الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فالمرض من الأعذار المبيحة للفطر عملا بقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} [البقرة: 183]، وقوله تعالى: {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185]. فاقتضى هذا أن الفطر للمرضى رخصة من الله عز وجل لعباده رأفة ورحمة بهم، وعدم تكليفهم ما لا يطيقون كما قال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]. والأصل في الرخصة الاستحباب بل الوجوب كما قال رسول الله ﷺ: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته)([1]).
والمرض المقصود بالرخصة هو ما يخشى ازدياده بالصوم، وقيل هو ما يخاف منه الموت أو زيادة العلة. وروي عن الإمام أبي حنيفة أنه قال: إن كان بحال يباح له أداء صلاة الفرض قاعدا فلا بأس أن يفطر، والمبيح المطلق بل الموجب هو الذي يخشى منه الهلاك([2]). وقيل للإمام أحمد متى يفطر المريض؟ قال: إذا لم يستطع، قيل: مثل الحمى؟ قال: وأي مرض أشد من الحمى([3]). ولا يفطر من لا يتضرر بالصوم كمن به وجع سن أو أصبع أو رمد ونحوه([4]). فعلى هذا يمكن القول بأن المرض على نوعين: النوع الأول: مرض يسير كألم الأسنان وألم العيون، أو أي مرض مشابه في طبيعته؛ فالأصل أن هذا لا يعد عذرا مبيحا للفطر؛ لأن الصائم يستطيع الصوم ولو كان يعاني من هذا الألم. النوع الثاني: الألم الشديد أو المضاعف مثل الآلام الجسمانية الحادة التي لا يستطيع المريض فعلا احتمالها مع الصيام، وكذلك الآلام اليسيرة التي قد تتطور مع الصيام إلى حد يؤدي إلى الخطر على الحياة، بحكم ما يقرره طبيب موثوق.
ويُعد من العذر المبيح للفطر المرض الذي يحتاج صاحبه إلى علاج محدد بوقت، ومن ذلك من يصاب بنوبات الصرع، أو من يصاب بانخفاض السكر، أو المصاب بقرحة المعدة مما لا يستطيع معه أي من هؤلاء القدرة على الصيام. وعلى هؤلاء أن يقضوا ما فاتهم من الصيام بعد شفائهم؛ عملا بقول الله تعالى: {فعٌدةِ مٌن أيامُ أخر} فإن قرر طبيب موثوق أن مرض المريض لا يرجى برؤه، بحيث يكون ملازما لصاحبه سقط عنه القضاء، وعليه إطعام عن كل يوم مسكينا (كيلو ونصف) من القوت المعتاد في المكان الذي يوجد فيه.
وأما الحقن ففيها خلاف نوجزه فيما يلي:
ففي المذهب الحنفي: يفطر من عولج بالحقنة، أو صب في أنفه السعوط، أو أقطر في أذنه دهنا، خلاف الماء أو أكل أو شرب ما يتغذى به أو دواء ما يتداوى به، والضابط هو حول ما فيه صلاح بدنه لجوفه([5]).
وفي مذهب الإمام مالك: لا يفطر بما يقطر في الإحليل، ولا بتشرب الدماغ الدهن بالمسام إلا أن يجد طعم ذلك في حلقه، ولا بالحقنة بما لا ينماع.. وجملة ما في المذهب وجوب الإمساك عما يصل إلى الحلق من أي المنافذ كان سواء كان مغذيا أو غير مغذ([6]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: إذا حُقِن الصائم بالدواء فقد أفطر سواء كان الدواء قليلا أو كثيرا، وسواء وصل إلى المعدة أم لا، وكذلك لو قطر في إحليله وسواء وصل إلى المعدة أم لا([7]).
وفي مذهب الإمام أحمد: يفطر الصائم إذا أكل ما لا يغذي ولا ينماع في الجوف، أو شرب أو استعط بدهن أو غيره فوصل إلى حلقه أو دماغه، أو احتقن أو تداوى أو قطر في أذنه بما يصل جوفه([8]).
قلت: هذا هو الظاهر من المذاهب الأربعة وفي بعضها أقوال حول ما يفطر الصائم من الحقن، وما لا يفطره. ولعل الفقهاء الذين قالوا بالإجمال عن إفطار الصائم بكل ما يصل إلى جوفه من حقن وغيرها راعوا حرمة الصيام وفضله، وما ينبغي للصائم من الحيطة، وعلى الأخص صيام شهر رمضان. هذا إضافة إلى أن معرفة ما يغذي الصائم وما لا يغذيه لم تكن متيسرة على وجه اليقين كما هو الحال في الوقت الحاضر؛ فقد أصبح من اليسير معرفة هذا الفرق من خلال حكم الأطباء ونصحهم للمريض.
فعلى هذا فإن الحقن التي لا تغذي الصائم، ولا تقويه كالحقنة الشرجية التي تستفرغ ما في البطن، أو الحقن في الوريد والعضل لا تفسد الصوم خاصة إذا كان الصائم في حاجة لها في أثناء صومه. أما الحقن الذي تغذيه وتقويه فهذه من المفطرات، ومن لجأ إليها فسد صومه وعليه القضاء.
وخلاصة المسألة أن المرض على نوعين: النوع الأول: مرض يسير، فهذا لا يعد عذرا مبيحا للفطر؛ لأن الصائم يستطيع الصوم ولو كان يشعر بهذا الألم. النوع الثاني: الألم الشديد، أو الألم اليسير الذي قد يتطور إلى حد يؤدي للخطر على الحياة بحكم ما يقرره طبيب موثوق.
ومن العذر المبيح للفطر المرض الذي يحتاج صاحبه إلى علاج محدد بوقت، كنوبات الصرع وانخفاض السكر والمصاب بقرحة المعدة، فهؤلاء لهم الفطر وعليهم القضاء، فإن قرر الطبيب الموثوق أن مرض أي منهم لا يرجى برؤه سقط عنه القضاء،
وعليه الإطعام عن كل يوم مسكينا (كيلو ونصف) من قوت المكان.
أما الحقن فلا تفطر إن كانت لا تقوي الصائم ولا تغذيه، إذا كان يحتاجها في أثناء صومه، أما إن كانت تغذيه فسد صومه وعليه القضاء.
والله -تعالى- أعلم.
([1]) أخرجه الإمام أحمد في المسند ج2 ص108، صححه الألباني في إرواء الغليل، (٥٦٤).
([2]) بدائع الصنائع للكاساني ج2 ص94، وشرح فتح القدير لابن الهمام ج2 ص350، وحاشية رد المحتار لابن عابدين ج2 ص422.
([3]) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد للمرداوي ج3 ص285-286.
([4]) الإقناع لطالب الانتفاع للحجاوي ج1 ص490-491، وانظر كشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي ج2 ص310.
([5]) حاشية رد المحتار لابن عابدين ج2 ص402-410، وشرح فتح القدير لابن الهمام ج2 ص341. وانظر الفتاوى الهندية للشيخ نظام وجماعة من علماء الهند ج1 ص224-225.
([6]) عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة لابن شاس ج1 ص358، وحاشية الدسوقي للدسوقي على الشرح الكبير للدردير ج1 ص533، وانظر بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد ج1 ص290، والإحليل بكسر الهمزة مخرج اللبن من الضرع والثدْي ومخرج البول أيضا، المصباح المنير للفيومي ج1 ص148. ومعنى ينماع أي: يسيل ويذوب، المصباح المنير ج2 ص588.
([7]) الحاوي الكبير للماوردي ج3 ص319، وانظر المجموع للنووي ج6 ص320.
([8]) الإقناع لطالب الانتفاع للحجاوي ج1 ص497، وانظر الإنصاف للمرداوي ج3 ص399-300، وكشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي ج2 ص317-318، وفتاوى ورسائل للشيخ محمد بن إبراهيم ج4 ص186-188. ومعنى استعط الدواء: أدخله في أنفه.