من المشاهد في هذا الزمان: كثرة قتل النفس أو ما يعرف بالانتحار وهو إن لم يكن ظاهرة فهو قد يقترب منها في بعض البلاد، وأسبابه متعددة منها: الأثقال النفسية المصاحبة للحياة في هذا الزمان بفعل الأزمات الاقتصادية والفقر والبطالة والمخدرات، ومنها: الضعف في الدين الذي يؤدي إلى القنوط واليأس ووساوس الشياطين.
وقتل النفس مما حرم الله، وعظم إثم فاعله في الكتاب والسنة. أما الكتاب، فقول الله -تعالى-: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ} [الإسراء: 33]. وقوله -عز وجل-: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]. وقوله -عز ذكره- في صفات عباد الرحمن: {وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الفرقان: 68]. وقوله -جل ثناؤه-: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93]. فهذه الآيات تدل على عظم النفس، وإثم من يعتدي عليها دون حق، سواء كان هذا التعدي من الإنسان على نفسه، أو على نفس غيره.
وأما السنة، فقول رسول الله : (ومن قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة)([1]). وقوله -عليه الصلاة والسلام- في الرجل الذي كان به جراح فقتل نفسه: (قال الله: بدرني عبدي بنفسه، حرمت عليه الجنة)([2]).
هذا في تحريم قتل النفس، أما الصلاة على من قتل نفسه فللفقهاء في ذلك أقوال؛ ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: يصلى على كل مسلم مات بعد الولادة صغيراً كان أو كبيراً ذكراً كان أو أنثى: باستثناء البغاة وقطاع الطرق.. ومن قتل نفسه خطأ ومات غسل وصلي عليه، وهذا بلا خلاف، ومن قتل نفسه عمداً يصلى عليه عند أبي حنيفة ومحمد وعند أبي يوسف يغسل ولا يصلى عليه([3]).
وفي مذهب الإمام مالك: يصلى على قاتل نفسه، ويصنع به ما يصنع بموتى المسلمين، وإثمه على نفسه([4]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: يغسل ويصلى على كل مسلم مقتول كالزاني المحصن والقاتل العامد([5]).
والأصل في ذلك قول رسول الله : (صلوا على من قال لا إلَه إلا الله، وخلف من قال لا إلَه إلا الله)([6]). وبهذا فإنه لا يستثنى من الصلاة على الميت إلا غير المسلم والمرتد.
وفي مذهب الإمام أحمد: لا يصلي الإمام على من قتل نفسه متعمداً، ويصلي عليه سائر الناس([7]). هذا بالنسبة لقاتل نفسه، أما من مات -وهو سكران- فيدخل في حكم أرباب المعاصي، وحاصل حكم الصلاة على هؤلاء الجواز، لقول رسول الله : (صلوا على من قال لا إلَه إلا الله)([8]). وقد روى الخلال بإسناده عن أبي شميلة أن رسول الله خرج إلى قباء، فاستقبله رهط من الأنصار يحملون جنازة على باب، فقال (ما هذا؟) قالوا مملوك لآل فلان قال: (أكان يشهد ألا إلَه إلا الله؟) قالوا: نعم، ولكنه كان وكان. فقال: (أكان يصلي؟) قالوا قد كان يصلي ويدع، فقال لهم: (ارجعوا فغسلوه وكفنوه وصلوا عليه وادفنوه، والذي نفسي بيده لقد كادت الملائكة تحول بيني وبينه)([9]).
قلت: ومن الفقهاء من رأى عدم الصلاة على بعض الأموات كالبغاة والخوارج، وأهل البدع، والفساق، ومن في حكمه وذلك زجراً لهم. واحتج القائلون لذلك بأن رسول الله لم يصل على قاتل نفسه، ولا على الغال، ولا على المدين، ويجاب على هذا بأنه من خصوصيته -عليه الصلاة والسلام- فلا يلزم تركه الصلاة ترك صلاة غيره عليهم؛ فقد قال في المدين (صلوا على صاحبكم)([10]). فلما أفاء الله على المسلمين قال -عليه الصلاة والسلام-: (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي من المؤمنين وترك ديناً فعليَّ قضاؤه، ومن ترك مالاً فلورثته)([11]). فما دام أن هؤلاء يشهدون ألا إلَه إلا الله وأن محمداً رسول الله، فتجوز الصلاة عليهم، وإن بدا منهم بعض الفسق الذي لا يخرج من الملة؛ ذلك أن الصلاة دعاء واستغفار ورحمة، وهؤلاء أحوج ما يكونون إليها حين يقدمون إلى ربهم، فلعله -عز وجل- يشملهم برحمته، فهو الغافر ذنوب المذنبين وخطايا المخطئين، وهو أرحم بعباده من أنفسهم، ورحمته وسعت كل شيء.
وخلاصة المسألة: جواز الصلاة على كل من شهد ألا إلَه إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويشمل ذلك: قاتل نفسه، ومن مات وهو سكران، فالصلاة دعاء واستغفار ورحمة، وهؤلاء أحوج ما يكونون إليها حين قدموا إلى ربهم، فلعله -عز وجل- يشملهم برحمته ومغفرته، فهو أرحم بعباده من أنفسهم.
([1]) والحديث بكامله هو: (من حلف على ملة غير الإسلام كذباً فهو كما قال، وليس على ابن آدم نذر فيما لا يملك، ومن قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة، ومن لعن مؤمناً فهو كقتله، ومن قذف بكفر فهو كقتله). أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب ما ينهى عن السباب واللعن، برقم (6047)، صحيح البخاري مع فتح الباري ج10 ص6048.
([2]) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب ما جاء في قاتل النفس، برقم (1364)، صحيح البخاري مع فتح الباري ج3 ص1363.
([3]) الفتاوى الهندية للشيخ نظام وجماعته، ج1 ص178-179.
([4]) المدونة الكبرى رواية الإمام سحنون بن سعيد التنوخي، ج1 ص254، وبداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد ج1 ص239-240.
([5]) الحاوي الكبير للماوردي ج3 ص206-207.
([7]) المغني لابن قدامة ج3 ص504.
([10]) أخرجه البخاري في كتاب الحواله، باب إن أحال دين الميت على رجل، برقم (2289)، صحيح البخاري مع فتح الباري ج4 ص545.
([11]) أخرجه البخاري في كتاب الكفالة، باب الدين، برقم (2298)، صحيح البخاري مع فتح الباري ج4 ص557.