سؤال من الأخ/ ح … م المجيني بأن والده أوصى أن يكون أحد المنازل وقفاً بعد وفاته للأولاد وأولاد الأولاد ذكورًا وإناثًا، وقد اشترط أن تكون قيمة المنزل ربع التركة بعد الوفاء بالحقوق، ولما استفتَوْا أحدَ العلماء أفتى ببطلان هذا الوقف، على أساس أنه وصية، ولا وصية لوارث، كما أفتى أن يوزَّعَ هذا المنزل في قسمة الميراث، ويسأل الأخ السائل عن مدى جواز هذا الوقف، وإذا كان جائزًا فكيف يتم تنفيذه؟.

حكم الوقف على الذرية

يتعلق بسؤال الأخ مسألتان، هما: الوقف والوصية:

فالوقف: حبس أصل الموقوف، وتسبيل ثمرته لصالح الموقوف عليه، ومن ذلك: إيصاء الأب بوقف داره على أولاده، على أن يستفيدوا منها كالسكن فيها، مع منع بيعها، أو توريثها، أو هبتها، أو التصرف في رقبتها خلاف الوقف، فالوقف جائز، بل مستحب، والأصل فيه ما روي أن رسول الله -ﷺ- قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)([1])، وما رواه -أيضًا- عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: أصاب عمرُ أرضًا بخيبر، فأتى النبيَّ -ﷺ- يستأمره فيها قائلًا: يا رسول الله! إني أصبت أرضًا بخيبر، لم أصب قط مالًا أنفس عندي منها، فما تأمرني فيها؟، فقال: (إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها غير أنه لا يباع أصلها، ولا يبتاع، ولا يوهب، ولا يورث)، قال عبد الله بن عمر: فتصدق بها عمر في الفقراء، وذوي القربى، والرقاب، وابن السبيل، والضعيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها، أو يطعم صديقًا بالمعروف غير متأثل فيه، أو غير متمول فيه([2]).

قال الترمذي: “والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب رسول الله -ﷺ- وغيرهم، لا نعلم بين المتقدمين منهم في ذلك اختلافًا في إجازة وقف الأرضين وغير ذلك([3]).

وقد أوقف عدد من الصحابة دورهم وأراضيهم وبساتينهم وحوائطهم على أولادهم، يريدون بذلك دفع عوائل الفقر عنهم، مستنِّينَ بقول رسول الله -ﷺ- لسعد بن أبي وقاص لما أراد أن يوقف كل ماله وقفًا عامًّا، أمره ألا يتجاوز في ذلك الثلث بقوله  -عليه الصلاة والسلام-: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)([4]).

وقد درجت الأمة في سلفها وخلفها على الإيصاء بالوقف، وهو على نوعين:

النوع الأول: الوقف العام، كالإيصاء بوقف المساجد والمقابر والسكن للمحتاجين، والسقاية للعابرين، ونحو ذلك مما هو معروف في التاريخ الإسلامي، وكان له أكبر الأثر في التكافل والتعاون.

النوع الثاني: الوقف على الذرية، وهو مدار هذه المسألة، وللفقهاء في جوازه وكيفيته تفصيلات.

ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: أنه لا خلاف في جوازه ما دام الواقف حيًّا، حتى إن من وقف داره أو أرضه يلزمه التصدق بغلة الدار والأرض، ويكون ذلك بمنزلة النذر بالتصدق بالغلة، ولا خلاف -أيضًا-في زوال ملك الرقبة إذا حصل به قضاء القاضي، أو أضافه إلى ما بعد الموت بأن قال: إذا مت فقد جعلت داري أو أرضي وقفًا على كذا، أو قال: هو وقف في حياتي صدقة بعد موتي، وقد انصب الخلاف حول ما إذا كان الوقف يزيل ملك الرقبة إذا لم توجد الإضافة إلى ما بعد الموت، ولا اتصل به حكم حاكم، فالإمام أبو حنيفة يرى أنه لا يزيل ملك الواقف، فيمكن له بيع الموقوف وهبته ما لم يكن سقايةً أو مسجدًا، وإذا مات يصير ميراثًا لورثته، وخالف في ذلك صاحباه وعامة العلماء، فقالوا: إنه لا يوهب، ولا يورث، ولا يباع([5]).

وفي مذهب الإمام مالك: الوقف صحيح لازم، لا يتطلب لزومه حكم حاكم به؛ استدلالًا بفعل رسول الله -ﷺ-، وإجماع الصحابة من بعده من غير خلاف، واستدلالًا -أيضًا- بقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في أرضه في خيبر: “صدقة لا تباع، ولا توهب، ولا تورث”؛ مما يقتضي تأبيد الوقف، وانتفاء رجوع الواقف فيه([6]).

وفي مذهب الإمام الشافعي: أن الوقف صحيح لازم؛ استدلالًا بوقف عمر لأرضه، وفي المذهب: يرجع في الوقف إلى شرط الواقف، فإذا وقف على أولاده -وكانوا موجودين-، ثم على الفقراء، صح الوقف إن كان في الصحة، وبطل على أولاده إن كان في مرض الموت؛ لأنهم ورثة([7]).

وفي مذهب الإمام أحمد: جواز الوقف واستحبابه، فإذا صح زال به ملك الواقف عنه؛ لأنه سبب يزيل التصرف في الرقبة والمنفعة، فأزال الملك، وإذا قيل ببقاء ملكه لزمته مراعاته، والخصومة فيه، ومن ألفاظ الوقف: وقفت، وحبست، وسبلت([8]).

قلت: هذا هو الوقف بإيجاز، أما الوصية فهي: التبرع بالمال بعد الموت، والأصل فيها من القرآن قول الله -تعالى-: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180]، وأما السنة فحديث سعد بن أبي وقاص المتقدم ذكره، وقول رسول الله -ﷺ-له: (الثلث، والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)([9]).

ولا تجب الوصية إلا على من عليه دين، أو عنده وديعة، أو عليه واجب يوصي بالخروج منه، أما الوصية بجزء من المال فليست بواجبة، وإن فعلها فهو خير، ونقل الإمام ابن قدامة قول ابن عبد البر: “إن العلماء أجمعوا على أن الوصية غير واجبة إلا من عليه حقوق بغير بينة، وأمانة بغير إشهاد، وقد شذت عن هذا طائفة([10]).

وفي الوصية مسألة مهمة، هي: عدم جواز تفضيل بعض الورثة على بعض؛ لما رواه أبو أمامة أن رسول الله -ﷺ- قال: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث)([11])، والأساس في هذا: أن الله قد حكم بقسمة الميراث بين مستحقيه، فلا يجوز إذًا لمورِّثٍ مخالفةُ هذا الحكم، ناهيك أنه لا يجوز للمورث في حياته تفضيل بعض ولده على بعض، سواءٌ أكان في الهبة أم في العطية أم في نحوهما؛ لما رواه النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- بقوله: أعطاني أبي عطية، فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تُشْهد رسول الله -ﷺ-، فأتى رسول الله -ﷺ-، فقال: إني أعطيتُ ابني من عمرة بنت رواحة عطية، فأمرتْني أن أُشهدك يا رسول الله!، قال: (أعطيتَ سائرَ ولدك مثل هذا)؟، قال: لا، قال: (فاتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم)، قال: فرجع، فرد عطيته([12])، وفي لفظ آخر: قال رسول الله -ﷺ-: (لا تشهدني على جور)([13]).

فإذا كان النهي عن التفضيل في حال الحياة فهو بعد الموت أشد وآكد؛ لما ينتج منه في كلتا الحالتين من العداوة والبغضاء والقطيعة بين الورثة.

قلت: هذا من حيث العموم في المسألة عن الوقف والوصية، أما سؤال الأخ السائل فلا نعرف على وجه اليقين نص وصية والده، ولكن الذي يظهر من السؤال أن تصرف والده ليس وصية؛ لأن قوله: “أن يكون وقفًا” يدل على وقف داره لأولاده، فلا تنطبق عليه إذًا أحكام الوصية، بل تنطبق عليه أحكام الوقف، ولا يظهر أن فيه تفضيلًا لبعض ولده على بعض، بل إنه أوقف وقفًا مطلقًا عليهم وعلى أولادهم، ذكورهم وإناثهم، فيجري هذا الوقف على إطلاقه، ولا يجوز إبطاله.

أما سؤال الأخ السائل عن كيفية تنفيذ هذا الوقف، فلا ندري ما نص الواقف؟؛ لأن هذا النص شرط في تنفيذ الوقف، والاحتمال أن الواقف أراد تسبيل المنزل المذكور لمنفعة أولاده وأولادهم؛ لدفع غائلة الحاجة عنهم، فيسكنه الولد المحتاج، وتسكنه البنت غير المتزوجة، وتسكنه البنت المطلقة، وقد يكون المورث قد أراد بوقفه هذا جمع أولاده في هذا المنزل؛ ليكون أدعى لقربهم وتواصلهم مع بعضهم، فالعبرة بما ذكره في وصيته.

من هنا يمكن للأخ السائل أن يعرض وصية والده على القضاء في بلاده، أو على أحد العلماء الثقات؛ حتى يكون على بصيرة في تنفيذ وقف والده.

وخلاصة المسألة: أن المراد من الوقف حبس أصل الموقوف، وتسبيل منفعته، وهو على نوعين: الوقف العام، كالإيصاء بوقف المساجد والمقابر ومساقي الشرب، والوقف على الذرية مدار هذه المسألة، وهو جائز، بل مستحب، ومن ألفاظه: وقفت، وحبست، وسبلت.

أما الوصية فهي التبرع بالمال بعد الموت، ولا تجب إلا على من كان عليه دين، أو عنده وديعة، أو عليه واجب يوصي بالخروج منه، وفي الوصية مسألة مهمة هي عدم جواز تفضيل بعض الورثة على بعض؛ لقول رسول الله -ﷺ-: (لا وصية لوارث).

هذا من حيث العموم، أما سؤال الأخ السائل فلا نعرف على وجه اليقين نص وصية والده، ولكن الذي يظهر من السؤال أن ما فعله والده يعد وقفًا؛ لأن قوله: “أن يكون وقفًا” يدل على أن هذا التصرف ليس بوصية، فلا تنطبق عليه أحكامها، بل تنطبق عليه أحكام الوقف، ولا يدخل في حكم الوصية لوارث لانتفاء حكم الوصية فيه.

أما السؤال عن كيفية تنفيذ هذا الوقف فلا ندري: ما نص الواقف؟؛ لأن هذا النص شرط في تنفيذ الوقف، وهنا ينبغي للأخ السائل أن يعرض وصية والده على القضاء في بلاده، أو على أحد العلماء الثقات؛ حتى يكون على بصيرة في تنفيذها.

والله أعلم.

 

([1]) أخرجه مسلم في كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم، ج5 ص610-611، برقم (163).

([2]) أخرجه مسلم في كتاب الوصية، باب الوقف، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم، ج5 ص613-618، برقم (1632)، وأخرجه البخاري في كتاب الشروط، باب الشروط في الوقف، فتح الباري، ج5 ص418، برقم (2737).

([3]) سنن الترمذي، ج3 ص660، برقم (1375).

([4]) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب رثاء النبي-ﷺ-سعد بن خولة، فتح الباري، ج3 ص196، برقم (1295)، وأخرجه مسلم في كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم للأبي، ج5 ص599-602، برقم (1628).

([5]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني، ج6 ص218-219.

([6]) المعونة على مذهب عالم المدينة للبغدادي، ج3 ص1591-1593.

([7]) الأم، ج4 ص59-61، والحاوي الكبير للماوردي، ج9 ص390.

([8]) المغني، لابن قدامة، ج8 ص189.

([9]) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب رثاء النبي-ﷺ-سعد بن خولة، فتح الباري، ج3 ص196، برقم (1295)، وأخرجه مسلم في كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم للأبي، ج5 ص599-602، برقم (1628).

([10]) المغني، ج8 ص391.

([11]) أخرجه أبو داود في كتاب الوصايا، باب ما جاء في الوصية للوارث، سنن أبي داود، ج3 ص114، برقم (2870)، صححه الألباني في صحيح الجامع، (١٧٨٨).

([12]) أخرجه البخاري في كتاب الهبة، باب الإشهاد في الهبة، فتح الباري، ج ص250، برقم (2587).

([13]) أخرجه البخاري في كتاب الشهادات، باب “لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد”، فتح الباري، ج5 ص306، برقم (2650).