن الأمة في سلفها وخلفها مجمعة على تحريم الربا، ولا يماري أو يجادل في هذا التحريم إلا من خرج عن إجماعها، وزاغ عن شريعتها.
وأما المعقول: فإن الربا في أصله وفلسفته يقوم على استغلال الأقوياء الضعفاء، وتقييدهم بالديون، فيبقون طول حياتهم مستعبدين بسببها، وقد دلت الوقائع المشهودة والمحسوسة على هذا، فإن كانت هذه الديون على مستوى الأفراد ففي دولة واحدة خمسة ملايين استرقهم دائنوهم؛ لعجزهم عن الوفاء بديونهم، وهذا على سبيل المثال لا الحصر، وإن كانت الديون على مستوى الدول فهناك دول كثيرة أصبحت أسيرة ديونها، ولم تستطع رغم كثرة سكانها، ووفرة مصادرها الطبيعية أن تتخلص من هذه الديون بسبب تراكم (الفوائد) السنوية عليها؛ مما أثر بشكل كبير في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية فيها، فاقتضى هذا أن العقل ينافي كل ما يؤدي بالإنسان إلى المخاطر.
هذا من حيث العـمـوم والإطلاق في المسألة، أما من حيث الخصوص فيهـا-وهو سؤال الأخ السائل-فالقول فيه من وجهين:
الوجه الأول: كون الحاجة التي يقصدها السائل ضرورة في ذاتها، إن كانت الحاجـة إلى حفظ النفس بـالطـعـام أو الشـراب، بحيث إن المحتاج لا يستطيع هذا الحفظ إلا بالقرض بزيادة ربوية، فحينئذ يجوز له ذلك؛ لأن هذه ضـرورة، بصرف النظر عن مسماها في السؤال، وحفظ النفس من الضرورات الشرعية، فيكون المقترض في حال اضطرار، وقد أباح الله للـمـضـطـر أن يتجاوز الحكم بالتحريم؛ لدرء ضرر أكبر، هو هلاك النفس، وهـذه الإباحة بينة في كتاب الله في قوله -عز وجل-: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيم} [المائدة: 3]، وقوله -عز من قائل-: {قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إلى مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيم} [الأنعام: 145]، والضرورة هنا هي ما يلجأ إلى إباحة ما منعه الشرع، وهو عذر مؤقت يزول بزوال سببه، وعندما قال الفقهاء في القاعدة الشهيرة: (الضـرورات تبيح المحظورات)، قالوا: إن الضرورة لا تبيح كل محظور، بل يجب أن يكون هذا المحظور دون الضرورة في أثره، فإن كان هذا الأثر أكثر من الضرورة لم يعد مباحًا؛ فالمكرَهُ على فعل القتل لا يباح له القتل؛ لأن الضرورة هنا، وهي هذا الإكراه مساوية للمحظور، وهو القتل([6]).
والضرورة في كل الأحوال تقدر بقدرها، فمن يضطر لدفع الهلاك عن نفسه يبقى اضطراره مقيدًا بهذا، وهـو الطعام أو الشراب أو نحو ذلك مما يحفظ النفس من الهلاك، ولا يتعدى إلى شراء السيارة مثلًا؛ إذ لا ضرورة لها في حفظ النفس.
الوجه الثاني: كون المقصود من الحاجة التيسير: وهذه مما يفتقر إليها لرفع الضيق الذي يؤدي إلى المشقة، فإذا لم تراعَ دخل على المكلفين على الجملة الحرج والمشقة، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة([7]).
وقيل: “إن ما يجوز للحاجة إنما يجوز فيما ورد فيه نص يجوزه، أو كان فيه تعامل، أو لم يرد فيه شيء منهما، ولكنه لم يرد نص يمنعه بخصوصه، وكان له نظير في الشرع يمكن إلحاقه به، وجعل ما ورد في نظيره واردًا فيه، ومن ذلك: بيع الوفاء”([8])، ومقتضى هذا البيع عدم جوازه؛ لأنه إما صفقة مشروطة في صفقة، كقول البائع للمشتري: بعت هذا منك بشرط أن تبيعه مني إذا أتيتك بالثمن، أو لأنه نوع من الربا؛ لكونه انتفاعا بالعين بمقابلة الدين، وكلا الأمرين غير جائز.
وقيل: إن السبب في تجويز هذا البيع في المذهب الحنفي: أن الحاجـة دعت إليه تاريخيا بسبب كثرة الديون على أهل بخاری، فكان تجويزه على أساس أنه رهن أبيح بمنافعه([9])، ويقول الشيخ أحمد الزرقا -رحمه الله-: “أما ما لم يرد فيه نص يسوغه، ولا تعاملت عليه الأمة، ولم يكن له نظير في الشرع يمكن إلحاقه به، وليس فيه مصلحة عملية ظاهرة، فإن الذي يظهر عندئذ عدم جوازه، جريًا على ظواهر الشرع؛ لأن ما يتصور فيه أنه حاجة والحالة هذه، يكون غير منطبق على مقاصد الشرع، وأشار إلى ما ذكره ابن الهمام بأن نفي المدرك الشرعي يكفي لنفي الحكم الشرعي»([10]).
فعلی هذا، ومع أنه لم يتبين من سؤال الأخ السائل معنى الحاجة التي نزلت به، فإن الحاجة خلاف الطعام أو الشراب أو ما في حكمهما؛ لدرء الهلاك عن النفس، لا تبرر الاقتراض بالربا؛ لأنها حاجة فردية لا تتنزل منزلة الضرورة.
قلت: وإذا كـان الشـرع يحرم الربا، ويوجب البحث عن المال الحلال، كما في هذه الحالة وأمثالها، فإن كثيرًا من المسلمين -وخاصة الشباب منهم- يواجهون مشكلات متعددة في تهيئة أنفسهم للحياة في ظل أحوال اقتصادية صعبة لا تواجه المسلمين وحدهم، بل تواجه العالم كله، فهؤلاء الشباب يحتاجون إلى زيجات ومساكن، ونحو ذلك مما يتطلبه واقعهم، وضرورات حياتهم المعيشية، وإذا كانت الأحوال الاقتصادية وغيرها في بعض بلاد المسلمين لا توفر الهم هذه المتطلبات لأسباب متعددة فلا يكون أمامهم إلا النزوح إلى البلاد الغربية؛ للعيش فيها في ظل أحوال محاطة بالكثير من المصاعب، خاصة أن كثيرًا من تلك البلدان أصبحت تحد من مجيئهم إليها، وأيًّا كان الأمر فإن نزوح الشباب والـعـلـماء عن بلدانهم يعد خسارة اقتصادية وعلمية، لا يمكن للأمـة تعويضها، ناهيك بما فيها من المخاطر عليها، وعلى أجيالها وعقيدتها.
والذين لا يستطيعون النزوح من بلادهم لأسباب معينة يبقون في حيرة من أمرهم، لا بد أن ينتج منها مشكلات داخلية كثيرة، وقد لا يلوم الشـاب نفسه، وقد لا يلومه غيره إذا كان يبحث عن وسيلة تساعده في حياته، كحال من يتجوز في مسألة القروض الربوية ونحوها رغم معرفته بالتجاوز على الحكم الشرعي.
وحتى تتجاوز الأمة هذه المصاعب في أوجهها المختلفة لا بد أن تتغلب على نظمها الاقتصادية، فالربا حرام مهما حاول المحاولون إيجاد المخارج والعلل له، وليس من سبيل ومخرج لمعضلة المحتاجين من الشباب وغيرهم إلا بإيجاد مصارف تقوم في هياكلها وأسسها وإجراءاتها على الشريعة الإسلامية؛ حتى تؤمن لهؤلاء السبل الكريمة للبحث عن المال الحلال، والحد من نزوحهم خارجها، صحيح أن هناك مصارف نشأت في المملكة العربية السعودية والكويت ودول قليلة أخرى، إلا أن الحاجة لا تزال في أوجهـا وشدتها، ولا سبيل إلى تلافي الأخطار الاقتصادية والاجتماعية القادمة إلا بتعاون المؤسسات المالية والبحثية الفقهية مع الحكومات على إنشاء مصارف ومـؤسـسـات مـاليـة تـقـوم على شرع الله، وتؤمن للمحتاجين من الشباب وغيرهم القروض الحلال.
وخلاصة المسألة: أن تحريم الربا، وتعظيم هذا التحريم معلوم من الدين بالضرورة، والأصل في هذا التحريم الكتاب، والسنة، والإجماع، والمعقول، هذا من حيث العموم والإطلاق في المسألة، أما من حيث الخصوص فيها-وهو مدار سؤال الأخ السائل-فالقول فيه من وجهين:
الوجه الأول: كون الحاجة التي يـقـصـدهـا الأخ السائل ضرورة في ذاتها، فإن كانت هذه الحاجة إلى حفظ النفس بالطعام أو الشراب، بحيث إن المحتاج لا يستطيع هذا الحفظ إلا بالقرض بفائدة، فحينئذ يجوز له ذلك؛ لأن هذا ضرورة، وحفظ النفس من الضرورات الشرعية، وقد أباح الله للمضطر أن يتجاوز الحكم بالتحريم؛ لدرء ضرر أكبر هو هلاك النفس.
الوجه الثاني: كون المقصود من الحاجة التيسيرَ، ومع أنه لم يتبين من السؤال معنى الحاجة التي نزلت بالأخ السائل، فإن الحاجة خلاف الطعام أو الشراب لدرء الهلاك عن النفس لا تبرر الاقتراض بالربا؛ لأنها حاجة فردية، لا تتنزل منزلة الضرورة.
وإذا كان الشرع يحرم الربا، ويوجب البحث عن المال الحلال، فإن كثيرًا من المسلمين-وخاصة الشباب منهم-يواجهون مشكلات متعددة في تهيئة أنفسهم للحياة، ويحتاجون إلى زيجات ومساكن، ونحو ذلك مما تتطلبه ضرورات حياتهم، ولا سبيل إلى تلافي الأخطار الاقتصادية، الاجتماعية التي سوف تنتج من هذه المشكلات إلا بتعاون المؤسسات المالية والبحثية الفقهية مع الحكومات على إنشاء مصارف ومؤسسات مالية تقوم على شرع الله، وتؤمن للمحتاجين من الشباب وغيرهم القروض الحلال.
والله -تعالى-أعلم.
([1]) ذكره البخاري في كتاب البيوع، باب موكل الربا، فتح الباري، ج 1، ص 368.
([2])أخرجه البخاري في كتاب التعبير من حديث سمرة بن جندب الطويل، باب “تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح”، فتح الباري، ج۱۲ ص ٤٥٧-٤٥٨، برقم (٧٠٤٧)، وذكره الحافظ الذهبي في كتاب الكبائر، ص ٦٣.
([3]) متفق عليه، أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، صحيح مسلم، مع شرحه إكمال إكمال المعلم للأبي، ج۱ ص۳۲5، برقم (١٤٥).
([4]) أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب البيوع، ج۲ ص ٤٣، برقم (٢٢٦٠)، وقال: “هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه”، وأورده الحافظ الذهبي في كتاب الكبائر، ص ٦٣، قال المنذري في الترغيب والترهيب، (٤/٢٧٢): [فيه] إبراهيم بن خيثم بن عراك وقد ترك.
([5]) أخرجه مسلم ج5 ص498-499 باب لعن آكل الربا وموكله، أخرجه الترمذي في كتاب البيوع، باب ما جاء في أكل الربا، سنن الترمذي ج3، ص512، برقم (١٢٠٦)، وأخرجه أبو داود في كتاب البيوع، باب آكل الربا وموكله، سنن أبي داود ج۳ ص ٢٤٤، برقم (۳۳۳۳).
([6]) درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر، ج۱ ص ٣٤.
([7]) الموافقات للإمام الشاطبي، ج۲ ص۱۱.
([8]) شرح القواعد الفقهية للشيخ أحمد بن الشيخ محمد الزرقا، ص۲۰۹، والوفاء ضد الغدر، وهو الخلق الشريف، وفي اصطلاح الفقهاء: بيع الوفاء هو البيع بشرط أن البائع متى رد الثمن يرد المشتري المبيع إليه، وإنما سمي بيع الوفاء لأن المشتري يلزمه الوفاء بالشرط، وسمي-أيضا-بيع الأمانة، وبيع الطاعة، وبيع الجائز، وبيع المعاملة، وبيع الثنايا، انظر: الفتاوى الهندية ج۳ ص۲۰۹، ومجلة الاحكام العدلية، المادة (105)، وكشاف القناع للبهوتي، ج ٣ ص ١٤٩-١٥٠.
([9]) شرح القواعد الفقهية للشيخ أحمد الزرقا، ص۲۱۰، وانظر: درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر، ج۱ ص۳۸، والأشباه والنظائر لابن نجیم، ص۹۱-۹۲، والأشباه والنظائر للسيوطي، ص۸۸.