صلاة الجمعة فرض على الأعيان، والأصل في فرضيتها الكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
أما الكتاب: فقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون}([1]). والأمر بالسعي إلى الجمعة في الآية يدل على الوجوب والتكليف، كما يدل تركه على الحرمة والذم، وهو معنى قوله عز وجل: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِين} ([2]).
وأما السنة: فما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم
أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله، فالناس لنا فيه تبع: اليهود غدًا، والنصارى بعد غد)([3]).
وأما الإجماع: فقد أجمعت الأمة على أن يوم الجمعة بين الخميس والسبت، وأن صلاة هذا اليوم فرض عين على كل مسلم مكلف لم يكن له عذر كما سنرى. وأما المعقول فإنه في يوم الجمعة تسقط صلاة الظهر وهذه صلاة مفروضة في الأصل، فلا تسقط إلا لأداء فرض آكد هو يوم الجمعة. وللجمعة فضل عظيم؛ وذلك فيما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: (من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرَّب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرَّب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرَّب كبشًا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرَّب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرَّب بيضة فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر)([4]).
ولا يجوز للمسلم أن يتخلف عن صلاة الجمعة دون عذر، لما رواه ابن عمر وابن عباس -رضي الله عنهما- أنهما سمعا رسول الله ﷺ يقول على أعواد منبره: (لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين)([5]). وما رواه أبو الجعد الضمري أن النبي ﷺ قال: (من ترك ثلاث جمع تهاونًا بها طبع الله على قلبه)([6]). وفي حديث آخر: (من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير ضرورة طبع الله على قلبه)([7]).
وتسقط صلاة الجمعة عمن له عذر عن حضورها وأهل الأعذار هم:
غير المكلفين: فلا تجب إلا على المسلم البالغ العاقل المكلف. ولا تجب على غير المسلم، ولا على الصغير، ولا على المجنون، لحديث (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق)([8]). أما السكران فيقضيها ظهرًا إذا أفاق.
النساء: لا تجب صلاة الجمعة على النساء، قال ابن المنذر: (وأجمعوا على أن لا جمعة على النساء، وأجمعوا على أنّهنّ إن حضرن الإمام فصلَّين معه، أن ذلك يجزئ عنهن)([9]). على أن يكن في منأى عن الرجال.
المسافرون: لا تجب الجمعة على المسافر، لما رواه جابر بن عبدالله -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة في كل يوم الجمعة إلا مريضًا أو مسافرًا أو امرأة، أو مملوكًا)([10]). وكان رسول الله -عليه الصلاة والسلام- وأصحابه لا يجمعون إذا كانوا في سفر، فإن حضر المسافر صلاة الجمعة في المكان الذي يقيم فيه أو كان مارًّا به ففي ذلك خير.
المرضى: فلا تجب الجمعة على المريض الذي لا يستطيع حضورها، أو كان يستطيعه ولكن بمشقة، للحديث المشار إليه آنفًا، وعليه أن يصليها في بيته ما استطاع.
الرُّحَّل: لا تجب الجمعة على الرحل؛ كالذين ينتقلون من مكان إلى
آخر وذلك لفقدهم الاستقرار، فإن استقروا في مكان تقام فيه الجمعة أو كانوا قريبًا منه وسمعوا النداء، لزمتهم الجمعة لما روي أن رسول الله ﷺ قال: (الجمعة على من سمع النداء)([11]).
الأخطار الحالّة: ومن ذلك دخول العدو البلاد، أو الحرائق أو الزلازل أو الفيضانات، أو الخوف ونحو ذلك مما يعد في حقيقته واقعًا يتعذر معه على المكلف حضور صلاة الجمعة([12]).
قلت: فمن كان من هؤلاء سقطت عنه الجمعة ولا جناح عليه إن شاء الله وعليه أن يصليها ظهرًا.
وخلاصة المسألة: أن الجمعة فرض عين على المسلم المكلف البالغ العاقل؛ والأصل في وجوبها الكتاب والسنة والإجماع والمعقول. ولا يجوز للمسلم أن يتخلف عنها دون عذر، لقول رسول الله ﷺ: (لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين). وتسقط صلاة الجمعة عمن له عذر عن حضورها، وأهل الأعذار هم:
غير المكلفين كالصغير والمجنون، والنساء، والمسافرين، والمرضى، والرحل، وكل من يواجه خطرًا حالًا كما هو الحال في الحروب والفيضانات، أو الزلازل أو الحرائق، ونحو ذلك مما يعد واقعًا يتعذر معه على المكلف حضور صلاة الجمعة، فمن كان من هؤلاء سقطت عنه الجمعة ويصليها ظهرًا، ولا جناح عليه – إن شاء الله -.
والله تعالى أعلم
([2]) سورة الجمعة الآية 10، أنزلت هذه الآية في قافلة دحية بن خليفة الكلبي الأنصاري، فقد قدم من الشام وكان من عادة أهل المدينة إذا جاءت القوافل تحمل الطعام يستقبلونها، وصادف ذلك يوم جمعة وكان رسول الله ﷺ يخطب على المنبر، فتسلل عدد من المصلين وخرجوا إلى السوق لرؤية القافلة فلم يبق مع رسول الله ﷺ إلا اثني عشر رجلاً وامرأة، فنزلت هذه الآية، تفسير القرآن العظيم لابن كثير، ج4 ص367-368.
([3]) أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب فرض الجمعة، برقم (876)، فتح الباري بشرح صحيح البخاري للحافظ ابن حجر ج2 ص412، وقد عرف الإسلام أول جمعة قبل هجرة رسول الله ﷺ إلى المدينة، فقد أنفذ إليها وهو في مكة مصعب بن عمير وأمره أن يقيم الجمعة في المدينة، ولما وصل مصعب إلى المدينة نزل على أسعد بن زرارة، وكان من نقباء الأنصار، فأخبره بأمر الجمعة وأحب مصعب أن يشرّف أسعد فأمره أن يتولى الصلاة بنفسه، فصلى أسعد الجمعة في حي بني بياضة، انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج18 ص98.
([4]) أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب فضل الجمعة، فتح الباري ج2 ص425-426، برقم (881).
([5]) أخرجه مسلم (865)، وأخرجه ابن أبي شيبة في كتاب الصلوات، باب في تفريط الجمعة وتركها، المصنف ج2ص154.
([6]) أخرجه الترمذي في أبواب الصلاة، باب ما جاء في ترك الجمعة من غير عذر، سنن الترمذي ج2 ص373، برقم (373)، وأخرجه ابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب فيمن ترك الجمعة من غير عذر، سنن ابن ماجة ج1 ص357، برقم (1125)، قال الألباني في صحيح أبي داود، (١٠٥٢): حسن صحيح.
([7]) أخرجه ابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب فيمن ترك الجمعة من غير عذر، سنن ابن ماجة ج1 ص357، برقم (1126)، صححه الألباني في صحيح الجامع، (٦١٤٠).
([8]) أخرجه ابن ماجة في كتاب الطلاق، باب طلاق المعتوه، والصغير والنائم، برقم (2041)، سنن ابن ماجة ج1 ص658، صححه الألباني في صحيح النسائي، (٣٤٣٢).
([9]) الإجماع لابن المنذر ص44، تحقيق الدكتور أبو حماد، طبع مكتبة الفرقان.
([10]) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الجمعة للمملوك والمرأة، سنن أبي داود ج1 ص280، برقم (1067)، قال عبد الحق الإشبيلي في الأحكام الوسطى، (٢/١٠١): إسناده ضعيف.
([11]) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب من تجب عليه الجمعة، سنن أبي داود ج1 ص278، برقم (1056)، قال أبو داود: روى هذا الحديث جماعة عن سفيان مقصوراً على عبد الله بن عمر ولم يرفعوه وإنّما أسنده قبيصة.
([12]) انظر في وجوب صلاة الجمعة وفضلها ومن تجب عليه ومن لا يلزمه حضورها لعذر: في المذهب الحنفي: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني ج1 ص258-263، وشرح فتح القدير لابن الهمام على الهداية للمرغيناني ج2 ص49-51، وحاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين ج2 ص136-139، والفتاوى الهندية للشيخ نظام وجماعة من علماء الهند ج1 ص159-163.
وانظر في مذهب الإمام مالك: بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد ج1 ص157-165، وجامع الأحكام الفقهية للقرطبي ج1 ص261-262، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير ج1 ص372-385.
وانظر في مذهب الإمام الشافعي: الأم للإمام الشافعي ج1 ص189-190، والحاوي الكبير للماوردي ج3 ص3-31، والمهذب في فقه الإمام الشافعي للشيرازي ج1 ص109-110، وروضة الطالبين للنووي ج2 ص3-7، 34-41.
وانظر في مذهب الإمام أحمد: شرح الزركشي على مختصر الخرقي ج2 ص197-203، والمبدع في شرح المقنع لابن مفلح ج2 ص140-146، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي ج2 ص365-376، وكشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي ج2 ص22-28. وانظر في مذهب أهل الظاهر: المحلى بالآثار للإمام ابن حزم ج3 ص252-262.