سؤال من الأخ عبد العالي كسيطة من الجزائر عن ماء زمزم، وما إذا كان من الجائز إزالة النجاسة به.

ماء زمزم وحكم ما إذا كان يجوز إزالة النجاسة به.

الجواب: ماء زمزم له مكانة عظيمة منذ أن أجراه الله – عز وجل – لسقي هاجر زوجة نبيه إبراهيم وابنه إسماعيل – عليهما السلام – حين أسكنهما إبراهيم في وادٍ ليس فيه ماء ولا نبات. وقد اندثرت البئر التي كان الماء يخرج منها، حتى بعثها عبد المطلب بن هاشم جد رسول الله ﷺ، وقد تفاخر بذلك هو وذريته؛ لأن بئر زمزم صارت مصدرًا لسقيا الحجاج، الذين كانوا يحجون، ويعظّمون البيت الحرام في الجاهلية ومابعدها، وفي هذا قالت صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله ﷺ:

نَحْنُ حَفَرْنَا لِلْحَجِيجِ زَمْزَما

شِفَاءَ سُقْم وطَعامَ مُطْعمَا

رَكضَةُ جِبْرِيلَ ولما تَعْظُمَا

سُقيا نبيَّ اللّه في المُحرَمَا

ابن خليل رَبّنَا المُكرَّمـــا ([1])

وقد وردت في قصة ماء زمزم روايات عدة، لعل أشهرها أن نبي الله إبراهيم -عليه السلام- لما أُمِرَ بالتوجه إلى الحجاز جاء ومعه زوجته هاجر وابنه إسماعيل، وكان حينها رضيعًا فتركهما ومعهما قليل من الماء، فلما نفد الماء طفقت هاجر تبحث عنه خوفًا على رضيعها من العطش، فأشرفت على الصفا، ثم على المروة، تسعى بينهما سبع مرات، علَّها تجد ما ينقذ طفلها من العطش. وفي خلال سعيها كان طفلها يصرخ ويحرك رجليه على الأرض، وعندما لم تجد هاجر أحدًا خلال سعيها رجعت إلى ابنها خوفًا عليه، فوجدت الماء ينبثق من تحت قدميه فصارت تستجمعه وتقول‏: ‏زم زم.

وقد استمر جريان ماء زمزم إلى ما هو مشاهد ومحسوس، وسيظل كما أراده الله جاريًا إلى أن يرث الأرض ومن عليها. وقد بيَّن رسول الله ﷺ فضل هذا الماء فيما رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال‏: ‏(خير ماء على وجه الأرض زمزم)([2]). وفي قول آخر أنه -عليه الصلاة والسلام- قال‏: ‏(ماء زمزم لما شرب له، إن شربته تستشفي به شفاك الله، وإن شربته لقطع ظمئك قطعه الله)([3]). وكان رسول الله ﷺ يعظِّم ماء زمزم، ويشرب منه، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله ﷺ جاء إلى السقاية فاستسقى، فقال العباس‏: ‏يا فضل، اذهب إلى أمك، فات رسول الله ﷺ بشراب من عندها، فقال‏: ‏(اسقني) قال‏: ‏يا رسول الله إنهم يجعلون أيديهم فيه، قال‏: ‏(اسقني) فشرب منه ثم أتى زمزم وهم يسقون، ويعملون فيها، فقال‏: ‏(اعملوا، فإنكم على عمل صالح)، ثم قال‏: ‏(لولا أن تغلبوا لنزلت، وحتى أضع الحبل على هذه)، يعني عاتقه، وأشار إلى عاتقه -عليه الصلاة والسلام-([4]).

وكان السلف وكل من قدم إلى مكة حاجًا أو معتمرًا أو زائرًا يقبل على ماء زمزم متلذذًا أو مستشفيًا أو متبركًا به، فعن ابن خثيم قال‏: ‏قدم علينا وهب بن منبه فاشتكى فجئناه نعوده، فإذا عنده من ماء زمزم، قال‏: ‏فقلنا لو استعذبت فإن هذا ماء فيه غلظ، قال‏: ‏ما أريد أن أشرب حتى أخرج منها غيره. والذي نفس وهب بيده إنها لفي كتاب الله زمزم، لا تنزف ولا تذم، وإنها لفي كتاب الله برة شراب الأبرار، وإنها لفي كتاب الله مضنونة، وإنها لفي كتاب الله طعام طعم وشفاء سقم، والذي نفس وهب بيده لا يعمد إليها أحد فيشرب منها حتى يتضلع إلا نزعت منه داء، وأحدثت له شفاء([5]).

ولم يكن الحجاج والعمار والزوار يكتفون بشرب ماء زمزم وهم في مكة، بل كانوا يحملونه معهم إلى أوطانهم. فقد روى هشام بن عروة عن أبيه أن عائشة -رضي الله عنها- كانت تحمل ماء زمزم، وكانت تخبر أن رسول الله ﷺ كان يفعل ذلك([6]). كما روى جابر بن عبدالله رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ بعث إلى سهيل بن عمرو -رضي الله عنه- يستهديه ماء زمزم، فبعث إليه سهيل بماء زمزم([7]). وما زال الحجاج والعمار من المسلمين إلى اليوم يحملون هذا الماء معهم إلى بلدانهم.

وقد اهتمت حكومة المملكة العربية السعودية ببئر زمزم منذ عهود طويلة، فيسرته للحجاج والعمَّار والزوار على نحو معروف ومشهود، وكان آخر ذلك توجيه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز –رحمه الله- بإنشاء مشروع يحمل اسم الملك عبدالله بن عبدالعزيز، يهدف أولًا إلى ضمان نقاوة ماء زمزم بأحدث الطرق العالمية، وثانيًا إلى تعبئتها وتوزيعها آليًّا.

هذا من حيث العموم بالنسبة لماء زمزم، أما عن جواز إزالة النجاسة به، فللفقهاء في ذلك عدة آراء، وإن كانت في معظمها تنزع إلى كراهة الاستنجاء به، وتحريم امتهانه تعظيمًا له.

ففي مذهب الإمام أبي حنيفة‏: ‏يكره الاستنجاء بماء زمزم، وكذا إزالة النجاسة الحقيقية من الثوب أو البدن، حتى ذكر بعض العلماء تحريم ذلك([8]).

وفي مذهب الإمام مالك‏: ‏يكره إزالة النجاسة بماء زمزم، وفي وجه آخر يجوز إزالة النجاسة به، وهذا الوجه هو المشهور([9]).

وفي مذهب الإمام الشافعي‏: ‏ينبغي ألا تزال النجاسة به، وهذا الانبغاء بمعنى الوجوب، وقيل‏: ‏إن ذلك للندب، وإن المعتمد الكراهية([10]).

وفي مذهب الإمام أحمد: جاء في المغني‏: ‏ولا يكره الوضوء والغسل بماء زمزم؛ لأنه ماء طهور، فأشبه سائر المياه. وقيل يكره لقول العباس‏: ‏لا أحلها لمغتسل، لكن لمحرم حِلٌّ وبِلٌّ، ولأنه يزيل به مانعًا من الصلاة أشبه إزالة النجاسة به، والأول أولى. وقال العباس‏: ‏لا يؤخذ بصريحه في التحريم، ففي غيره أولى، وشرفه لا يوجب الكراهة لاستعماله كالماء الذي وضع فيه النبي ﷺ كفه واغتسل منه([11]).

وقال في كشاف القناع‏: ‏يكره استعمال ماء زمزم في إزالة النجاسة فقط تشريفًا له، ولا يكره استعماله في طهارة الحدث لقول علي -رضي الله عنه-‏: ‏ثم أفاض رسول الله ﷺ فدعا بسجل من ماء زمزم فشرب منه وتوضأ، وكذا ما رواه زر بن حبيش -رضي الله عنه- قال‏: ‏رأيت العباس قائمًا عند زمزم يقول‏: ‏ألا لا أحله لمغتسل ولكن لكل شارب حل وبل([12]). ويؤخذ من هذا خلاف أصحاب المذهب على قولين‏: ‏أحدهما لا يكره رفع الحدث به، وهو المشهور في المذهب، والقول الثاني‏: ‏يكره الغسل وليس الوضوء.

قلت‏: ‏إن لماء زمزم خصوصية في أصل انبثاقه لنبي الله إسماعيل وأمه هاجر، وفي استمرار جريانه إلى يوم الدين، وهذه الخصوصية تقتضي عدم امتهانه، وقد يكون في إزالة الأحداث والنجاسات به دلالة على امتهانه، وإن لم تكن مرادة. ولم ينقل عن رسول الله ﷺ ولا عن صحابته -رضوان الله عليهم- (فيما نعلم) قول صحيح أنهم اغتسلوا به، أو أزالوا به أحداثًا أو نجاسات، بل إن الأقوال والأحاديث تدل على أنهم كانوا يشربونه، إما لسقيهم، وإما لاستشفائهم به. وأقوال علمائنا رحمهم الله – كانت في زمن لا يحج فيه إلا مئات أو بضعة آلاف من المسلمين، وهم إن اختلفوا في مسألة الكراهية المطلقة أو المقيدة أو حتى القول بالتحريم، فهم متفقون على خصوصية ماء زمزم وشرفه، وهذا يقتضي القول بعدم جواز إزالة النجاسة به من الحدثين الأكبر والأصغر، بل إن القول يقتضي عدم جواز الوضوء به إلا لضرورة أو حاجة، لا سيما أن عدد الحجاج في هذا الزمان وفي الأزمنة القادمة يقدر بالملايين، ولهم متسع في إزالة ما يحدث لهم من الأحداث بالماء الذي توفره لهم هذه البلاد الطاهرة وقيادتها، فيبقى ماء زمزم لشربهم وسقياهم فحسب.

وخلاصة المسألة‏: ‏أن لماء زمزم مكانة عظيمة، وفي مسألة إزالة النجاسة به خلاف بين الفقهاء‏: ‏فمنهم من يقول بالتحريم، ومنهم من يقول بالكراهية، ومنهم من يقول بالجواز، ولكل قول تعليله ودليله، ولكنهم – رحمهم الله – متفقون على شرفه وعدم امتهانه.

ولأن لهذا الماء خصوصية في أصل انبثاقه لنبي الله إسماعيل وأمه هاجر -عليهما السلام-، وفيه تكريم لخليل الله إبراهيم -عليه السلام-، فإن هذه الخصوصية تقتضي عدم امتهانه، وقد يكون في إزالة الأحداث والنجاسات به دلالة على امتهانه وإن لم تكن مرادة؛ ولأنه لم ينقل عن رسول الله ﷺ ولا عن صحابته -فيما نعلم- قول صحيح أنهم كانوا يزيلون به الأحداث والنجاسات، بل إن الأقوال والأحاديث تدل على أنهم كانوا يشربونه لسقياهم أو لاستشفائهم به – فإن خصوصية هذا الماء تقتضي عدم جواز إزالة النجاسة به من الحدثين الأكبر والأصغر بل تقتضي عدم جواز الوضوء به إلا لضرورة أو حاجة.

والله أعلم بالصواب.

 

([1]) فضائل مكة وحرمة البيت الحرام لعاتق البلادي ص101.

([2]) أخرجه الطبراني ج11 ص98، والهيثمي في المجمع ج3 ص286، قال الألباني في السلسلة الصحيحة (١٠٥٦): إسناده حسن.

([3]) أخرجه الدارقطني ج2 ص289، صححه السيوطي في الجامع الصغير (٧٧٤١).

([4]) أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب سقاية الحاج، برقم (1634)، فتح الباري ج3 ص574.

([5]) أخبار مكة للأزرقي ج2 ص49-50.

([6]) تحفة الأحوذي ج3 ص37، قال الحاكم في المستدرك على الصحيحين (١٨٠٧): صحيح الإسناد.

([7]) أخبار مكة للفاكهي ج2 ص39.

([8]) حاشية رد المحتار لابن عابدين على الدر المختار‏:‏شرح تنوير الأبصار في فقه مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان ج2 ص625.

([9]) البيجوري ج1 ص28، ومواهب الجليل ج1 ص46، وحاشية العدوي ج1 ص159-160.

([10])    بجيرمي على الخطيب ج1 ص66.

([11])    المغني لابن قدامة ج1 ص29 – 30. ومعنى حل‏:‏حلال، وبل‏:‏أي مباح، انظر‏:‏غريب الحديث لابن الجوزي ج1 ص86.

([12])    كشاف القناع عن متن الإقناع ج1 ص28، والحديث أخرجه عبدالرزاق في مصنفه ج5 ص114-116، وانظر‏:‏أخبار مكة ج2 ص63.