سؤال من الأخ: عبد العال القبايلي من الجزائر عن حجة العلماء في قياس مسألة أخرى.

مستند العلماء وأدلتهم في إثبات حجية القياس

الحديث عن القياس حديث طويل، وسنجتـزئ خلاصة عنه من حيث تعريفه، وأركانه، ونفاته، والحجة في إثباته.

أما تعريفه في اللغـة فالمرتكز في هذا التعريف: المماثلـة والتقدير؛ فقاس الشيء: قدره على مثاله([1])، أو هو تقدير شيء على مثال شيء آخر، وتسويته، وسمي المكيال مقياسًا([2]).

ومن ذلك: قياس الثوب على الثوب، أو الإزار على الإزار، من حيث الطـول أو القـصـر، وقياس المكيل بمثله من حيث الكم، وهكذا، فكل هذا يأتي بمعنى المماثلة بين شيئين؛ لقياس أحدهما على الآخر.

أما في الاصطلاح فاختُلف في تعريفه، فقيل: إنه يتعذر الحد الحقيقي فيه؛ لاشتماله على حقائق مختلفة، وقيل: إنه مساواة فرعٍ الأصلَ في علة الحكم، أو زيادته عليه في المعنى المعتبر في الحكم([3]).

ولما كان الأصل في القياس المماثلة بين شيئين-أي: بين المقيس والمقيس عليه بحكم العلة المشتركة بينهما في الكينونة -فيمكن

 

تعريفه بأنه: تطبيق حكم شرعي ورد النص عليه على أمر حادث لم يرد النص عليه، وذلك لتماثلهما في العلـة.

وينبني على هذا تصور وجود حكم ثابت شرعًا، بينما يوجد أمر حادث لم يرد فيه نص، وهناك علة مشتركة بينهما، فاقتضى هـذا تطبيق ما نُصَّ عليه على ما لم يُنَصَّ عليه بحكم اشتراكهما في العلة.

والأمثلة على هذا كثيرة، وأقرب مثال على ذلك: الخمـر، فهي محرمة بالنص، والعـلة في التحريم غيبوبة العقل حال السكر، وهذه الغيبوبة ترتب الكثير من المفاسد الدينية والدنيوية، والحشيشة غیر منصوص عليها، وغياب عقل متعاطيها أكثر من غياب عقل شارب الخمر، أو على الأقل مثله، فاقتضى هذا تطبيق الحكم عليها بالتحريم، ولما كان غياب العقل قد يحدث بوسائل غير الخمر والحشيشة، كالحبوب المخدرة المصنعة، أو يحدث بنباتات تعمل عمل الخمر في تغييب العقل وجب إلحاق حكمـها بحكم الخمر، ما دامت العلة مشـتـركـة بيـنـهمـا، وهي غياب العقل؛ فالقياس هنا مظهر للحكم، لا مثبت له كما قال بذلك الفقهاء.

ومن ذلك: ثبوت تحريم ربا الفضل وربا النسيئة في الأنواع الربوية، وهي الذهب والفضة والشعير والتمر والحنطة والملح، فهذه الأنواع أصل ورد النص عليه؛ لقول رسول الله -ﷺ-: «الذهب بالذهب، والـفـضـة بالفضة، والـتـمـر بـالتـمـر، والـبـر بـالـبـر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد»([4])، فيقاس عليه ما هو مثله في العلة كالأرز والحبوب المتماثلة.

أما أركان القياس فأولهـا الأصل: وهو هنا الحكم الشرعي المراد القياس عليه، ومثاله: الحكم بتحريم الخمر، وهذا التحريم منصوص عليه في الكتاب والسنة، أما الكتاب فقول الله -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون}[المائدة:90]، وأما السنة فقول رسول الله -ﷺ-: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام»([5]).

الركن الثاني: الأمر الحادث: وهو هنا ما لم يرد فيه نص على تحريم أمر بـعيـنه، كالحشيشة وما في حكمها من الحبوب والنباتات المغيبة للعقل، ويراد إلحاقه بحكم ورد النص عليه.

الركن الثالث: العلـة المشتركة بين الحكم المنصوص عليه والأمر الحادث غير المنصوص عليه، وهي في مسألة الخمر غياب العقل، وهكذا في المسائل والقضايا المماثلة.

أمـا نفاة القياس فأول من نفاه النَّظَّامُ، وأيده في ذلك بعض المعتزلة، ومن أهل السنة داود الظاهري([6])، ومنه قول الإمام ابن حزم: “ذهب أهل الظاهر إلى إبطال القول بالقياس جملة، وهو قولنا الذي ندين لله -تعالى- به»([7])، وقد استدل نفاته على نفيه بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول.

أما الكتاب: فقول الله -تعالى-: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36]، فهذه الآية تدل على وجوب العلم وجوب يقين، والقياس إنمـا هو ظن لا علم يقين، وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1]، فهذه الآية تنهى عن الأخذ بغير كتاب الله وسنة رسوله محمد -ﷺ-، والقياس عمل بغير الكتاب والسنة، وقوله -تعالى-: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [الأنعام:38]، وقوله -عز وجل-: {وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِين} [الأنعام:59]، فهاتان الآيتان تؤكدان أن كتاب الله يحوي كل الأحكام، فلا حاجة إذا للقياس المبني على الظن والتخمين.

أما السنة: فقد استدلوا بما رواه الدارقطني أن رسول الله -ﷺ- قال: «إن الله فرض فرائض، فلا تضيعوها، وحد حدودًا، فلا تعتدوها، وحرم أشياء، فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنها»([8])، ففي هذا الحديث بين الله للعباد ما وجب عليهم، وما حرمه عليهم، وما سكت عنه؛ رحمة وتلطفا بهم، فعلى قول النفاة يصبح المسكوت عنه معفوًّا عنه، فلا حاجة إذًا إلى البحث عن أمر لم يرده الله ولا رسوله، كما استدلوا بما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن رسول الله -ﷺ- قال: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبْقِ عالما اتخذ الناس رؤوسًا جـهـالا، فأفتوا بغير علم، فضلوا، وأضلوا»([9])، قالوا: والأخذ بالقياس أخذ بغير علم.

واما الإجماع: فقد استدل النفاة بأن بعضًا من الصحابة أنكروا القياس وذموه، وأن بعضهم الآخر لم ينكر عليهم ذلك، فكان هذا إجماعًا، ومن ذلك: أن أبا بكر لما سئل عن الكلالة قال: أي سماء تظلني؟، وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي؟([10])، قالوا: وهذا الرأي هو القياس الذي عناه أبو بكر.

ومن هذا الاستدلال قولهم: إن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حذر من أهل الرأي وأهوائهم، فقال: إياكـم وأصحاب الرأي، فإنهم أعـداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرأي، فضلوا، وأضلوا. كما قال: إياكم والمكايلة، ولما قيل له: وما هي؟، قال: المقايسة([11]).

وأما نفي القياس من حيث المعقول فهو أنه ظن وقول بالرأي، وهـذا القول محل احتمال للتنازع بين القائلين به، وقد حذر الله من ذلك في قوله: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46].

وهذه الأدلة من نفي القياس، وإن كانت في ظـاهـرهـا تؤيد حجج أصحابها، إلا أنها كانت محل الرد من القائلين بحجيته، وقد بسطوا في ذلك أدلة كثيرة على أهميته، وعظيم أثره، فجعلوه في المرتبة الرابعة من المصادر الأصليـة للشـريعة، أي: بعـد الكتاب والسنة والإجماع، بل جعلوه أهم من الإجماع في كثرة الحاجة إليه خاصـة، وأن تحقيق الإجماع أصبح من الـصـعـب بعد أن تفرقت الأمة، في الوقت الذي يستطيع فيه المجتهد إعمال نظره في أي أمر حـادث لا يوجد له نص في الـكـتاب أو الـسـنة أو الإجماع، ناهيك أن النصـوص محدودة، وحوادث الزمان ونوازله متوالية غير متناهية، فاقتضى ذلك إلحاق ما لم يكن له نص بما له نص إذا كانا متحدين في العلة، وفي هذا ذكر الشهرستاني أن الحوادث والوقائع في العبادات والتصرفات مما لا يقبل الحصر والعد، ونعلم قطعًا أنه لم يرد في كل حادثة نص، ولا يتصور ذلك -أيضًا-، والنصوص إذا كانت متناهية، والوقائع غير متناهية، ومـا لا يتناهى لا يضبطه مـا يتنـاهي؛ عُلِمَ قطعًا أن الاجتهاد والقياس واجب الاعتبار حتى يكون بصدد كل حادثة اجتهاد([12]).

وقد بسط المثبتون لحجية القياس أدلتهم من الكتاب والسنة والإجماع والمعقول:

أما الكتاب: فقول الله -تعالى-: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الأَبْصَار} [الحشر:2]، ولما سئل أبو العباس أحمد بن يحيي ثعلب-وهو من أئمة اللسان-عن الاعتبار قال: أن يعقل الإنسان الشيء، فيعقل مثله، فقيل له: أخبرنا عمن رد حكم حادثة إلى نظيرها أيكون معتبرًا؟، قال: نعم! هو مشهور في كلام العرب.

ونقل القاضي أبو بكر في التقريب اتفاق أهل اللغة على أن الاعتبار اسم يتناول تمثيل الشيء بغيره، واعتباره به، وإجراء حكمه عليه، والتسوية بينهما في ذلك، وإنما سمي الاتعاظ والفكر اعتبارًا لأنه مقصود به التسوية بين الأمر ومثله، والحكم فيه بحكم نظيره، ولولا ذلك لم يحصل الاتعاظ والازدجار عن الذنب بنزول العذاب والانتقام بأهل الخلاف والشقاق([13]).

ومن الكتاب -أيضًا- قول الله -تعالى-: {فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة:95].

وقال الإمام الشافعي: هذا تمثيل الشيء بعدله([14]).

ومنه -أيضًا- قول الله -تعالى-: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83]، والحجة أن أولي الأمر هنا العلماء، والاستنباط هو القياس، ومنه -أيضًا- قول الله -عز ذكره-: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26]، ولأن القياس تشبيه الشيء فإذا جاز من فعل من لا تخفى عليه خافية ليريكم وجه ما تعلمون فهو ممن لا يخلو من الجهالة والنقص أجوز([15]).

ومن الأدلة -أيضًا- قول الله -جل ذكره-: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُون} [آل عمران:59]، وفي هذا إرشاد من الله -تعالى- إلى قياس خلقة عيسى على خلقة آدم، بكونهما خُلقا من غير أب، فكانت العلة في القياس قدرة الله على خلقهما على خلاف غيرهما من الخلق.

وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] فالقياس هنا قياس حكم المنكوحات المؤمنات على حكم المنكوحات غير المؤمنات؛ لأن نفي العدة عن المؤمنات هو عدم مسهن، وهذا حكم عام لهن ولغير المؤمنات، وقوله -أيضًا-: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيم * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيم * الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُون * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيم} [يس: 78: 81] والقياس هنـا هو قياس الأشياء الأخرى على الأولى، وعلى خلق النار من الشجر الأخضر، وعلى خلق السماوات والأرض، والعلة هي قدرة الله -تعالى- على خلق هذه الأشياء.

أما في احتجاجهم بإثبات حجية القياس من السنة فقد أوردوا أدلة كثيرة، منها: توجيه رسول الله -ﷺ- لما أرسل معاذ بن جبل إلى اليمن قال: «كيف تقضي إذا عرض لك قضاء»؟، قال: أقضي بكتاب الله، قال: «فإن لم تجد في كتاب الله»؟، قال: فبسنة رسول الله -ﷺ-، قال: «فإن لم تجد في سنة رسول الله ولا في كتاب الله»؟، قال: أجتهد رأيي، ولا آلو، فضرب رسول الله -ﷺ- صدره، وقال: «الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله»([16]).

ومن هذه الأحاديث: ضرب المثل لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فقد قال عمر: صنعت اليـوم يا رسول الله! أمرًا عظيما، هششت، فقبلت وأنا صائم، فقال له رسول الله -ﷺ-: «أرأيت لو مضمضت من الماء وأنت صائم»؟، فقال عمر: لا بأس بذلك، فقال له رسول الله: «فمَهْ»([17])، وفي هذا دليل على أنه جعل لنظير حكم نظيره، فالقبلة قد تكون وسيلة إلى الجماع، ووضع الماء في الفم قد يكون وسيلة لشربه، فكما أن هذا لا يؤثر فذاك -أيضًا- لا يؤثر.

ومـن ذلك: قصـة امرأة مـن خثعم قالت: يا رسـول الله! إن فريضة الله في الحـج على عباده أدركت أبي شيخا كبيرا، لا يستطيع أن يركب، فأحج عنه؟، قال: «نعم! فإنه لو كان على أبيك دين قضيته»([18])، وفي هذا دليل على أن رسـول الله -ﷺ- أَلْحَقَ النظير بالنظير، والمثيل بالمثيل، ومن هذه الأحاديث: قول رسول الله -ﷺ-: «وفي بضع أحـدكـم صـدقـة»، قالوا: يا رسول الله! أياتي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجر؟، قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام؟ أكـان عـلـيـه وزر؟، فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر»([19]) وهذا قياس عكسي يدل على خلاف حكم الأصل في الفرع؛ لكون ضد العلة تثبت فيه، والأدلة عندهم كثيرة.

أما ثبوت حجية القياس بالإجماع فإنهم اتفقوا على هذه الحجية، والعمل بها مصدرًا من مصادر الشريعة، ومن ذلك: كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسی الأشعري حول أمور القضاء، قال -رضي الله عنه-: الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في کتاب الله ولا سنة النبي -ﷺ-، ثم اعـْرِف الأشياء والأمثال، فقس الأمور عند ذلك بنظائرها، واعمد إلى أقربها إلى الله، وأشبهها بالحق([20]).

ومن ذلك: قول المزني صاحب الإمام الشافعي: “إن الفقهاء من عصر رسول الله -ﷺ- إلى يومنا هذا استعملوا المقاييس في جميع الأحكام في أمر دينهم، وأجمعوا على أن نظير الحق حق، ونظير الباطل باطل، فلا يجوز لأحد إنكار القياس؛ لأنه التشبيه بالأمور، والتمثيل عليها([21])، وقال ابن عقيل الحنبلي: وقد بلغ التواتر عن الصحابة باستعماله، وهو قطعي. وقال ابن دقيق العيد: عندي أن المعتمد اشتهار العمل بالقياس في أقطار الأرض شرقا وغربا قرنا بعد قرن عند جمهور الأمة، إلا عند شذوذ متأخرين([22]).

وأما إثبات حجية القياس بالعقل فمن ذلك قول الشهرستاني المشار إليه أنفا: إن النصوص إذا كانت متناهية، والوقائع غير متناهية، وما لا يتناهى ما يضبطه ما يتناهي، علم قطعًا أن الاجتهاد والقياس واجب الاعتبار.

ومن ذلك جواب أبي بكر الرازي عن سؤال داود عن القياس: أهـو أصل أم فرع؟، فإن كان أصلا فلا ينبغي أن يقع فيه خلاف، وإن كان فرعا ففرع على أي أصل؟.

قال أبو بكر: والقياس إنما هو فعل القائس، ولا يجوز أن يقال لفعل: إنه أصل أو فرع، وإنمـا وجه تصـحـيـح السؤال أن يقول: خبروني عن وجوب القول بالقياس، أو الحكم بجواز القياس، أهو أصل أم فرع؟، فيكون الجواب عنه: إن القياس أصل بما بني عليه، وفرع على ما بني عليه.

فأصله الكتاب والسنة والإجماع: وفرعه سائر الحوادث القياسية التي لا توقيف فيها ولا إجماع ([23]).

أما الشيخ ظفر أحمد العثماني التهانوي فيرى أن إنكار القياس رأسًا مكابرة للفطرة التي فطر الله الناس عليها؛ لأن الناس كلهم يحتجون بالقياس حتى البله، والصبيان في الكتاب؛ لأن معـلم الكتاب إذا ضرب صبيا على منكر انزجر عنه سائر الصبيان؛ لظنهم بأنفسهم أنهم لو فعلوا ذلك استحقوا العقاب مثله، وهذا ممـا يعرفه كل إنسان، ولا ينكره إلا مكابر مجاهر بإنكار العيان، وهذا أول دليل على كون القياس فطرةً فطر الله الناس عليها، بل لم يتميز الإنسان من غيره من الحيوانات إلا لكونه يقيس الأمور بأشباهها، ويدرك الكليات من الجزئيات، ولذلك أرشدنا الله -تعالى- إليه في مـواضـع لا تحصى من كتابه، ويتم بها حجته على العباد ([24]).

قلت: هذه خلاصة لجواب الأخ السائل، وأيا كان رأي الذين نفوا القياس، ودللـوا على نفيه، فإن من المؤكد أن أي تشريع لا يتصور منه الإحاطة والشمول بكل الحـوادث التي تنـزل تبعًا لتطور الحياة، وتدرج الإنـسـان فيـها من عصر إلى عصر، فالنصوص تتناهي عند حد معين، ولا يمكن مواجهة هذا التناهي إلا بمستند أو مصدر آخر.

وقد علم ذلك رسول الله -ﷺ-، وهو الذي كان التشريع يتوالى عليه، فحين أرسل معاذ بن جبل إلى اليمن امتحنه؛ ليعرف ماذا يفعل في مواجهة القضايا التي تنزل به، وهو في مكان بعيد عن المدينة؟، وكانت فطنة معاذ -رضي الله عنه- حاضـرة للجواب حين قال: «أجتهدُ، ولا آلُو»، أي: أجتهد برأيي حين لا أجد في الكتاب أو في السنة ما يساعدني في مواجهة القضايا في اليمن.

ومن المعلوم أن التشريع يتضمن الأصول العامة، والمسائل الكلية، وعندئذ يكون من واجب العلماء من القضاة والفقهاء ومن في حكمهم-الاجتهاد في استنباط الحلول من هذه المسائل للقضايا التي يتوالى نزولها حسب الزمان.

ولو قلنا بخلاف ذلك لأصبح لدينا نوازل دون حلول، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر: أحكام البيع، وأحكام الإجارة، فأحكام البيع وردت بشكل مستفيض خلافًا لأحكـام الإجارة، وللتشابه بينهما من حيث كونهما بيع منافع قاس الفقهاء كثيرًا من أحكام الإجارة على أحكام البيع، فما الضير في هذا القياس؟، ولو قلنا بخلافه لوجدنا أن مسائل في الإجارة تبقى دون حلول، وهذا لا يقول به أحد يحب أن تحكم شريعة الله قضايا الناس ونوازلهم.

والله -تعالى- أعلم.

([1]) المعجم الوسيط ص٧٦٦

([2]) البحر المحيط في أصول الفقه للزركشي، ج4 ص4.

([3]) البحر المحيط في أصول الفقه للزركشي، ج4 ص5.

([4]) أخرجه مسلم في كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدا، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم للأبي، ج5 ص٤٨٢-٤٨٣، برقم (١٥٨٧).

([5]) أخرجه مسلم في كتاب الأشـربة، باب بيان أن كل مسكر خمر، وأن كل خمر حرام. صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم للأبي، ج۷ ص ۱۱۳، برقم (۲۰۰۳).

([6]) البحر المحيط للزركشي ج4 ص15-16.

([7]) البحر المحيط للزركشي، ج4 ص16، وانظر: الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم ج۸ ص ١٣٤١ وما بعدها.

([8]) قال الألباني في غاية المرام ص۱۷: “رواه الدارقطني، وحسنه النووي، وهو ضعيف”.

([9]) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب الحرص على الحديث، فتح الباری ج۱ ص ٢٣٤، برقم (۱۰۰).

([10]) نصب الراية في تخريح أحاديث الهداية للزيلعي ج4 ص 64، وتلخيص الحبير للحافظ ابن حجر ج 4 ص ١٩٥، وإعلام الموقعين لابن القيم، ج 1 ص 54.

([11]) إعلام الموقعين لابن القيم، ج 1 ص 55.

([12]) البحر المحيط في أصول الفقه للزركشي، ج4 ص ۱۹.

([13]) البحر المحيط، ج4 ص۲۰.

([14]) الرسالة ص 490-٤٩٢.

([15]) البحر المحيط، ج4 ص۲۱.

([16]) أخرجة الترمذي في كتاب الأحكام، باب ما جاء في القاضي كيف يقضي؟، سنن الترمذي ج۳ ص 616، برقم (۱۲۲۷)، والحديث ضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود، برقم (۷۷۰)، وقال ابن الجوزي: “لا يصح، وإن كان الفقهاء كلهم يذكرونه في كتبهم، ويعتمدون عليه وإن كان معناه صحيحا”. تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير للحافظ ابن حجر، ج4 ص ١٥٥٦.

([17]) صحيح سنن أبي داود للألباني، ص ٤٥٣، برقم (2089).

([18]) صحيح سنن ابن ماجة للألباني ص١٥٢، برقم (٢٣٥١).

([19]) سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني، ج۱ ص۸۱6، برقم (454).

([20]) إعلام الموقعين لابن القيم، ج 1 ص 85-86.

([21]) البحر المحيط للزركشي ج 4ص23.

([22]) البحر المحيط في أصول الفقه، ج4 ص۲2-۲3.

([23]) البحر المحيط في أصول الفقه، ج 4 ص٢٤.

([24]) مقدمة إعلاء السنن قواعد في علوم الفقه، ج20 ص ۲۰ ص۱۰۱.