الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه ورسوله الأمين محمد، وعلى آله وصحابته، ومن تبعهم واتبع سبيلهم إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الخلاف حول نسب هذا الإنسان أو ذاك أمر قديم قدم الإنسان نفسه، خاصة في الأمم التي يحكمها الدين وقواعده؛ ذلك أن الإنسان بفطرته محكوم بما توجبه عليه هذا الفطرة من الأخلاق، والاهتمام بنسله واختصاصه العيني به، وتنزيه هذا النسل من المعايب والنقائص، وقد يصاحب هذا الاهتمام أسباب تتنازع فيها النفس ثم تبدأ بالشك مع ما يلقيه الشيطان من الوساوس، فيظن هذا الإنسان أو ذاك أن الولد المنسوب له ليس ولده، وقد يبقى هذا التنازع بينه وبين نفسه، وقد ينتقل إلى الملأ، فيرجع حينئذ إلى الوسيلة التي تنفي عنه هذه الشكوك.
وقد عرف الإسلام ثلاث وسائل لإثبات النسب:
الأولى: قيام الزوجية (الفراش): والأصل فيه قصة ابن وليدة زمعة، فعن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان عتبة (بن أبي وقاص)، عهد إلى أخيه سعد أن ابن وليدة زمعة مني فاقبضه إليك، فلما كان عام الفتح أخذه سعد، فقال: ابن أخي عهد إليَّ فيه، فقام عبد بن زمعة فقال أخي وابن وليدة أبي، ولد على فراشه، فتساوقا إلى النبي ﷺ فقال سعد: يا رسول الله، ابن أخي قد كان عهد إليَّ فيه، فقال عبد بن زمعة: أخي وابن وليدة أبي، ولد على فراشه، فقال النبي ﷺ: «هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش، وللعاهر الحجر»، ثم قال لسودة بنت زمعة([1]): «احتجبي منه» لما رأى من شبهه بعتبة، فما رآها حتى لقي الله([2]).
وقيام الزوجية أو الفراش قد لا يثبت النسب أو ينفيه بشكل قاطع؛ لأن الولد قد لا يكون لصاحب الفراش عندما ترتكب زوجته سلوكًا يتنافى مع عفة الزوجة وطهارتها، وهذا هو ما حدث في قصة ابن وليدة زمعة، فمع أن رسول الله ﷺ قضى به لزمعة لكون الوليدة جاريته، وكانت على فراشه، إلا أنه -عليه الصلاة والسلام- أمر زوجته سودة أن تحتجب منه؛ بسبب شبهه بعتبة بن أبي وقاص، رغم أنها تعد عمته قضاء، فاحتجبت منه ديانة.
والحكم بأن الولد للفراش محكوم بما ورد في الكتاب والسنة والعقل.
أما الكتاب: فقول الله -عز وجل-: {وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل: 72] الآية. فالزوجة فراش لزوجها، وينتج من هذا الفراش ولد لهما كما قال -عز وجل-: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِق * خُلِقَ مِن مَّاء دَافِق * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِب} [الطلاق5-7].
وأما السنة: فقول رسول الله ﷺ الولد للفراش -كما سبق ذكره-.
وأما العقل: فإن الزوج يختص عينًا بزوجته حكمًا وعقلًا، ويفترض أن الولد الذي يولد على فراشهما ولدهما.
الوسيلة الثانية: (القيافة): وهذه إحدى الوسائل الشرعية لإثبات النسب.
ففي مذهب الإمام مالك([3]) والشافعي([4]) وأحمد([5]): يجوز الاعتماد عليها في إثبات النسب حال النزاع فيه؛ استدلالًا بما روته أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أن أم سليم الأنصارية -رضي الله- عنها قالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحي من الحق، فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ فقال رسول الله ﷺ: «نعم إذا رأت الماء»، فقالت أم سلمة: وتحتلم المرأة؟ فقال: «تربت يداك، فبم يشبهها ولدها»([6])؟ واستدلالًا أيضًا بما روته أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- بقولها: دخل عليّ رسول الله ﷺ مسرورًا تبرق أسارير وجهه، فقال: «إن مجزَّزَّا([7]) نظر آنفًا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض»([8]).
وفي هذا نفي لقدح أهل الجاهلية في نسب أسامة بسبب بشرته السوداء المغايرة لبشرة أبيه البيضاء، واستدلالًا أيضًا بفعل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقد كان يأخذ بقول القافة، ويلحق الأولاد المولودين في الجاهلية بمن ادعاهم في الإسلام، فلم ينكر عليه ذلك، أحد من الصحابة([9])، وقد خالف الحنفية في ذلك فقالوا بعدم جواز إثبات النسب بالقيافة؛ لأن الله -عز وجل- حصر هذا الإثبات في الفراش، أما نفي النسب فدليله اللعان الذي شرعه الله([10]).
والشبه وسيلة ظنية أو غير قاطعة، فقد يشبه الولد أباه أو أمه وقد لا يشبههما البتة، وقد يشبه أحد أجداده من أبيه أو أمه، فيختلف لونه عن لون أبيه أو أمه، وشاهده أن رجلًا أتى رسول الله ﷺ فقال: إن امرأتي ولدت غلامًا أسود، فقال رسول الله: «هل لك من إبل؟» قال نعم، قال -عليه الصلاة والسلام- «ما ألوانها؟» فقال: حمر، فقال: «فهل فيها من أورق؟» أي (ما كان في لونه بياض مائل إلى السواد) قال: نعم، فقال -عليه الصلاة والسلام- «فأنى هو؟» فقال: لعله يا رسول الله عرق نزع به([11]).
الوسيلة الثالثة (اللعان): والمراد به يمين الزوج بزنى زوجته أو بنفي الولد منها، فيكون بهذه اليمين قد قذفها بالزنى، والأصل فيه قول الله -عز وجل-: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِين * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأ * عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِين * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِين} [النور: 6-9]، وكيفيته أمام القضاء أن يشهد الزوج القاذف أربع مرات أنه لمن الصادقين فيما رماها به، ويقول في الشهادة الخامسة إن عليه لعنة الله إن كان من الكاذبين فيما رماها به، ثم تقوم المرأة أمام القضاء، فتشهد أربع شهادات بالله، إنه من الكاذبين فيما رماها به، وتقول في الخامسة: إن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماها به.
قلت: واللعان يمين تحتمل الصدق، كما تحتمل الكذب، حسب ديانة المتلاعنين أو أحدهما، فهو وسيلة ظنية يحكم به القاضي حسب ظاهر البينة المتمثلة في يمين المتلاعنين أو أحدهما، وإن كان هذا كاذبًا، وهذا ما حدث في قضية هلال بن أمية حين رمى زوجته بابن عمه شريك بن سحماء، فكذبت في يمينها، فجاء ولدها شبيهًا بشريك، فقال رسول الله ﷺ: «لولا ما قضى من الأيمان الكاذبة لكان لي فيها أمر» (أي الرجم)([12]).
والحمض النووي وسيلة علمية عصرية يقوم على كشف الصفات الوراثية بين الأب والأم والولد، وقد ثبت علميًّا أن فصيلة دم الشخص تتأثر بفصيلة دم أبيه وأمه، فيرث الولد صفات من أبيه عن طريق الحيوان المنوي، ويرث هذه الصفات من أمه عن طريق البييضة بشكل متساو، والصفات الوراثية في كل شخص تختلف عن الآخر، فبواسطة الحمض النووي يتم تحديد بنوة هذا الشخص من ذاك؛ لوجود تشابه بينه وأبيه وأمه في هذا الحمض، فلإثبات النسب أو نفيه لا بد من وجود أصل الصفات الوراثية الموجودة في الولد في كل من أبيه وأمه، فلو وجد نصف هذه الصفات في الأم، ووجد النصف الآخر غير مطابق لصفات الأب، فهذا يدل على أنه ليس أباه([13]).
من هنا يجب النظر إلى الحمض النووي على أنه وسيلة شرعية قطعية لإثبات النسب أو نفيه.
وأما حكم الاستعانة بالوسائل العلمية العصرية، فهذه الوسائل في إطلاقها متعددة، منذ أن تمكن الإنسان في القرنين الماضيين من اختراع هذه الوسائل وتطويرها، فالسيارات والطائرات ومختلف المراكب -كمثل بسيط- إحدى هذه الوسائل، وقد استعان المسلم بها في أداء عبادته في حجه وتجارته ومختلف أموره، والمراصد الفلكية وسيلة لتحديد رؤية الهلال في بدايته ونهايته، كما أنها وسيلة لتحديد وقت الحج في زمانه، ناهيك بالوسائل الأخرى المعلومة لتحديد أوقات الصلوات حسب أماكنها، ومعرفة تحديد اتجاه القبلة في الحضر والسفر.
فهذه الوسائل -كمثل بسيط- مما استعان بها المسلم وانتفع منها، فهي مشروعة والاستعانة بها واجبة، ولا يمنع من ذلك إلا إذا كانت هذه الوسائل أو إحداها مقيدة بحكم شرعي معلوم في المسألة المراد الاستعانة فيها بهذه الوسائل؛ فالاستعانة بالمراصد الفلكية لتحديد رؤية الهلال لبداية صيام رمضان ونهايته جائزة بل قد تكون واجبة، ولكنها لا تقدم على الرؤية (إذا كانت هذه ممكنة)؛ لأن رسول الله ﷺ قال: (صوموا لرؤيته، وأفطرو لرؤيته…)الحديث([14])، وهكذا في كل أمر فيه تقييد للوسيلة أو النازلة، وهذا من النادر، لأن كل وسيلة علمية معاصرة تفيد المسلم في أداء عبادته، ومختلف حياته تعد مشروعة، بناء على أن الأصل في الأشياء الإباحة.
وأساس هذه القاعدة أحكام كثيرة من كتاب الله وسنة رسوله محمد ﷺ:
أما الكتاب: فمنه قوله -عز وجل-: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]، فمع أن هذه الآية جاءت في معرض الدلالة على قدرة الله، إلا أنها دليل على منته ورحمته لخلقه بتسخير ما في الأرض لهم، سواء كان ذلك في مجال المطعومات أو المشروبات أو في مجال الانتفاع أو الاستمتاع أو الاستشفاء ونحو ذلك، فكل ما سخره الله لعباده مباح لهم، ولا يمنع من ذلك إلا ما حرمه، أو حرمه رسوله عليهم بحكم، كالتداوي مثلًا بالخمر ونحوها.
ومن هذه الآيات قول الله -عز ذكره-: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ} [البقرة: 31]، وهذا التعليم يشمل أسماء الإنسان والنبات والماء والحيوان وسائر الموجودات والكائنات، سواء ما كان منها وما يكون، وتعليم الله لآدم تعليم لذريته من بعده، وهذا التعليم يقتضي أن كل علم علمه الإنسان في ماضيه أو حاضره، أو سيعلمه في مستقبله، إنما هو من علم الله له، وليس في هذا عجب؛ لأنه -عز وجل- هو الذي خلق هذا الإنسان وخلق فيه العقل، وهذا العقل وسيلة للعلم إلى جانب الوسائل الأخرى من السمع والبصر ومختلف الحواس ودلائلها، وشاهده أيضًا قوله -عز وجل-: {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم} [العلق: 5]، وتقرير الله لهذه الحقيقة تقرير لآدم وذريته، وتقرير للملائكة حين قالوا على سبيل الاستفهام: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء} [البقرة: 30]، فأجابهم: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُون} [البقرة: 30]، فاختص وحده بالعلم، فهو -عز وجل- العليم في ذاته العلية، وهو المعلم لخلقه أنى كانوا في مختلف أحوالهم، وتكرر أزمنتهم وأمكنتهم، ومن الآيات قول الله -عز ذكره-: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلا} [الإسراء: 85]، ومع أن هذه الآية جاءت بعد الرد على اليهود بأن أمر الروح من عند الله وحده، كما قال -عز وجل-: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}، فقد بين -جل ثناؤه- أن العلم كله له وحده، وأن ما أوتي الإنسان من العلم يعد قليلًا في كمه أو كيفه؛ فاقتضى هذا أن علم الإنسان يستمده حكمًا من الله، وهذا الاستمداد يتتابع حسب أحوال الزمان وعمل الإنسان، فإذا كانت القيافة في الماضي دليلًا على معرفة شبه الإنسان، فإن الحمض النووي القائم على كشف الصفة الوراثية بين الولد ووالديه دليل على هذا الشبه، والفارق بينهما في الزمن فحسب، فكل منهما من علم الله للإنسان حسب زمانه وعلمه وتطور حياته.
ومن الآيات الدالة على أن الأصل في الأشياء الإباحة قول الله -عز وجل-: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} الأعراف: 32]، وفي هذا إنكار على من يحرم شيئًا لم يحرمه الله؛ فكل زينة يتزيَّنُ بها الإنسان في مظهره أو في مختلف أحواله، وأيًّا كان اسمها أو صفتها تعد حلالًا له، ما لم يدل الدليل على تحريمها، كلبس الذهب للرجال مثلًا، ومن الآيات قول الله -عز وجل-: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون} [الجاثية: 13]، وهذه أيضًا منة من الله على عباده بأن سخر لهم (أي ذلَّل وسَهَّل لهم) ما في السموات وما في الأرض؛ فمن السماء رزقهم كما قال -عز وجل-: {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُون} [الذاريات: 22]، وقد فسره ابن عباس بأنه المطر([15])، وسخر لهم ما في الأرض، وهذا يقتضي أن كل شيء في الأرض ينفعهم في حياتهم، سواء في طعامهم أو شرابهم أو سكنهم أو استشفائهم، وغير ذلك من أمور حياتهم مباح لهم، ولا يمنعهم من هذا الانتفاع إلا ما حرمه عليهم وفصَّله لهم، كما قال -عز وجل-: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الانعام: 119]، ومع ذلك استثنى من هذا التحريم ما تدعو إليه ضرورتهم فقال: {إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الانعام: 119]، وهذا أيضًا رحمة منه لعباده، وما هذه الأحكام إلا آيات لقوم يتفكرون في منته على عباده ورحمته لهم: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون} [الجاثية: 13].
ومن الآيات الدالة على أن الأصل في الأشياء الإباحة نهي الله عن السؤال فيما عفا عنه أو سكت عنه، كما قال -عز وجل-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101].
وكما أن هذه القاعدة في الكتاب فهي أيضًا أصل في السنة، فقد كان رسول الله ﷺ يكره السؤال فيما لم تكن له حاجة؛ خشية أن تفرض على أمته أحكام تعجز عنها، ففي هذا روى أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: خطبنا رسول الله ﷺ فقال: أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله ﷺ: (لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم) ثم قال: (ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه)([16]).
كما روى المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: «إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعًا وهات، وكره ثلاثًا: قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال»([17]). قال الإمام القرطبي في (كثرة السؤال) الكثير من السؤال في المسائل الفقهية تنطعًا وتكلفًا فيما لم ينزل، والأغلوطات وتشقيق المولدات، وقد كان السلف يكرهون ذلك، ويرونه من التكلف.
كما روى سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: (إن أعظم المسلمين جرمًا من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته)([18])، كما روى سلمان الفارسي -رضي الله عنه- قال: سئل رسول الله ﷺ عن شيء من السمن والجبن والفِراء، فقال: (الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه)([19]).
ففي هذه الأحاديث دليل على أن حكمة الله اقتضت أن الأصل في الأشياء الإباحة؛ لعلم الله بأحوال عباده، وأن ما حرم عليهم قد فصل لهم في كتابه، وعلى لسان رسوله، فما عليهم إلا أن ينتفعوا بما سخر لهم في الحياة الدنيا، ولا يمنعهم من ذلك إلا ما حرم عليهم مما هو مفصل ومبين لهم -كما ذكر-.
وكما في الكتاب والسنة بأن الأصل في الأشياء الإباحة، قال بذلك جمع من الفقهاء.
ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: الأصل في الأشياء الإباحة عند بعض أصحاب المذهب([20]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: الأصل في الأشياء الإباحة، حتى يدل الدليل على التحريم؛ استدلالًا بالأحاديث السابقة([21]).
وفي مذهب الإمام أحمد: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (اعلم أن الأصل في جميع الأعيان الموجودة على اختلاف أصنافها وتباين أوصافها: أن تكون حلالًا مطلقًا للآدميين، وأن تكون طاهرة لا يحرم عليهم ملابستها ومباشرتها ومماستها. وهذه كلمة جامعة ومقالة عامة، وقضية فاضلة عظيمة المنفعة، واسعة البركة، يفزع إليها حملة الشريعة فيما لا يحصى من الأعمال وحوادث الناس). وقد أشار -رحمه الله- إلى أنه دل عليها أدلة عدة من الشريعة، هي: كتاب الله، وسنة رسوله، واتباع سبيل المؤمنين… ثم مسالك القياس والاعتبار، ومناهج الرأي والاستبصار([22]).
وخلاصة المسألة: أن الحمض النووي DNA وكذا الوسائل العلمية المعاصرة مما يجب الاستعانة بها فيما يهم المسلم في حياته، سواء في إثبات النسب أو نفيه أو في إثبات الجرائم ونحو ذلك من نوازل العصر، مما لم يرد فيه نص يدل على التحريم؛ وذلك بناء على قاعدة أن الأصل في الأشياء الإباحة المبنية على كتاب الله وسنة رسوله محمد ﷺ.
والله تعالى أعلم.
([1]) زوجة رسول الله ﷺ وهي سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس من لؤي من قريش، إحدى زوجات النبي ﷺ، كانت في الجاهلية زوجة السكران بن عمرو بن عبد شمس، وأسلمت ثم أسلم زوجها وهاجرا إلى الحبشة في الهجرة الثانية، ثم عادا إلى مكة. فتوفى السكران، فتزوجها النبي ﷺ بعد خديجة -رضي الله عنها- وتوفيت في المدينة، طبقات ابن سعد ج8 ص35.
([2]) أخرجه البخاري في كتاب البيوع باب تفسير المشبهات فتح الباري ج4 ص342 برقم (2053).
([3]) الفروق للقرافي ج4 ص 99 ومواهب الجليل ج5 ص247.
([4]) نهاية المحتاج للرملي ج8 ص375 ومغني المحتاج للشربيني ج 4 ص489.
([5]) المغني لابن قدامة ج7 ص483 ومنتهى الإرادات للبهوتي ج3 ص224.
([6]) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم صلوات الله عليه برقم (3328).
([7]) هو مجزز الدلجي القائف، وهو مجزز بن الأعور بن صعدة بن مدلج الكناني المدلجي، وإنما قيل له: مجزز لأنه كان كلما أسر أسيرًا جز ناصيته. أسد الغابة ج5 ص61.
([8]) أخرجه البخاري في كتاب الفرائض، باب القايف برقم (6770).
([10]) المبسوط للسرخسي ج17 ص70.
([11]) أخرجه البخاري في كتاب الطلاق، باب إذا عرض بنفي الولد برقم (5305).
([12]) رمى هلال بن أمية امرأته بابن عمه شريك بن سحماء، وأنها حبلى، قال: فأرسل رسول الله ﷺ إلى الخليل والمرأة والزوج، فاجتمعوا عنده، فقال النبي ﷺ لزوجها هلال: «ويحك ما تقول في بنت عمك وابن عمك وخليلك أن تقذفها ببهتان؟» فقال الزوج: أقسم بالله يا رسول الله لقد رأيته معها على بطنها، وإنها لحبلى، وما قربتها منذ أربعة أشهر، فقال النبي ﷺ، للمرأة: ويحك ما يقول زوجك؟ قالت: أحلف بالله إنه لكاذب وما رأى منا شيئًا يريبه، وذكر كلامًا طويلًا في الإنكار، فقال النبي ﷺ للخليل: ويحك ما يقول ابن عمك؟ فقال: أقسم بالله ما رأى ما يقول وإنه لمن الكاذبين، وذكر كلامًا طويلًا في الإنكار، قال فقال النبي ﷺ للمرأة والزوج: قوما فاحلفا بالله، فقاما عند المنبر في دبر صلاة العصر، فحلف زوجها هلال بن أمية، فقال: أشهد بالله إني لمن الصادقين، فذكر لعانه وصفة لعانها، وذكر في لعان الزوج إنها لحبلى من غيري، وإني لمن الصادقين، ثم لم يذكر أنه أحلف شريكًا، وإنما ذكر قول النبي ﷺ إذا ولدت فأتوني به، فولدت غلامًا أسود جعدًا كأنه من الحبشة، فلما أن نظر إليه فرأى شبهه بشريك، وكان ابن حبشية، قال: «لولا ما مضى من الأيمان لكان لي فيها أمر». يعني الرجم، السنن الكبرى للبيهقي ج7 ص407، قال الزيلعي في تخريج الكشاف، (٢/٤٢٠): غريب بهذا السياق وفيه تخليط.
([13]) ينظر في مسألة الحمض النووي: أثر التقنية الحديثة في الخلاف الفقهي للدكتور هشام آل الشيخ ص709 وما بعدها، طبع مكتبة الرشد بالرياض. وكتاب القضاء بالقرائن المعاصرة للدكتور عبد الله العجلان ج1 ص373 وما بعدها. طبع عمادة البحث العلمي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، وقراءات خاصة.
([14]) أخرجه البخاري في كتاب الصيام باب قول النبي ﷺ: (إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا) برقم (1909).
([15]) تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج4 ص236.
([16]) أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر صحيح مسلم بشرح النووي ج6 ص3612، رقمه (1337).
([17]) أخرجه البخاري، (٥٩٧٥)، وأخرجه مسلم (٥٩٣) باختلاف يسير، وأخرجه الإمام أحمد في المسند -4 2255.
([18]) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه برقم (7289)
([19]) أخرجه الترمذي في كتاب اللباس، باب ما جاء في لبس الفراء برقم (1726)، حسنه الألباني في صحيح الجامع، (٣١٩٥).
([20]) الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة لابن نجيم ص66.