سؤال من الأخ: رشيد، من الجزائر، يقول: هل النِّيَّة عليها مَدار كلِّ الأعمال مِن العبادات والعادات، أو إنها خاصَّةٌ بالعبادات فقط؟

النِّيَّة في الأعمال

الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على رسوله الأمين محمَّدٍ، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فالنِّيَّة أساسٌ في العمل فيما مَناطه عبادة الله أوَّلًا والعلاقة مع عباده ثانيًا، فما مناطه عبادة الله؛ فالعمل يجب أن يكون في طاعته وحده، من غير تحريف ولا تبديل ولا تعديل، وهذه الطَّاعة يجب أن تكون خالصةً له وحده لا يشوبها شائبةٌ، ولا يخالطها رَيْبٌ، فالصلاة مثلًا يجب أن تكون في قيامها وركوعها وسجودها مبنيَّةٌ على النِّيَّة أنها لله وحده، لا يُبتغَى الأجر عليها إلا مِنْهُ، فإن انصرف ذِهْنُ العبد فخَلَطَ مع صلاته نِيَّةً أخرى تحوَّل عملُه إلى رياء، والرِّياء شركٌ، وهكذا في كلِّ عملٍ آخر في علاقة العبد مع رَبِّه، والأصل في هذا قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إِنَّما الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ، وإِنَّما لِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوَى، فمَنْ كانت هِجْرَتُهُ إلى دُنْيا يُصِيبُها، أو إلى امْرَأَةٍ يَنْكِحُها، فَهِجْرَتُهُ إلى ما هاجَرَ إِلَيْهِ))([1]).

إنَّ المشركين كانوا يُقِرُّون بربوبيَّة الله، وأنه هو الذي خلقهم وهو الذي يرزقهم، ولكنَّهم أفسدوا عملهم حين عبدوا معه وَثَنًا أو صَنَمًا، فلم يكن لهم حينئذٍ نيَّةٌ صادقةٌ، فلم ينفعهم عملهم، ولم يُغْنِ عنهم شيئًا، وهكذا في كلِّ عمل في علاقة العبد مع ربِّه.

وكما تكون النِّيَّة باللفظ تكون بالقلب، وهذا مصدرٌ لامتحان العبد في علاقته مع ربِّه، فالمنافقون كانوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتكلَّمون في الدِّين ويُظهِرون ولاءَهم وطاعتهم له -عليه الصَّلاة والسَّلام- ولكنَّهم كانوا على النَّقِيض من ذلك، فكشف الله سرائرهم بقوله -تعالى-: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة: 8-9]. ولَمَّا كثروا في المدينة أنزل الله -تعالى- على رسوله ﷺ ما هم عليه من النِّفاق، فقال -عزَّ ذكره-: ﴿يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: 64].

وفساد نِيَّة العبد مع ربِّه يُعَدُّ كفرًا بل من أشدِّ الكفر؛ لما فيه من مخادعة الله والاستهزاء بآياته ورسوله، والفساد في الأرض، فلما جاء المنافقون يعتذرون عن صنيعهم، أنزل الله فيهم قوله تعالى: ﴿لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ [التوبة: 66]، وهذا الفساد في النِّيَّة جعل المنافقين في الدَّرْك الأسفل من العذاب يقول تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا﴾ [النساء: 145].

فاقتضَى ما ذُكِر أن نِيَّة العبد مع ربِّه في عبادته أساسٌ في هذه العبادة فإن كانت خالصةً صادقةً تحقَّق له رِضَا الله، وإن كانت على خلاف ذلك تعرَّض لسخط الله وغضبه، ففي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إنَّ أوَّل النَّاس يُقْضَى يومَ القيامةِ عليه رجلٌ اسْتُشْهِدَ، فأُتِيَ بهِ، فعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فعَرَفَها، قال: فما عمِلْتَ فيها؟ قال: قاتَلْتُ فِيكَ حتى اسْتُشْهِدْتُ، قال: كذبْتَ، ولكنَّكَ قاتَلْتَ لِيُقالَ جِريءٌ، فقد قِيلَ، ثمَّ أُمِرَ بهِ فسُحِبَ على وجْهِهِ حتى أُلْقِيَ في النَّار، ورجلٌ تعلَّمَ العِلْم وعلَّمَه، وقرأ القرآن، فأُتِيَ به فعَرَّفَهُ نِعمَهُ، فعَرَفَها، قال: فما عمِلْتَ فيها؟ قال: تعلَّمْتُ العِلْمَ وعلَّمْتُهُ، وقَرَأْتُ فِيكَ القرآن، قال: كذبْتَ، ولكنَّكَ تعلَّمْتَ العِلْمَ لِيُقالَ: عالِمٌ، وقرأْتَ القرآن لِيُقالَ: هو قارِئٌ، فقد قِيلَ، ثمَّ أُمِرَ بهِ فسُحِبَ على وجْهِهِ حتى أُلْقِيَ في النَّار، ورجُلٌ وسَّعَ اللهُ عليه، وأعْطاهُ من أصنافِ المالِ كُلِّهِ، فأُتِيَ بهِ فعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فعَرَفَها، قال: فمَا عمِلْتَ فيها؟ قال: ما تركْتُ من سبيلٍ تُحِبُّ أنْ يُنفَقَ فيها إلَّا أنفقْتُ فيها لك، قال: كذبْتَ ولكنَّك فعلْتَ لِيُقال: هو جَوَادٌ، فقدْ قِيلَ، ثمَّ أُمِرَ بهِ فسُحِبَ على وجْهِهِ، ثمَّ أُلْقِيَ في النَّار))([2]).

أما النِّيَّة فيما مناطه علاقة العبد مع عِبادِ الله، فيجب أن تكون على حُسْن هذه العلاقة، سواء مع من يعرفه ومن لا يعرفه، وهذا ما كان عليه السَّلَف الصَّالح من الأمَّة -رحمهم الله-، فعبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- يُضرَب له المثل في ذلك، فلا يَقصِد من الخروج للسُّوق إلا رغبة في السَّلام على من يراه ممن يعرفه ومن لا يعرفه([3])، هذه العلاقة قد تكون مُتَكافِئَةً، فيَتعامل العبدُ مع غيره كما يَتعامل هذا معه، وقد لا تكون مُتَكافِئَةً فيكون الجار سيِّئًا مع جاره فيصبر هذا على أذاه ابتغاء الأجر، وهو ما كان يفعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد كان يمشي وعليه بُرْدٌ نَجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة، حتى أثَّرت حاشيةُ البُرْد على عاتق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد، مر لي من مال الله الذي عندك، فالتَفَتَ إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم ضحك، ثم أمر له بعطاء([4]).

فالحاصل أن النِّيَّة أساسٌ في عمل العبد مع ربِّه ومع عباده، ومدار جميع الأعمال عليها. والله -تعالى- أعلم.

 

([1]) أخرجه البخاري، كتاب: بدء الوحي، باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله، برقم: (1)، (1/6)، ومسلم، كتاب: الإمارة، برقم: (155)، (6/48).

([2]) أخرجه مسلم، كتاب: الإمارة، برقم: (1905)، (6/47).

([3]) أخرجه مالك، كتاب: السلام، ‌‌باب: جامع السلام، برقم: (6)، (2/961)، والبخاري في الأدب المفرد، باب: من خرج يسلم ويسلم عليه، برقم: (1006)، ص: (561)، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد، برقم: (774)، ص: (385-386).

([4]) أخرجه البخاري، كتاب: اللباس، باب: البرود والحبرة والشملة، برقم: (5809)، (7/146)، ومسلم، كتاب: الزكاة، برقم: (1057)، (3/103).