الجواب: ينسب نبي الله عيسى عليه السلام إلى أمه مريم ابنة عمران؛ لأنه ليس له أب تَوَلَّد منه؛ فقد خُلِقَ بـ«كلمة الله» أي بأمره، مثله في ذلك مثل آدم، حين خلقه الله من تراب: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُون} [آل عمران: 95]. وكانت أمه ناسكة متعبدة، فلما حملت به اتهمها اليهود في عرضها، فتوارت عن الأنظار، واعتزلت الناس لما نالها من الضيق بسبب اتهامها رغم عفافها وطهارتها. وقد أخبر الله عن ذلك بقوله تعالى: {فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا} [مريم: ٢٢]. إلى أن جاءها المخاض فولدته في بيت لحم في فلسطين، وكان الضيق والألم النفسي يلازمانها بعد الولادة بسبب اتهامها، كما ذكر الله ذلك في قوله تعالى: {فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا} [مريم: 32].
وقد بيَّن الله لنبيه ورسوله محمد r أن أهل الكتاب غلوا في عيسى؛ فاليهود منهم غلوا في الطعن فيه وأمه، والنصارى غلوا في تعظيمه وتأليهه، وإنزاله غير المنزلة التي أنزله الله إياها، يقول تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: ١٧١].
وهذا يقتضي ثلاثة أحكام: أولها: أن عيسى عبد لله، وفي هذا قال الله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيل} [الزخرف: 95]. والعبودية هنا بمعنى أنه بشر كسائر البشر، يعبد الله، ويوحده بما أنزل إليه. وهذه العبودية تنفي نفيًا قاطعًا كل صفة وصفه بها الغلاة من النصارى؛ فالذين وصفـوه بـ«الابن» أنكر الله ذلك عليهـم بقولـه تعالى: {وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُون} [التوبة: 03]. والذين وصفوه بـ«الألوهية» أنكر الله ذلك عليهم، ونعتهم بالكفر بقوله -عز وجل-: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 27]. ثم حكى الله عن عيسى إنكاره هو عليهم لوصفهم إياه بهذا الوصف، ثم دعاهم إلى عبادة الله وحده، وأن من أشركه هو أو غيره مع الله حرمت عليه الجنة: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار} [المائدة: 27].
والذين وصفوه بـ«الثالوث»([1])، ويعنون بذلك الأب والابن وروح القدس أنكر الله ذلك عليهم بقوله تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} [المائدة: 37]. وقوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلا} [النساء: ١٧١] .
الحكم الثاني: أن عيسى أحد رسل الله، وأساس ذلك قول الله في الآية السابقة {رَسُولُ اللّهِ} وقد تم تأكيد هذا في قوله -عز وجل-: {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ} [المائدة: 57]. ووصفه من قبل الله بالعبودية له، ونعته بالرسالة ينفي أيضًا نفيًا قاطعًا كل صفة وصفه بها غلاة النصارى من الألوهية والبنوة، وغير ذلك من الأوصاف الباطلة.
الحكم الثالث: أن عيسى خلق بـ«كلمة الله» التي أرسل الله بها جبريل إلى مريم، فنفخ فيها من روحه بإذن ربه عز وجل؛ فكانت تلك النفخة التي نفخها في جيب درعها، فنزلت حتى ولجت فرجها بمنزلة لقاح الأب للأم، والجميع مخلوق الله عز وجل، ولهذا قيل لعيسى إنه كلمة الله وروح منه؛ لأنه لم يكن له أب تولد منه، وإنّما هو ناشئ عن الكلمة التي قال له بها كن فكان([2]). وفي هذا قال الله تعالى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِين} [الأنبياء: 19].
وقد أول غلاة النصارى كلمة (من) فجعلوها للتبعيض مما أدى بهم إلى القول بأنه شريك لله لأنه منه، مع أن المقصود (أنه من خلقه) كسائر المخلوقات بدءًا من آدم. وقد فسر الإمام محمد الرازي فخر الدين كلمة (روح) من عدة وجوه: الأول: أن عادة الناس جرت إذا وصفوا شيئًا في غاية الطهارة والنظافة، قالوا: إنه روح، فلما كان عيسى لم يتكون من نطفة الأب، وإنما تكون من نفخة جبريل، وُصِفَ بأنه روح. والمراد من قوله (منه) التشريف والتفضيل، كما يقال هذه نعمة من الله. الثاني: أنه كان سببًا لحياة الخلق في أديانهم، ومن كان كذلك وصف بأنه روح، قال تعالى في وصف القرآن: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 25].
الوجه الثالث: روح منه أي رحمة منه، فقيل في تفسير قوله تعالى: {وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} [المجادلة: ٢٢] أي برحمة منه. وقال عليه الصلاة والسلام: (إنما أنا رحمة مهداة)([3]). فلما كان عيسى رحمة من الله على الخلق، من حيث إنه كان يرشدهم إلى مصالحهم في دينهم ودنياهم، سمي روحًا منه.
الوجه الرابع: أن الروح هو النفخ في كلام العرب، فإن الروح والريح متقاربان؛ فالروح نفخة جبريل، وقوله (منه) يعني أن ذلك النفخ من جبريل كان بأمر الله وإذنه، فهو منه.
الوجه الخامس: قوله (روح) أدخل التنكير في لفظ (روح)، وذلك يفيد التعظيم، فكان المعنى وروح من الأرواح الشريفة القدسية العالية، وقوله (منه) إضافة لذلك الروح إلى نفسه لأجل التشريف والتعظيم([4]).
قلت: وفي إخبار الله عن حال غلاة اليهود والنصارى في نبيهم عيسى، تحذير للأمة من الغلو في نبيها، فليس من إلَه إلا الله وحده، وليس من إلَه يعبد بحق إلا هو، وليس من شفيع يشفع إلا بإذنه، ولهذا حذر رسول الله r أمته من الغلو فيه، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبدالله ورسوله)([5]). ولما قال رجل له عليه الصلاة والسلام: يا سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا، قال : (أيها الناس عليكم بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبدالله ورسوله، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل)([6]).
وخلاصة المسألة: أن عبودية عيسى لله كما وردت في القرآن الكريم تقتضي ثلاثة أحكام:
الحكم الأول: أنه عبد لله، والعبودية هنا بمعنى أنه بشر كسائر البشر، يعبد الله، ويوحده بما أنزل إليه، وفي هذا قال الله -عز وجل: {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيل} [الزخرف: 95]. وهذه العبودية تنفي نفيًا قاطعًا كل صفة وصفه بها الغلاة من النصارى.
الحكم الثاني: أن عيسى أحد رسل الله، ووصفه من قبل الله بالعبودية له ونعته له بالرسالة في كتابه بقوله -عز وجل-: {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ} [المائدة: 57]. ينفي أيضًا نفيًا قاطعًا كل صفة وصفه بها الغلاة من النصارى من الألوهية والنبوة.
الحكم الثالث: أن عيسى خلق بكلمة الله التي أرسل الله بها جبريل إلى مريم، فنفخ فيها من روحه، والمقصود أنه من خلقه كسائر المخلوقات بدءًا من آدم.
وفي إخبار الله عن حال غلاة اليهود والنصارى في نبي الله عيسى، تحذير للأمة من الغلو في نبيها؛ فليس من إلَه إلا إلَه واحد، وليس من إلَه يعبد بحق إلا هو، وليس من شفيع يشفع إلا بإذنه.
([1]) يعتقد النصارى بأنّ الله تعالى ثلاثة أقانيم وهي: الله الأب، والله الابن (الذي هو عيسى ابن مريم في زعمهم)، والله الروح القدس، وأنّهم متساوون من حيث الأزلية، وجوهر الإلَهية والقدرة، ويرجح بعض علماء الأديان أنّ التثليث نشأ في النصرانية على يد بولس المتأثر بالفلسفة الإغريقية. انظر: الملل والنحل لأبي الفتح عبد الكريم الشهرستاني ج٢ ص٥٤٢-٦٤٢، والموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب ج٢ ص٠١٠١.
([2]) تفسير القرآن العظيم للإمام الحافظ ابن كثير ج١ ص٨٥٥.
([3]) أخرجه الدارمي في مقدمة سننه، باب كيف كان أول شأن النبيr، ج١ ص١٢، وروايته مرسلة، وأخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين ج١ ص٥٣، وقال: «صحيح على شرطهما».
([4]) تفسير الفخر الرازي ج١١ ص٧١١-٨١١.
([5]) أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء، باب {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا}، فتح الباري ج٦ ص١٥٥، رقم الحديث (٥٤٤٣).
([6]) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، ج٣ ص٣٥١، قال الألباني في السلسلة الصحيحة (١٠٩٧): إسناده صحيح على شرط مسلم.