سؤال من الأخ/ ساعد جرار حكيمة من الجزائر يقول فيه: ما حكم التعصب لمذهب من المذاهب الفقهية أصاب أو أخطأ؟، وما معنى قول الإمام الشافعي: “إذا صح الحديث فهو مذهبي”؟.

حكم التعصب لمذهب من المذاهب الفقهية

التعصب في عمومه محرم؛ لما فيه من الغلو والهوى، والخروج عن الاستقامة والاعتدال، ناهيك بما ينتج منه من المفاسد والأضرار، والأصل في فساده وتحريمه الكتاب، والسنة، والإجماع، والمعقول.

أما الكتاب: فالآيات كثيرة، منها قول الله -تعالى-: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ} [النساء:171]، وقوله -تعالى-: { قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ} [المائدة:77]، وقوله -عز وجل-: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ} [التوبة:31].

وقد بين رسول الله -ﷺ- أن الغلو ينزع بصاحبه إلى اتباع من يغلو فيه، فيطيعه فيما هو محرم عليه؛ ذلك أن الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله أحلوا لهم الحرام، وحرموا عليهم الحلال.

وأما السنة: فقول رسول الله -ﷺ-: «هلك المتنطعون» قالها ثلاثًا([1]) أي: المغالون الذين يتجاوزون الحدود في أقوالهم وأعمالهم، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: «يا أيها الناس! إياكم والغلو في الدين، فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين»([2]).

وقوله -عليه أفضل الصلاة والسلام-: «من قاتل تحت راية عُمية يغضب لعصبة، أو يدعو إلى عصبة، أو ينصر عصبة، فقتل فقِتْلةٌ جاهلية..الحديث»([3])، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: «من نصر قومه على غير الحق فهو كالبعير الذي رُدي فهو يُنْزعُ بذنبه»([4])، وقوله -أيضًا-: «ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية»([5]).

وأما الإجماع: فقد أجمعت الأمة في سلفها وخلفها على أن التعصب مما يتنافى مع مقاصد الشريعة وغاياتها، بل هو من المحرمات، سواء ما كان منه غلوًّا في الدين أو الأشخاص، أو ما كان مناطه التعصب للعشيرة أو المذهب أو الفرقة أو الطائفة، أو نحو ذلك.

وأما المعقول: فإن التعصب يدل على ضيق النفس والعقل؛ لأن المتعصب لا ينظر إلا إلى من يتعصب له، فلا ينشرح صدره إلا له، ولا يتقبل إلا ما صدر منه، ولا يطمئن إلا إلى ما يقوله أو يفعله، فهو بهذا يصادر عقله، فلا يفكر في غير ما يتعصب له، فيفقد بذلك سلامة التفكير واتباع الحق أيًّا كان مصدره، وهذا ما يدل عليه تفكير هذا الشاعر المتعصب لقومه في قوله:

وما أنا إلا مِنْ غَزِيَّةَ إن غَوَتْ غَوَيْتُ

وإن تَـرْشُـْـد غَـزِيَّـــةُ أَرْشُـــدِ

قلت: وقد تعرضت الأمة للتعصب في حقبة أو حقب من تاريخها، ولعل هذا يرجع إلى “التقليد”، فعندما انتهى عصر الصحابة، وامتدت الدولة الإسلامية إلى الأصقاع، وجدت على الواقع نوازل تتعلق بمصالح الناس، اتسعت دائرة الآراء الفقهية، وكان من الطبيعي أن ينشأ عن ذلك تباين في هذه الآراء بين فقيه وآخر، ثم تكونت على إثر ذلك مدارس الفقه، فتحولت إلى مذاهب سميت بأسماء المجتهدين ممن وثقت الأمة في علمهم واجتهادهم.

ومن المعلوم أن الاختلاف بين هذه المذاهب لم يكن في أصول الشريعة وأسسها، فالقرآن وأحاديث الرسول -ﷺ- واجتهاد الخلفاء والصحابة ظلت مصادر لهذه المذاهب، ولا خلاف بينها في ذلك، وكان الاختلاف ينصب على الفروع فحسب، ولم يكن تباينهم في الاجتهاد لمجرد الاختلاف، فحاشاهم ذلك، وإنما كان الأمر يتعلق إما باعتقاد صاحب هذا المذهب أن الحكم الذي لم يأخذ به في نازلة كان قد نُسِخ، بينما يرى صاحب المذهب الآخر أن الحكم لا يزال باقيًا، وإما أن صاحب هذا المذهب يعتقد أن الحديث الذي يستند إليه صاحب المذهب الآخر لم يكن قد أتى عن رسول الله -ﷺ-، إما لضعف في روايته، أو لعلة في متنه، وإما أن صاحب هذا المذهب كان يرى أن استنباط الحكم في نازلة أو مسألة ما لا يتفق مع ما ورد من حديث عن رسول الله -ﷺ- أو خلفائه أو صحابته، فيخالف باعتقاده ذلك اجتهاد مذهب آخر، وهكذا([6]).

ومن المعلوم حقًّا أن أصحاب المذاهب الفقهية -سواء ما كان منها منتشرًا في الأصقاع كالمذاهب الأربعة، أو ما كان محدود الانتشار- كانوا أشد حرصًا على القول بأن آراءهم ليست إلا مجرد اجتهاد يقبل الخطأ كما يقبل الصواب.

فالإمام أبو حنيفة يقول عن اجتهاده: “هذا أحسن ما وصلنا إليه، فمن رأى خيرًا منه فليتبعه”، ولما سئل عما إذا كان الذي انتهى إليه هو الحق الذي لا شك فيه، قال: “لا أدري، لعله الباطل الذي لا شك فيه”.

وكان ينهى صاحبه أبا يوسف عن كتابة ما يقوله؛ لأنه قد يرى اليوم رأيًا، ثم يخالفه غدًا([7])، وكان يقول: “لا ينبغي لمن لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي”([8]).

وكان هذا شأن الإمام مالك، فكان ينهى أصحابه عن كتابة فتاواه، ويقول: “إنما أنا بشر أصيب وأخطئ، فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة”([9]).

ومثلهما الإمام الشافعي، فكان يقول: “إذا صح الحديث فهو مذهبي، وأي أرض تقلني؟ وأي سماء تظلني إذا جاء حديث رسول الله -ﷺ- وخالفته؟”([10]).

أما الإمام أحمد فكان يرى أن لكل إنسان الحق في أن يجتهد ما وسعه الاجتهاد، ولما قيل له: الأوزاعي هو أتبع من مالك، قال: “لا تقلد دينك أحدًا من هؤلاء، ما جاء عن النبي -ﷺ- وأصحابه فخذ به، ثم التابعي بعد الرجل فيه مخير”، وقال -رحمه الله -: “لا تقلدني، ولا تقلد مالكًا ولا الثوري ولا الأوزاعي، وخذ من حيث أخذوا”([11]).

هكذا كان حال السلف الصالح أئمة المذاهب الأربعة، لم يتعصبوا -رحمهم الله – لاجتهادهم، ولم يطلبوا من أحد أن يقلدهم، ولم يعصموا أنفسهم عن الخطأ، بل نهوا عن تقليدهم، وعن كتابة فتاواهم خوفًا من الزلل وخشية من الخطأ.

ولما كان لكل واحد من الأئمة تلاميذ أخذ كل واحد من هؤلاء يتبع اجتهاد إمامه، ثم ما لبث هذا الاتباع أن اتسع بمرور الزمن مع ما صاحبه من الجدل والمماحكة بين الأتباع حتى انقلب تعصبًا، سرعان ما تعمق تدريجيًّا بتسلسل الأجيال، ومن ذلك: أن بعض الفقهاء منع من اعتزى إلى مذهب أن يحكم بغيره، فمنع الشافعي أن يحكم بقول أبي حنيفة، ومنع الحنفي أن يحكم بمذهب الشافعي إذا أداه اجتهاده إليه([12])، ولم يزل هذا واقعًا في العديد من البلاد الإسلامية.

وليس الخطأ في التقليد نفسه؛ لأن الناس ليسوا كلهم مجتهدين يعرفون أحكام الشريعة، واستنباط الأحكام منها، والذي عليه جماهير الأمة -كما ذكر الإمام ابن تيمية- أن الاجتهاد جائز في الجملة، والتقليد جائز في الجملة، لا يوجبون الاجتهاد على كل أحد، ويحرمون التقليد، ولا يوجبون التقليد على كل أحد، ويحرمون الاجتهاد، والاجتهاد جائز للقادر عليه، والتقليد جائز للعاجز عنه، والعامي إذا أمكنه الاجتهاد في بعض المسائل جاز له الاجتهاد، فالاجتهاد منصب يقبل التجزئة والانقسام، فالعبرة بالقدرة والعجز، والرجل قد يكون قادرًا في بعضٍ، وعاجزًا في بعضٍ، لكن القدرة على الاجتهاد لا تكون إلا بحصول علوم تفيد معرفة المطلوب([13]).

وإذا كان التقليد جائزًا لمن لا يعرف الحكم فإن الخطأ يكمن في التعصب للمقلد -بفتح اللام-، سواء كان مذهبًا أم غيره، وما كانت الأمة لتتفرق وتختلف-بل تتقاتل أحيانًا-إلا بسبب التعصب الذي يتحول إلى هوى يفقد صاحبه المنطق والتفكير، والقول بالحق عندما يرى أنه هو ومن قلده على حق، وغيره من الأئمة على خطأ.

وقد ذكر الشيخ الشعراني([14]) أنه كان يكتب في مناقب الإمام أبي حنيفة، فدخل عليه شخص من المنتسبين للعلم، فأخرج من كمه كراريس، وقال: انظر فيها، فنظر فإذا فيها رد على الإمام أبي حنيفة، فقال له: ومثلك يفهم كلام أبي حنيفة حتى ترد عليه؟، فقال: إنما أخذت ذلك من مؤلف للفخر الرازي. فقال له الشعراني: إن الفخر الرازي بالنسبة إلى الإمام أبي حنيفة كطالب علم أو كآحاد الرعية مع السلطان الأعظم، أو كآحاد النجوم مع الشمس، وكما حرم العلماء على الرعية الطعن على إمامهم الأعظم إلا بدليل واضح كالشمس فكذلك يحرم على المقلدين الاعتراض والطعن على أئمتهم في الدين إلا بنص واضح لا يحتمل التأويل. ثم ذكر أن بعض المشايخ كان ينكر على ابن أبي زيد القيرواني، فقال عنه: إن بعض الأطفال يقدر على تأليف مثل رسالته، فخرج إلى الطريق، فلقيه جندي، فقال: اقرأ لي هذا الكتاب، فلم يعرف أن يقرأه للجندي، فجره وضربه إلى أن ألهب قلبه، وقال له: تكبر عمامتك، وتوهم الناس أنك فقيه([15]).

أما الشق الثاني من السؤال-وهو قول الإمام الشافعي: “إذا صح الحديث فهو مذهبي”، فالمقصود منه التزامه -رحمه الله – بسنة رسول الله محمد -ﷺ-، والتقيد بها، ذلك أنه -رحمه الله – لا يتمسك بقول قاله، أو اجتهاد اجتهده إذا كان فيه مخالفة لسنة رسول الله، وهو مدار قوله: “إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط”، وقوله: “إذا رويت عن رسول الله -ﷺ- حديثًا، ولم آخذ به فاعلموا أن عقلي قد ذهب”([16]).

وخلاصة المسألة: أن التعصب يؤدي إلى الغلو والهوى، والخروج عن الاستقامة والاعتدال، ويتنافى مع مقاصد الشريعة وغاياتها، بل هو من المحرمات، سواء ما كان منه غلوًّا في الدين أو الأشخاص، أو ما كان مناطه التعصب للعشيرة أو المذاهب أو الفرق أو الطوائف.

والأصل في تحريمه الكتاب والسنة والإجماع والمعقول:

أما الكتاب: فقول الله -تعالى-: { يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقّ} [النساء:171].

وأما السنة: فقول رسول الله -ﷺ-: «هلك المتنطعون» قالها ثلاثًا([17]).

وأما الإجماع: فقد أجمع سلف الأمة وخلفها على أن التعصب مما يتنافى مع مقاصد الشريعة، بل هو من المحرمات.

وأما المعقول: فإن التعصب يدل على ضيق النفس والعقل، وحب الهوى.

وكان أئمة المذاهب الأربعة ومن على طريقتهم يحرمون التعصب لهم، ويرون أن آراءهم مجرد اجتهاد يقبل الخطأ كما يقبل الصواب، وأن الأساس والمرجع في الحكم كتاب الله، وسنة رسوله محمد -ﷺ-، وما كان عليه الصحابة -رضوان الله عليهم-، وهذا هو معنى قول الإمام الشافعي: “إذا صح الحديث فهو مذهبي”.

والله المستعان.

 

([1]) أخرجه مسلم في كتاب العلم، باب «هلك المتنطعون»، صحيح مسلم بشرح النووي ج16 ص220.

([2]) أخرجه ابن ماجة في كتاب المناسك، باب قدر حصى الرمي، سنن ابن ماجة ج2 ص1008، برقم (3029)، صححه الألباني في صحيح ابن ماجه، (٢٤٧٣).

([3]) وتمام الحديث ما رواه أبو هريرة عن النبي -ﷺ- أنه قال: «من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، فمات مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة، أو يدعو إلى عصبة، أو ينصر عصبة، فقتل فقِتْلة جاهلية، ومن خرج على أمتي، يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاش من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني، ولست منه». أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، صحيح الإمام مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم للأبي ج6 ص553-554، برقم (1848).

([4]) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب في العصبية، سنن أبي داود ج4 ص331، برقم (5117)، صحح إسناده الألباني في هداية الرواة، (٤٨٣٠).

([5]) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب في العصبية، سنن أبي داود ج4 ص332، برقم (5121)، صححه السيوطي في الجامع الصغير، (٧٦٦٥).

([6]) انظر كامل هذا في: رفع الملام عن الأئمة الأعلام، لشيخ الإسلام ابن تيمية ص11-125، وانظر: الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف لولي الله الدهلوي ص25-166.

([7]) تاريخ المذاهب الإسلامية لمحمد أبي زهرة ج2 ص301-302.

([8]) الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف ص156.

([9]) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي ج8 ص78-79، وتاريخ المذاهب الإسلامية ج2 ص301، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج20 ص211.

([10]) المجموع شرح المهذب للنووي ج1 ص63-64، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج20 ص211، وإعلام الموقعين لابن القيم ج2 ص265-266.

([11]) إعلام الموقعين ج2 ص200-201.

([12]) الأحكام السلطانية للماوردي ص67.

([13]) مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية، ج20 ص203-204.

([14]) هو عبد الوهاب بن أحمد بن علي، أبو المواهب، المعروف بالشعراني، ولد ببلدة ساقية أبي شعرة من أعمال المنوفية بمصر سنة (898هـ)، وتوفي بالقاهرة سنة (973هـ)، كان فقيهاً أصوليًّا محدثاً مكثراً من التصنيف، يميل إلى التصوف، أخذ العلم عن مشايخ عصره كالشيخ جلال الدين السيوطي وزكريا الأنصاري، من تصانيفه: “أدب القضاة، و”الميزان الكبرى”. انظر: الأعلام للزركلي ج4 ص331.

([15]) الميزان الكبرى للشيخ عبد الوهاب الشعراني، وبهامشه رحمة الأمة في اختلاف الأئمة لعبد الرحمن الدمشقي ج1 ص64-65.

([16]) المجموع شرح المهذب للإمام النووي مع فتح العزيز شرح الوجيز للرافعي، والتلخيص الحبير للإمام ابن حجر ج1 ص63-64، وانظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين للإمام ابن القيم ج2 ص263.

([17]) أخرجه مسلم في كتاب العلم، باب «هلك المتنطعون»، صحيح مسلم بشرح النووي ج16 ص220.