سؤال من الأخ س… عبدالله من الجمهورية اليمنية يسأل فيه عن حكم زكاة الدين الذي حال عليه الحول عند المدين؟.

حكم زكاة الدين الذي حال عليه الحول عند المدين

قد يكون للإنسان مال تتوافر فيه شروط الزكاة من تمام الحول، وكمال النصاب، ولكن ليس بمقدوره التصرف فيه لكونه دينًا يخرج عن يده وتصرفه. وعندما يفسد التعامل بين الناس تكثر قضايا الدين ومشكلاته، وفساد التعامل ظاهرة قديمة قدم الإنسان، فمن المدينين من يقدر على وفاء دينه ولكنه لا يؤديه، ومنهم من يود وفاء دينه ولكنه لا يستطيع: إما لفقره، وإما لإفلاسه. ومنهم من يجحده وينكره خطأ أو عمدًا. وقد سَمَّى الفقهاء الدين غير المقدور عليه، بـ«مال الضمار»، أي المال الذي لا يمكن الانتفاع به مع قيام أصل الملك فيه، ولم يوجب بعضهم الزكاة فيه؛ استدلالًا بما روي عن رسول الله ﷺ: (لا زكاة في مال الضمار)([1]).

وإذا كان فساد التعامل قديمًا قدم الإنسان نفسه، فهو في هذا الزمان أكثر وأشد، بسبب ما طرأ على حياة الناس من مشكلات، وما جدّ عليها من قضايا، فعرف التجار ما يسمى بـ«الدين المعدوم» عندما ييئسون من الحصول على ديونهم: إما لغياب المدينين وإما لمماطلتهم وتسويفهم، وإما لعدم القدرة على متابعتهم، وما تحتاجه هذه المتابعة من مال وجهد ووقت ونحو ذلك مما هو معروف اليوم، وليس الدين المعدوم معروفًا بين التجار فحسب، بل أصبح شائعًا بين الأفراد في التعامل العادي بينهم، الأمر الذي قد يجد معه الدائن أنه يملك مالًا، ولكنه لا يقدر على التصرف فيه لكونه أصبح في حكم المعدوم، ولكنه يسأل عما يفعل: هل يزكي دينه هذا أم أن زكاته تذهب مع ذهابه؟

والدين إما أن يكون على مدين مليء مقر به، وإما على مدين يماطل في وفائه، وإما على جاحد له، أو مفلس يود الوفاء به، ولكن لا يقدر عليه، وللفقهاء تفصيل في ذلك:

فالقاعدة في مذهب الإمام أبي حنيفة: أن الزكاة لا تجب في المال الضمار، وهو المال الذي لا يُنْتَفعُ به، ومثاله المال المفقود، والمال الساقط في البحر، والمال الذي أُخِذَ مصادرة، والمال المدفون في الصحراء إذا خفي مكانه. فإن كان الدين على مليء مقر به وجبت فيه الزكاة، والظاهر أنها لا تخرج إلا بعد القبض، ويُعَدُّ الدين عند المدين المماطل والجاحد بمثابة مال الضمار الذي لا تجب فيه الزكاة.

أما المدين المفلس، فيجب التفريق بين من لم يقض عليه بالإفلاس، وبين من قُضِيَ عليه، فإن لم يكن مقضيًا عليه فتجب الزكاة فيما عليه من دين؛ لأن المفلس قادر على الكسب والاقتراض، فصار الدين مقدور الانتفاع في الجملة. أما إن كان مقضيًا عليه، ففي المذهب قول بوجوب الزكاة، وقول بعدم وجوبها؛ لأن التفليس عجز يسد على المفلس باب التصرف والتعامل مع الناس([2]).

وفي مذهب الإمام مالك: لا زكاة في الدين حتى يقبضه صاحبه، فإذا قبضه كله أو قبض منه المقدار الذي تجب فيه الزكاة، زكَّاه لسنة واحدة فقط. قال ابن شاس: «كل دين ثبت في ذمة، ولم يخرج إليها من يد من هو له ولا بدل عنه فلا، زكاة فيه على الإطلاق، حتى يحول عليه الحول بعد قبضه»([3]). وينبني على هذا أن الدائن لا يخرج زكاة دينه إلا بعد قبضه، سواء كان الدين على مليء أو مماطل أو مفلس.

وفي مذهب الإمام الشافعي: تجب الزكاة في الدين على الجملة، ولكن لا تجب قبل الحصول عليه، فإن لم يتعذر الاستيفاء بأن كان الدين على مليء باذل أو جاحد عليه بينة، أو كان القاضي يعلم الدين، فإن كان حالًا وجبت الزكاة، ووجب إخراجها في الحال([4]).وينبني على ذلك وجوب زكاة الدين على المليء والمماطل والمفلس والجاحد له، ويجب إخراجها في الحال إذا كان الدين على مليء باذل أو جاحد وعليه بينة، وفيما عدا ذلك لا تجب إلا بعد الحصول على الدين.

وللدين في مذهب الإمام أحمد وجهان: الوجه الأول: إذا كان على مقرّ به باذل له، فعلى صاحبه زكاته، ولكن لا يلزمه إخراجها إلا بعد القبض، فإذا قبضه أدى ما عليه لما مضى. والعلة في هذا أن الزكاة تجب على طريق المواساة وليس منها أن تخرج زكاة مال لا ينتفع به.

الوجه الثاني: إذا كان الدين على مماطل أو مفلس أو جاحد له فهذا “مال في جميع الأحوال عن حال واحد، فوجب أن يتساوى في وجوب الزكاة أو سقوطها كسائر الأموال، لا فرق بين كون الغريم يجحده في الظاهر دون الباطن أو فيهما”([5]).

وخلاصة المسألة: أن زكاة الدين على المليء الباذل واجبة، ولكن لا يلزمه إخراجها إلا بعد الحصول على دينه -كما ورد في مذهب الإمام أحمد- لأن إخراج الزكاة “عمل مادي” يتمثل في دفعها لمستحقيها، وما دام أن الدين عند المدين فالدائن لن يستطيع إخراجها، لكون ذلك في غير مقدوره، فإذا حصل على الدين زكاه لما مضى، وهذا أيضًا أقرب إلى الحكمة والعدل؛ لأن الزكاة حق لمستحقيها، ومن صفات الحق تمامه وكماله، وهو في هذه الحال إخراج زكاة الدين عن كل عام مضى عليه في ذمة المدين. أما الدين عند المدين المماطل والمفلس والجاحد، فهو كسائر الأموال الأخرى مرهون بواقعه وجودًا وعدمًا.

 

([1]) ورد في موطأ الإمام مالك: عن أيوب بن أبي تميمة السختياني أن عمر بن عبد العزيز كتب في مال قبضه بعض ولاته ظلمًا يأمر برده إلى أهله وتؤخذ زكاته لما مضى من السنين، ثم عقب بعد ذلك بكتاب: أن لا يؤخذ منه إلا زكاة واحدة، فإنه كان ضمارًا، ص٩٦١، قال ابن حجر العسقلاني في الدراية تخريج أحاديث الهداية، (١/٢٤٩): لم أجده عن علي.

والضمار: مأخوذ من ضمور البعير وعدم الانتفاع منه لهزاله وضعفه. ومال ضمار بالكسر أي غائب لا يرجى عوده. المصباح المنير ج٢ ص٤٦٣.

([2]) بدائع الصنائع ج٢ ص٩-١١، وحاشية رد المحتار ج٢ ص٦٦٢-٧٦٢.

([3]) عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم أهل المدينة لابن شاس ج١ ص٩٢٣، وبداية المجتهد ج١ ص٧٤٢، وشرح منح الجليل ج٢ ص٣٥-٤٥.

([4]) نهاية المحتاج ج٣ ص٩٢١-١٣١ ، والمجموع للنووي ج٦ ص٠٢-١٢.

([5]) المغني والشرح الكبير ج٢ ص٨٣٦-٩٣٦.