سؤال من الأخ/ ساعد ج… من الجزائر عن خروج الدم من الصائم (كالحجامة) وما إذا كان هذا من مفسدات الصيام؟.

حكم خروج الدم من الصائم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فقد يخرج الدم من الصائم فمنه ما يكون قليلا، ومنه ما يكون كثيرا فأما القليل كالذي يخرج من الأسنان، أو الأنف أو الجرح البسيط في الأصبع، أو أي جزء من الجسم فهذا لا يفسد الصيام، وأما الكثير فمنه ما يخرج بذاته كمن به ضغط الدم أو من يتعرض لحادث ونحو ذلك، ومنه ما يخرج بفعل فاعل كالحجامة، فهذا محل خلاف حول ما إذا كان يفسد الصيام أم لا؟

ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: لا تكره الحجامة للصائم، استدلالا بما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله ﷺ احتجم وهو صائم([1]). وما روي عن ابن عباس -رضي الله عنه- أيضا أن رسول الله ﷺ احتجم وهو صائم ومحرم([2]). وما روي أيضا أنه عليه الصلاة والسلام قال: (ثلاث لا يفطرن الصائم: القيء والحجامة والاحتلام)([3]). وما روي أيضا أنه قيل؛ لأنس: أكنتم تكرهون الحجامة للصائم على عهد رسول الله ﷺ؟ فقال: لا إلا من أجل الضعف([4]). وما قاله -رضي الله عنه-: إن أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم، فمر به رسول الله ﷺ فقال: (أفطر هذا) ثم رخص -عليه الصلاة والسلام- في الحجامة بعد للصائم([5]). وعلى هذا لا يفطر الصائم إذا احتجم؛ لأن الحجامة لو كانت تفسد الصيام ما فعلها رسول الله ﷺ.

وفي ردهم على من قال بأن الحجامة تفسد الصيام عملا بما روي أن رسول الله ﷺ مر على معقل بن يسار وهو يحتجم في رمضان فقال: (أفطر الحاجم والمحجوم)([6])، ([7]). ردوا على ذلك أن هذا كان في الابتداء ثم رخص بعد ذلك، كما أنه ليس في الحديث

 

إثبات الفطر بالحجامة، فيحتمل أنه كان منهما ما يوجب الفطر، وهو ذهاب ثواب الصوم لما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله ﷺ مر برجل يحْجُمُ رجلا وهما يغتابان فقال: (أفطر الحاجم والمحجوم)([8])، أي بسبب الغيبة منهما، كما ردوا على ذلك أيضا بأن الحجامة إخراج شيء من الدم والفطر مما يدخل.

وفي مذهب الإمام مالك: لا يفطر الفصد ولا الحجامة ولا قضاء على من احتجم إلا أنه يكره له([9]).

وفي مذهب الإمام الشافعي: أن الحاجم والمحجوم لا يفطران، والأساس في ذلك ما رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله ﷺ احتجم في حجة الوداع وهو محرم صائم([10]).

وقد أجاب الأصحاب بعدة أجوبة منها: أن حديث (أفطر الحاجم والمحجوم) منسوخ بما رواه ابن عباس أن رسول الله ﷺ احتجم وهو صائم محرم، وقد روى هذا الحديث البخاري. ومنها: أن هذا الحديث أصح ويعضده القياس فوجب تقديمه. ومنها: أن المراد بقوله ﷺ: (أفطر الحاجم والمحجوم) أنهما كانا يغتابان في صومهما، وعلى هذا التأويل يكون المراد بإفطارهما أنه ذهب أجرهما. ومنها أن معناه تعرضا للفطر؛ أما المحجوم فلضعفه بخروج الدم فربما لحقتْهُ مشقة فعجز عن الصوم فأفطر بسببها، وأما الحاجم فقد يصل إلى جوفه شيء من الدم، ومن هذه الأجوبة عند أصحاب الإمام الشافعي أنه تغليظ ودعاء عليهما لارتكابهما ما يعرضهما لفساد صومهما([11]).

وفي مذهب الإمام أحمد: خلاف ذلك فمن احتجم فسد صومه، وهذا هو المذهب، وعليه جماهير الأصحاب استدلالا بحديث: (أفطر الحاجم والمحجوم) الآنف الذكر([12]).

فتبين مما سبق أن الإمام أبا حنيفة وأصحابه يرون أن الحجامة غير مفسدة للصوم، وأن الإمام مالك يراها كذلك غير أنها غير مستحبة للصائم أو مكروهة له، وبذلك قال الثوري وآخرون. أما الإمام أحمد فيرى أن الحجامة تفطر، وأن تركها في أثناء الصوم واجب، وقال بذلك داود، وجماعة أهل الظاهر. وقال به كذلك الأوزاعي وإسحاق وآخرون. وسبب الاختلاف تعارض ما روي عن رسول الله ﷺ من حديثين: الأول: حديث (أفطر الحاجم والمحجوم) وقد روي هذا الحديث عن طريق ثوبان. والثاني: احتجام رسول الله ﷺ وهو صائم محرم، وقد روى هذا الحديث ابن عباس.

قلت: ولعل الأحرى بالصواب أن الحجامة لا تفسد الصيام للأسباب التالية: أولها: أن حديث ابن عباس حديث صحيح، كما في رواية البخاري ومفاده أن رسول الله ﷺ احتجم في حجة الوداع وهو صائم. وثانيها: أن هذا الحديث قد نسخ حديث: (أفطر الحاجم والمحجوم). وثالث الأسباب: أن من الحكمة في الصيام شعور الصائم بالجوع والعطش مدة معلومة من الوقت، مما يقتضي بالضرورة عدم إدخال شيء في جوفه يغذيه أو يقويه خلال هذه المدة، وليس من ذلك خروج الدم بالحجامة.

ومع ذلك، وخروجا من الخلاف لعل من المناسب للصائم عدم الاحتجام ما لم يكن ثمة حاجة ملحة تقتضيه.

وخلاصة المسألة: أن هناك خلافا بين الفقهاء حول ما إذا كانت الحجامة تفسد الصوم، أو لا تفسده، فالإمام أبو حنيفة وأصحابه يرون أنها لا تفسده، والإمام مالك يراها غير مفسدة للصيام إلا أنها غير مستحبة، أو مكروهة، والإمام الشافعي يراها غير مفسدة للصيام، أما الإمام أحمد فيرى أنها تفطر، وأن تركها في أثناء الصيام واجب، وقال بذلك أهل الظاهر.

ولعل الأحرى بالصواب أن الحجامة لا تفسد الصيام، لما روي في الصحيح أن رسول الله ﷺ احتجم وهو صائم، وأن الحكمة من الصيام الشعور بالجوع والعطش مدة معلومة من الوقت، مما يقتضي بالضرورة عدم إدخال شيء في جوف الصائم يغذيه، أو يقويه خلال هذه المدة، وليس من ذلك خروج الدم بالحجامة. ومع ذلك وخروجا من الخلاف لعل من المناسب للصائم عدم الاحتجام ما لم يكن ثمة حاجة ملحة تقتضيه.

والله -تعالى- أعلم.

([1]) أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب الحجامة والقيء للصائم، برقم (1939)، فتح الباري ج4 ص205.

([2]) أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب الحجامة والقيء للصائم، برقم (1938)، فتح الباري ج4 ص205.

([3]) أخرجه الترمذي في كتاب الصوم، باب ما جاء في الصوم يذرعه القيء، برقم (719)، سنن الترمذي ج3 ص97، قال أبو عيسى: «حديث غير محفوظ وقد روى عبد الله بن زيد بن أسلم، وعبد العزيز بن محمد وغير واحد هذا الحديث عن زيد بن أسلم مرسلا».

([4]) أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب الحجامة والقيء للصائم، برقم (1940)، فتح الباري ج4 ص206.

([5]) أخرجه الدارقطني، وقال عن رجاله: كلهم ثقات، سنن الدارقطني ج2 ص182، قال الألباني في إرواء الغليل، (٤/٧٢): رجاله ثقات.

([6]) أخرجه أبو داود في كتاب الصوم، باب في الصائم يحتجم، برقم (2367)، سنن أبي داود ج2 ص308، وأخرجه ابن ماجة في كتاب الصيام، باب ما جاء في الحجامة للصائم، برقم (1679، 1680، 1681)، سنن ابن ماجة ج1 ص537، صححه السيوطي في الجامع الصغير، (١٣٠٣).

([7]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني ج2 ص107، وانظر شرح فتح القدير لابن الهمام ج2 ص330، وحاشية رد المحتار لابن عابدين ج2 ص411.

([8]) قال ابن حجر في الفتح ج4 ص210: «قد أخرج الحديث المشار إليه الطحاوي وعثمان الدارمي والبيهقي في (المعرفة)، وغيرهم من طريق يزيد بن أبي ربيعة عن أبي الأشعث عن ثوبان، ومنهم من أرسله».

([9]) عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة لابن شاس ج1 ص358، وانظر جامع الأحكام الفقهية للقرطبي ج1 ص354-355، وحاشية الدسوقي للدسوقي على الشرح الكبير للدردير ج1 ص532.

([10]) أخرجه البخاري (١٩٣٨) بلفظ: “احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم”، ومسلم (١٢٠٢) بدون ذكر الصيام.

([11]) المجموع شرح المهذب للنووي ج6 ص349-353، وانظر الحاوي الكبير للماوردي ج3 ص324-326.

([12]) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي ج3 ص302-304، وانظر الإقناع لطالب الانتفاع للحجاوي ج1 ص497-498، وكشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي ج2 ص319.