الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا ورسولنا محمد، أما بعد:
فإن العلماء ورثة الأنبياء، وهؤلاء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورّثوا العلم الذي تلقوه من ربهم، وحملوه إلى أممهم؛ فالعلماء بعد الأنبياء صفوة الأمم، وبيان طريقها إلى الهدى، وقد بيّن الله فضل العلماء، وأمر-جل في علاه-عباده إذا لم يعلموا ما أُشكل عليهم في دينهم أن يسألوا العلماء بقوله: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ (النحل: 43)، كما بين-عز وجل الفرق بين العلماء وغيرهم ممن لا يعلم، فقال -تقدس اسمه-: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (الزمر: 9).
والعبد يعلم بعقله أن الذي يعلم لا يتساوى في الفضل مع الذي لا يعلم، كما بين-جل في علاه-، ثم أنهم هم الذين يخشون الله، ويتقونه كما وصفهم الله بقوله: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ (فاطر: 28).
وفي فضل أهل العلم ذكر-عز ذكره-أنهم يشهدون معه ومع الملائكة وأهل العلم أنه لا إله إلا هو، وأنه عزيز في ذاته وملكوته، بقوله: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (آل عمران: 18)، فما كان لهم أن يشهدوا هذه الشهادة العظيمة إلا لمكانتهم عند الله.
قلت: هذا هو فضل العلماء بإيجاز، وما يحملونه من العلم، أما سبهم والاستهزاء بهم فهو مما يأثم به صاحبه، وقد تعجل العقوبة له في الدنيا، وقد يوصف هذا الفعل بالنفاق، ومن الشواهد في هذا: قصة النفر الذين كانوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك، فقد كانوا يستهزئون بالصحابة، فنزل فيهم قول الله-تعالى-: ﴿يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ ۚ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ * وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ۚ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ۚ﴾ (التوبة: 64-66)، فالصحابة من أهل العلم، وقد فضح الله الذين كانوا يستهزئون بهم، وسواءٌ كان سب العلماء على سبيل اللعب والمزح أم على سبيل الاعتقاد، فالإثم واحد .
فأهل العلم الربانيون هم من أولياء الله، ومن يسبهم أو يستهزئ بهم فقد عادى الله، والأصل فيه قول الله-تعالى-فيما رواه البخاري في الحديث القدسي: «مَن عادَى لي وَلِيًّا فقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ»([1]).
قال الإمام أحمد بن حنبل-رحمه الله-: “لحوم العلماء مسمومة؛ من شمها مرض، ومن أكلها مات»([2])، وقال الحافظ ابن عساكر -رحمه الله- : «واعلم يا أخي – وفقنا الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته-أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة؛ لأن الوقيعة فيهم بما هم منه براء أمر عظيم، والتناول لأعراضهم بالزور والافتراء مرتع وخيم، والاختلاف على من اختاره الله منهم لنعش العلم خلق ذميم”([3]).
وسب العلماء من الفسق والبهتان وهتك العرض، وكل ذلك مما حرمه الله، والأصل فيه قوله -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (الحجرات: 11)، والأحاديث في التحذير من سب العلماء كثيرة: منها قوله -عليه الصلاة والسلام-في حجة الوداع: «فإنَّ دِمَاءَكُمْ، وأَمْوَالَكُمْ، وأَعْرَاضَكُمْ، وأَبْشَارَكُمْ، علَيْكُم حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَومِكُمْ هذا، في شَهْرِكُمْ هذا، في بَلَدِكُمْ هذا»([4])، ومنها قوله-عليه الصلاة والسلام-في الاغتياب: «إن كان فيه ما تقولُ فقد اغْتَبْتَه، وإن لم يكنْ فيه ما تقولُ فقد بهَتَّه»([5]).
إن الذين يسبون العلماء، أو يسخرون منهم، أو يطعنون فيهم وفي علمهم يضاعف الله لهم الإثم حين يتبعهم غيرهم، ويستمر معهم الإثم إلى مماتهم، والذين يظنون أنهم ينالون من العلماء يخطئون؛ لأنهم إنما ينالون من أنفسهم حين يرتد فعلهم إليهم، وفي هذا قال الله -عز وجل- لنبيه ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-: ﴿قلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ (الكهف: 103-104).
هذا في عموم المسألة، أما عن سؤال الأخ فإن تجريح العلماء، أو السخرية منهم، أو الاستهزاء بهم، أو الطعن فيهم أو في علمهم، فهذا فيه إثم عظيم؛ فقد يوصف أصحاب هذا الفعل بالنفاق أو الفسق أو البهتان، وكل ذلك مما حرمه الله على عباده. والله -تعالى- أعلم.
[1] – أخرجه البخاري برقم (6502).
[2] – المعيد في أدب المفيد والمستفيد لعبد الباسط موسى محمد العلموي ص 71.
[3] – تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري لابن عساكر ص: 28.
[4] – أخرجه البخاري برقم (7078).
[5] – أخرجه مسلم برقم (2589).